سبعة أفلام فقط خلال أكثر من ربع قرن، وفواصل بين الفيلم والتالي له تصل إلى ما يزيد عن 10 سنوات، لكن بالرغم من قلة أعماله بهذه الصورة فإن اسمه بات معروفًا لمتابعي السينما، الذين ينتظرون أعماله عادةً واثقين أنهم في كل مرة سيتابعون شيئًا يستحق الانتظار، طالما أن العمل يحمل اسم طارق العريان.
بعد عامين من تقديم فيلمه المميز «ولاد رزق»، الذي حقق نجاحًا على كل المستويات، يعود طارق العريان في 2017 لتقديم أحدث أفلامه «الخلية»، ويكرر فيه التعاون مع السيناريست صلاح الجهيني والممثل أحمد عز، ويعود إلى الشكل السينمائي الذي يفضله: الأكشن.
ربما لم يكن الفيلم على مستوى سابقه، الذي كان مفاجأة سارة حتى لأكثر المتفائلين، لكن من الصعب في الوقت ذاته عدم الاستمتاع بـ«الخلية»، ويرجع هذا إلى الطريقة التي يصنع بها العريان أفلامه، والتي تجعلها مهما اختلفت وتنوعت تُظهر أن وراءها «صنايعي» سينمائي محب لهذا الفن، ويدرك جيدًا كيف يصنع فيلمًا مُرضيًا للجمهور دون تنازل عن الجودة الفنية.
العريان أمريكيًّا
تسبق أعمال العريان عادةً الأفلام المعاصرة لها في طريقة التنفيذ، منذ أول أفلامه «الإمبراطور» عام 1990 حتى «الخلية» في 2017.
تواجه أفلام طارق العريان عادةً تهمة أنها أمريكية الطابع، فالمخرج الذي درس الإخراج في الولايات المتحدة يقدم أنماطًا ومستويات اجتماعية غير معتادة أو سائدة في المجتمع المصري، لكن بنظرة أخرى إلى أفلامه، يمكن أن نجد أن لها جانبين من الشكل الأمريكي، يكتفي معظم من ينسبون هذا الأمر إليه بتغطية أحدهما فقط.
الجانب الأول، والأكثر وضوحًا، هو الخاص بالشخصيات والمستويات الاجتماعية وبعض الحبكات التي يقدمها العريان في أفلامه. الفيلم الأبرز في هذه الحالة هو «السلم والثعبان»، وبالعودة إلى عام عرض الفيلم في 2001، لم تكن فكرة وكالات الإعلان والأفراح في الهواء الطلق، وحتى دروس التانجو، من الأشياء السائدة في المجتمع أو على الأقل على شاشات السينما المصرية.
نحن نتحدث عن سنوات قليلة بعد ثورة «إسماعيلية رايح جاي»، الذي جاءت الغلبة من بعده للكوميديا أولًا، بينما البطل عادةً شخص عادي من طبقة متوسطة، وهكذا كان شكل شخصيات «السلم والثعبان» غير مألوف.
لكن ليس على مستوى خلفيات الشخصيات فقط، بل حتى على مستوى مشاهد بعينها، سنجد الملامح الأمريكية تطل بوضوح خصوصًا في مشاهد الأكشن، مثل مشاهد السرقة في «ولاد رزق»، سواء من حيث الفكرة أو طريقة التصوير وقطعات المونتاج، ويمكن مقارنة هذه المشاهد بأفلام هوليوود.
الجانب الآخر الذي لا يُشار إليه عادةً هو التأثر بالسينما الأمريكية في تقنيات الصناعة والإبهار عمومًا، وهكذا نجد أن أفلام طارق العريان يمكن الاختلاف على جودة مستواها الفني، مثلما حدث مع «الخلية»، لكن من الصعب عدم الاستمتاع بتفاصيلها وطريقة صناعتها، بخاصة مستوى التطور في كل فيلم في استخدام التقنيات الأحدث في التصوير وتنفيذ مشاهد الأكشن.
منذ أول أفلامه «الإمبراطور» عام 1990 حتى «الخلية»، سنجد أن أعمال العريان تسبق الأفلام المعاصرة لها في طريقة التنفيذ، ويمكن التوقف عند مشاهد مطاردات السيارات في فيلمه الثاني «الباشا» عام 1993، التي تُعَد من أفضل مشاهد هذا النوع تنفيذًا وتصويرًا في السينما المصرية في ذلك الوقت.
يمكن القول إن فكرة الهوى «الأمريكي» لدى طارق العريان ليست تقليدًا للأفلام الأمريكية أو لحبكاتها وشخوصها، بقدر ما هي تأثر بطريقة الصناعة نفسها.
قد يهمك أيضًا: 4 مخرجين بمثابة مدارس سينمائية مستقلة
طارق العريان مرَّ من هنا
رغم ما ذكرناه في الفقرة السابقة، فإن أفلام طارق العريان هي الأكثر حفاظًا على فكرة المكان وحضوره، وبالمكان هنا نعني القاهرة بتفاصيلها.
فكرة تجسيد المكان وإعطاؤه بُعدًا وحضورًا أسلوب معروف لدى عدد من المخرجين، أشهرهم في السينما الأمريكية «وودي آلِن»، الذي يختار مدينة نيويورك في العادة مسرحًا لأحداث أفلامه، بينما يبقى المثال الأقوى في السينما المصرية الراحل محمد خان، الذي كان يربط القاهرة كمدينة بأبطاله، ويكثف من حضور المكان بتفاصيله في المشاهد، ليصبح المكان أحد أبطال العمل.
ربما لا يصل المكان إلى هذه الدرجة من الارتباط بالشخصيات في أفلام طارق العريان، لكنه يكون حاضرًا بقوة، نتيجةً لاختياره أماكن التصوير بعناية واهتمامه بإظهار تفاصيلها لربط المُشاهد بالحدث بشكل أكبر.
في فيلمه الأحدث «الخلية»، يختار العريان منطقة وسط البلد مسرحًا للأحداث، بل يصوِّر في شوارع معروفة لمرتادي وعشاق وسط البلد، مثل شارع عبد الحميد سعيد الذي تقع فيه سينما أوديون، والذي جرت فيه أحداث مراقبة ومطاردة زعيم الخلية الإرهابية، بالإضافة إلى شقة البطل المطلة على تمثال مصطفى كامل الشهير.
كان الحضور الأهم في الفيلم لمترو الأنفاق في الثلث ساعة الأخيرة. المواصلات العامة والقطارات تحديدًا مادة خصبة لتنفيذ مشاهد الأكشن، وفيلم «Speed» أحد أشهر الأمثلة على ذلك. يُضاف إلى هذا ارتباط المواصلات بالحياة اليومية، مما يزيد من قيمة تأثيرها في المشاهد.
صوَّر العريان في واحدة من أهم وأكثر محطات مترو الأنفاق في مصر استخدامًا، محطة «الشهداء» في منطقة رمسيس. لن نتحدث عن صعوبة التصوير هناك بسبب امتلاء المحيط الخارجي للمحطة، والمحطة نفسها، بمئات الأشخاص طوال الوقت، لكن المهم اختيار المكان نفسه وتأثيره داخل الأحداث.
كان من السهل وضع القنبلة في أي مكان آخر مليء بالناس كما يمكن أن يحدث في أي فيلم آخر، أو حتى ذكر أن القنبلة في المترو دون تحديد محطة بعينها، لكن هذا الاختيار الواضح، والتصوير داخل الأماكن الحقيقية، منح الأحداث تأثيرًا ومتعة أكبر لدى المشاهد.
يُضاف إلى التأثير أن العريان بهذه المشاهد وثَّق جانبًا من ملامح القاهرة، كما فعل في فيلمه «الباشا» عام 1993، الذي كانت تتراته تظهر مع مشاهد مختلفة من العاصمة.
اقرأ أيضًا: شارلي شابلن: الصعلوك الذي وضع قواعد السينما ثم كسرها
من الجريمة إلى الرومانسية
فضَّل العريان أجواء الحركة والعصابات في فيلميه الأولين «الإمبراطور» و«الباشا»، لكنه انتقل إلى الرومانسية في فيلمه الثالث «السلم والثعبان»، الذي شارك أيضًا في كتابة السيناريو الخاص به، قبل أن يعود لاحقًا إلى أجواء العصابات والحركة التي يفضلها.
لا يكتفي العريان بالإخراج فقط، بل شارك في كتابة القصة أو الفكرة في أربعة من أفلامه السبع هي «الباشا» و«السلم والثعبان» و«تيتو» و«الخلية»، ويختار بعناية المؤلفين الذين يتعامل معهم.
اقرأ أيضًا: «شيخ جاكسون» والأوسكار: نصف قرن من أوهام السينما المصرية
ومثلما بدأ الإخراج مع سيناريست له عدد من الأعمال المهمة هو فايز غالي، اهتم بدوره بالعمل مع المؤلفين في خطواتهم الأولى بدايةً من عمله الثالث، وقد ضمن له هذا طابعًا جديدًا ومختلفًا في حوارات أفلامه، يتغير باستمرار، ويعاصر دائمًا الجيل الشاب الذي يذهب إلى السينما.
«السلم والثعبان» كان أول أعمال السيناريست محمد حفظي على الإطلاق، بينما كان «ولاد رزق» العمل الثاني للسيناريست صلاح الجهيني، ويمكن بسهولة ملاحظة اختلاف الأسلوب بين الجهيني وحفظي، إلا أن طارق العريان استطاع الاستفادة من كليهما.
هكذا نجد أن حفظي تعاون معه في ثلاثة أفلام، بدأها بالرومانسية في «السلم والثعبان»، ثم انتقل إلى الجريمة والعصابات في «تيتو»، وأخيرًا جاء التشويق مع «أسوار القمر». ولم يمنعه النجاح مع حفظي من الانتقال إلى الجهيني مع أجواء أفلام العصابات والجريمة مرة أخرى في «ولاد رزق»، ثم الأكشن البحت في «الخلية».
هذا التنوع والانتقال بين أكثر من مؤلف، بجانب التجديد في الأفكار، أتاح للعريان العودة إلى نفس الجنس السينمائي المفضل له، وهو الحركة والعصابات، دون الوقوع في فخ التكرار.
«المنتج» طارق العريان
التأليف والإخراج ليسا فقط ما يجيده طارق العريان، فقد ورث عن والده حس الإنتاج أيضًا، إذ أنتج رياض العريان فيلمي طارق الأولين، بينما أنتج طارق لنفسه «السلم والثعبان» و«ولاد رزق» و«الخلية».
يعي طارق العريان جيدًا كيف يُخرج من الفريق الذي يعمل معه أفضل ما يمكن.
في 2017، شاهدنا فيلم «هروب اضطراري» يجمع إيرادات غير مسبوقة في السينما المصرية، بجانب كونه أحد أفضل أفلام الأكشن على مستوى التنفيذ والخدع في السنوات الأخيرة، لكن هذا كان قبل عرض «الخلية».
احتفظ الأول بالإيرادات الأعلى، لكن الثاني تفوق بشكل ملحوظ على مستوى التنفيذ، خصوصًا مشاهد الأكشن، وامتد هذا إلى جودة الصورة التي يمكن ملاحظتها منذ أولى مشاهد الفيلم، وإن لم يكن على القدر المطلوب في ما يتعلق بالخدع المنفذة بالكمبيوتر.
هكذا نجد أن العريان «منتج شاطر» بلغة السوق، يدرك كيف ينفق أمواله، ويثق في أنه سيستردها مع كثير من الأرباح.
قد يعجبك أيضًا: السينما الروسية: مخرجون أعادوا تعريف «الأفلام»
بصمة طارق العريان
كصانع أفلام، يعي طارق العريان جيدًا كيف يُخرج من الفريق الذي يعمل معه أفضل ما يمكن، ولمشاهدة هذا سنقف عند عنصرين:
1. الأدوار الثانية
يكفي أن نعرف أن طارق العريان أول من قدم محمود حميدة بشكل حقيقي، إذ كان «الإمبراطور» أول فيلم يخرجه العريان وأول ظهور واضح لحميدة على شاشة السينما بعد دور صغير للغاية في فيلم «الأوباش»، ثم أعاد تقديمه في دور مختلف أبرز فيه موهبته في «الباشا».
ولا نبالغ إن قلنا إن العريان له دور كبير جدًّا في تعرف الجمهور بالراحل خالد صالح عبر دور الضابط الفاسد في «تيتو»، فبعد أن قدم صالح عددًا من الأدوار الصغيرة، كان هذا الدور هو الأكبر مساحةً، والذي جعل الجمهور يبحث عن اسمه في التترات.
حتى الفنان سيد رجب، الذي اعتدنا مشاهدته في أدوار المجرم أو الفاسد، ظهر بشكل بارز في مشاهد قليلة في «ولاد رزق»، ولا تزال صفحات مواقع التواصل الاجتماعي تستخدم تلك المشاهد في صناعة «الكوميكس».
قد يهمك أيضًا: هل نشهد نهاية زمن أفلام الكوميكس قريبًا؟
2. الموسيقى التصويرية
يحفظ معظم عشاق الموسيقى التصويرية مقطوعات من أفلام طارق العريان قدمها له هشام نزيه، رفيق معظم أعماله، خصوصًا من فيلم «تيتو»، لكن البصمة اللافتة للعريان كانت العمل مع الموسيقار ياسر عبد الرحمن.
المتابع لأعمال ياسر عبد الرحمن يدرك عشقه للموسيقى الشرقية، لكنه قدم في فيلمي «الإمبراطور» و«الباشا» مقطوعات غربية تمامًا، وهي من أفضل ما قدمه من موسيقى للسينما، وإن لم يُسلَّط عليها الضوء بالشكل الكافي.
قد تكون المسافة الفاصلة بين أفلام طارق العريان كبيرة جدًّا وغير معتادة، لكنه من المخرجين الذين ينجحون بنسبة كبيرة في تعويض صبر المشاهدين خيرًا، ويعود هذا إلى أنه ليس مجرد مخرج مميز فقط، بل مؤسسة سينمائية متكاملة.