يبدأ «جورج آر آر مارتن» رواية «عاصفة السيوف»، الجزء الثالث من السلسلة الملحمية «أغنية الجليد والنار»، بملحوظة عن التسلسل الزمني للأحداث، يقول فيها إن الفصول الأولى من الكتاب لا تتلو الفصول الأخيرة من الكتاب السابق «صِدام الملوك» مباشرةً، بل تتزامن معها.
فمع بناء روائي كالذي يستخدمه، أي عرض الحدث من وجهة نظر شخصية بعينها أو عدة شخصيات، لا يمكن لسرد الأحداث أن يكون تعاقبيًّا تمامًا، فهناك شخصيات تفصل بينها مسافات تبلغ مئات أو آلاف الأميال، وثَمّة فصول تغطي يومًا واحدًا من الأحداث، وأخرى تغطي ساعة فقط، فيما تمتد أحداث فصول غيرها على مدار أسبوعين أو شهر، أو نصف عام.
ركّزت الفصول الأخيرة من «صِدام الملوك» على معركة «النهر الأسود»، التي دارت بين جيشي «ستانيس باراثيون» وعائلة «لانستر»، وانتهت باندحار ستانيس أمام الجيش الجرار الذي داهمه به «تايوين لانستر» وعائلة «تايرل». وفي أثناء المعركة، كانت أحداث أخرى محورية تدور في شمال «وستروس»، فـ«حرس الليل» جرّدوا حملة خرجت وراء «الجدار» لاستطلاع ما ينتويه الهمج، بالإضافة إلى هروب «جايمي لانستر» من الأسْرْ في قلعة «ريفررَن»، وهروب «آريا ستارك» من قلعة «هارنهال».
افتتاحية «عاصفة السيوف» تتشابه مع خاتمة الموسم الثاني من مسلسل «Game of Thrones»، وإن احتوت على تفاصيل أكثر بكثير. وعلاوة على هذا، فإن فيها تمهيدًا لأحداث لم يرها مشاهدو المسلسل إلا في الموسم الرابع، فهذا الكتاب يضم أحداث الموسمين الثالث والرابع من المسلسل، وشيئًا من أحداث الموسم الخامس كذلك، وهو حتى الآن أكبر كتب سلسلة «أغنية الجليد والنار».
و«منشور» يقدم لكم النص الكامل للفصل الأول من الكتاب قبل صدوره في الأسواق، قراءة ممتعة.
كان النّهار غائمًا قارس البرودة، والكلاب تَرفُض التقاط الرّائحة.
تشمَّمت الكلبة السَّوداء الكبيرة آثار الدُّب مرَّةً لا أكثر، ثم تراجعَت منكمشةً على نفسها وذيلها بين ساقيها، وعادَت تنضمُّ إلى القطيع المتلَملِمة كلابه البائسة معًا عند ضفَّة النَّهر، حيث تضرب الرِّيح أجسامها بلا هوادة. «تْشِت» أيضًا شعرَ بالرِّيح تخترق ما يرتديه من طبقات الصُّوف الأسود والجِلد المقوَّى بالزَّيت المغلي، وبالبرد الذي يكاد لا يطيقه إنسان أو حيوان على حَدِّ سواء، لكن ما باليد حيلة.
التوى فمه، وأحسَّ كأن البثور التي تُغَطِّي وجنتيه وعُنقه تزداد حُمرةً وغضبًا وهو يُفَكِّر: كان يُمكن أن أكون آمنًا على «الجِدار»، أُعنَى بالغِدفان اللَّعينة وأشعل النَّار للمِايستر إيمون العجوز. النَّغل چون سنو هو من سلبَه هذا، هو وصديقه البدين سام تارلي، هما السَّبب في وجوده هنا الآن، يتجمَّد حتى النُّخاع مع قطيعٍ من الكلاب في أعماق «الغابة المسكونة».
جذبَ المَقاود بعُنفٍ ليلفت انتباه الكلاب، وقال بسُخط: «بحَقِّ الجحائم السَّبع! تتبَّعوه أيها الأوغاد. إنه أثر دُب. هل تُريدون أن تأكلوا لحمًا أم لا؟ اعثروا عليه!»، لكن الكلاب لم تتحرَّك إلَّا لتدنو من بعضها بعضًا أكثر مُصدرةً عُواءً كالأنين، وعندما لوَّح تشِت بسوطه القصير فوق رؤوسها، زامَت الكلبة السَّوداء في وجهه، فقال وأنفاسه تتحوَّل إلى صقيعٍ مع كلِّ كلمةٍ يلفظها: «حذارِ، الكلاب لحمها ليس أسوأ مذاقًا من لحم الدِّببة».
قال لارك رجل الأخوات: «البرد أشدُّ من أن نستطيع الصَّيد. فليذهب الدُّب إلى الجحيم، إنه لا يستحقُّ أن نتجمَّد بسببه». كان يقف عاقدًا ذراعيه على صدره ويدسُّ يديه تحت إبطيه، ومع أنه يرتدي قُفَّازين من الصُّوف الأسود، فلم يمنعه هذا من الشَّكوى الدَّائمة من تجمُّد أصابعه.
دمدمَ پول الصَّغير من وراء اللِّحية البنِّيَّة الكثيفة التي تكسو معظم وجهه: «لا يُمكننا العودة خاوي الوفاض يا لارك، فلن يُرضي هذا حضرة القائد». كان رجلًا ضخم البدن، يقف مُطبقًا على قناة حربته بقبضته العظيمة المحاطة بقُفَّازٍ من الفرو السَّميك، وقد جمَّد الجليد المخاط السَّائل من أنفه الأفطس على شاربه.
رَدَّ رجل الأخوات النَّحيل ذو القسمات الحادَّة والنَّظرات المتوتِّرة: «فليذهب الدُّب العجوز إلى الجحيم أيضًا. مورمونت سيموت قبل طلوع الفَجر، أم أنك نسيت؟ مَن يُبالي بما يُرضيه؟».
رمَته عينا پول السَّوداوان الصَّغيرتان بنظراتٍ خاوية، فخطرَ لتشِت أنه ربما نسيَ حقًّا، فهو غبيٌّ بما فيه الكفاية لأن ينسى أيَّ شيءٍ تقريبًا. «لماذا يجب أن نَقتُل الدُّب العجوز؟ لِمَ لا نكتَفي بالرَّحيل وندعه وشأنه؟».
قال لارك: «هل تحسب أنه سيدعنا وشأننا؟ سيُطارِدنا لا محالة. أتريد أن تكون طريدةً أيها الأبله الكبير؟».
أجابَ پول الصَّغير: «لا، لا أريدُ هذا، لا أريده».
سألَه لارك: «ستَقتُله إذن؟».
دَقَّ الرَّجل الضَّخم أرض ضفَّة النَّهر المتجمِّدة بكعب حربته مجيبًا: «نعم، سأفعلُ، فيجب ألَّا يُطارِدنا».
سحبَ رجل الأخوات يديه من تحت إبطيه، والتفتَ إلى تشِت قائلًا: «أكرِّرُ أن علينا أن نَقتُل الضُّبَّاط كلهم».
كان تشِت قد سئمَ إثارة لارك هذا الجدل تمامًا، فقال وقد احتقنَت بثوره غيظًا: «سبقَ أن تكلَّمنا عن هذا. الدُّب العجوز سيموت، وكذا بلين من بُرج الظِّلال، وجروبز وإيثان أيضًا، فحظُّهما الأسود أنها نوبة حراستهما، ودايوين وبانن لخبرتهما في اقتفاء الآثار، والسير خنزير المسؤول عن الغِدفان. هؤلاء فقط، مفهوم؟ سنَقتُلهم بهدوء وهُم نائمون. صرخة واحدة وسنُصبح كلُّنا طعامًا للدِّيدان، كلُّنا بلا استثناء. قُم بدورك واعمل على أن يفعل أبناء عمِّك المِثل. وأنت يا پول، حاوِل أن تتذكَّر أنها المناوَبة الثَّالثة وليست الثَّانية».
قال الرَّجل الكبير من وراء شَعره ومخاطه المتجمِّد: «المناوَبة الثَّالثة، أنا والمتسلِّل، لم أنسَ يا تشِت».
سيكون القمر مُحاقًا اللَّيلة، وقد تلاعَبوا بتنظيم نوبات الحراسة بحيث يكون هناك ثمانية منهم بين الخفر الواقفين ساعة التَّنفيذ، بالإضافة إلى اثنين آخَريْن يَحرُسان الخيول. لن يجدوا فُرصةً أفضل، ثم إن من الممكن أن يجدوا الهَمج فوق رؤوسهم في أيِّ يومٍ الآن، وتشِت ينوي أن يكون بعيدًا تمامًا عن هنا عندما يَحدُث هذا.
إنه ينوي أن يعيش.
ثلاثمئة أخٍ أقسَموا يمين حَرس اللَّيل كانوا قد توغَّلوا شمالًا، مئتان من «القلعة السَّوداء» ومئة آخَرون من «بُرج الظِّلال»، أكبر حمْلة تقصٍّ في ذاكرة البَشر، ما يَقرُب من ثُلث قوَّة الحَرس. كان هدفهم أن يَعثُروا على بِن ستارك والسير وايمار رويس، ويكتشفوا سبب هِجران الهَمج قُراهم، لكنهم ليسوا أقرب إلى ستارك ورويس الآن مما كانوا عندما تحرَّكوا من «الجِدار»، وإن عرفوا المكان الذي نزحَ إليه الهَمج كافَّة؛ المرتفعات الجليديَّة الموحشة المسمَّاة «أنياب الصَّقيع». فليبقوا حيث هُم أبد الدَّهر ولن يكترث تشِت مقدار ذرَّة.
لكن لا، إنهم قادمون الآن، يَسلُكون طريق «النَّهر اللَّبني».
رفعَ تشِت عينيه يَرمُق النَّهر الذي تتلحَّف ضفَّتاه الحجريَّتان بالجليد، وتتدفَّق مياهه الشَّاحبة كالحليب بلا نهايةٍ من «أنياب الصَّقيع». كان ثورين سمولوود قد عادَ منزعجًا قبل ثلاثة أيام، وبينما يُقَدِّم تقريره للدُّب العجوز بما رآه كشَّافته، أخبرَ رجله كِدچ ذو العين البيضاء بقيَّتهم وهو يُدفئ يديه فوق النَّار: «ما زالوا على مسافةٍ بعيدة في المرتفعات عند سفوح الجبال، لكنهم في الطَّريق. هارما رأس الكلب تقود طليعتهم، تلك المجدورة الحقيرة. جاودي تسلَّل إلى معسكَرها ورآها بوضوح جالسةً عند النَّار، والأحمق تومبلچون أرادَ أن يُرديها بسهم، لكن سمولوود كان أعقل من هذا».
سألَه تشِت بفظاظة: «هل أحصيتموهم؟».
- «أعدادهم ضخمة للغاية، عشرون أو ثلاثون ألفًا، فلم ننتظر لنعدَّهم. هارما معها خمسمئة في الطَّليعة، جميعهم على متون الخيول».
تبادلَ الرِّجال الجالسون في حلقةٍ حول النَّار النَّظرات المتوتِّرة، فمن النَّادر أن تجد دستةً لا أكثر من الهَمج يمتطون الخيول، ناهيك بخمسمئةٍ دُفعةً واحدةً...
تابعَ كِدچ: «سمولوود أرسلَني مع بانن في دورةٍ واسعة حول طليعتهم، لنسترق نظرةً إلى كُتلتهم الأساسيَّة. إنهم بلا نهاية، يتحرَّكون ببُطء نهرٍ جليدي، لا يقطعون أكثر من أربعة أو خمسة أميال في اليوم، لكن لا يبدو أنهم ينتوون العودة إلى قُراهم كذلك. أكثر من نِصفهم نساء وأطفال، ويتحرَّكون سائقين حيواناتهم من ماعز وخراف وثيران برِّيَّة تجرُّ الزلَّاجات، المحمَّلة كافَّة بحُزَمِ الفرو وشرائح اللُّحوم وأقفاص الدَّجاج ومماخض الزُّبدة وعجلات الغزْل، جميع ممتلكاتهم. البغال والخيول الصَّغيرة كانت مثقلةً بالأحمال لدرجةٍ تجعلك تحسب أن ظهورها على وشك أن تنكسر، والنِّسوة كذلك».
سألَه لارك رجل الأخوات: «ويتبعون طريق (النَّهر اللَّبني)؟».
- «ألم أقل هذا؟».
تخيَّل تشِت جثَّة چون سنو الزَّرقاء المتجمِّدة على قمَّة جبل، وقد انغرسَت حربة واحدٍ من الهَمج في مؤخِّرته، فتراقصَت ابتسامة على شفتيه وفكَّر: آملُ أنهم قتَلوا ذئبه اللَّعين أيضًا.
سيَمُرُّون في طريقهم هذا بـ«قبضة البَشر الأوائل»، الحصن الدَّائري العتيق حيث عسكرَ رجال حَرس اللَّيل، وهو ما يعني أن أيَّ شخصٍ يملك خردلةً من العقل سيرى أن الوقت قد حان لرفع الدِّفاعات والانسحاب إلى «الجِدار». كان الدُّب العجوز قد حصَّن «القبضة» بالخوازيق والحُفر وأرجُل الغِربان، لكن لا جدوى من كلِّ هذا في مواجهة جيشٍ كالذي يزحف عليهم الآن. إذا ظلُّوا هنا فلا شَكَّ أن الهَمج سينهمرون عليهم كالمطر ويكتسحونهم.
وثورين سمولوود يُريد أن يُهاجِمهم! كان السير مالادور لوك يُشارِك السير أوتين ويذرز العجوز إلحاحه في التَّراجُع إلى «الجِدار»، وقد شهدَ مُرافِقه دونل هيل المرِح مجيء سمولوود إلى خيمة لوك ليلة أول من أمس ليُحاوِل إقناعه بغير ذلك، وأخبرَهم دونل المرِح أنه قال: «ملك ما وراء الجِدار لن يتوقَّع أننا توغَّلنا كلَّ هذه المسافة شمالًا، وجيشه العرمرم هذا ما هو إلَّا قطيع يمشي متثاقلًا، قطيع مليء بالأفواه عديمة الفائدة التي لا يعرف أصحابها من أيِّ الطَّرفين يُحمَل السَّيف. ضربة واحدة ستسلبهم القُدرة على القتال وتُعيدهم مولوِلين إلى أكواخهم الوضيعة، حيث سيبقون خمسين سنةً أخرى».
ثلاثمئة ضد ثلاثين ألفًا. وصفَ تشِت هذا بالجنون المطبِق، لكن الأكثر جنونًا أن السير مالادور اقتنعَ، والآن يوشك الاثنان معًا على إقناع الدُّب العجوز، إذ قال ثورين سمولوود لكلِّ من يسمع: «ستضيع الفُرصة ولن تعود أبدًا إذا انتظرنا طويلًا ولم نغتنمها»، فعارَضه السير أوتين ويذرز قائلًا: «إننا الدِّرع التي تقي بلدان البَشر، ولا أحد يتخلَّص من دِرعه بلا سببٍ وجيه»، فرَدَّ سمولوود: «في القتال، خير وسيلةٍ للدِّفاع أن تُسَدِّد ضربةً خاطفةً تُجهِز بها على عدوِّك، لا أن تختبئ وراء دِرعك».
لكن القيادة ليست لسمولوود أو ويذرز، بل للورد مورمونت، واللورد مورمونت ينتظر كشَّافته الآخَرين؛ چارمان بكويل والرِّجال الذين صعدوا «سُلَّم العملاق»، وكورين ذا النِّصف يد وچون سنو اللذين ذهبا لاستطلاع «الممر الصَّادح»، غير أن غياب كلٍّ من بكويل وذي النِّصف يد طالَ كثيرًا. إنهم موتى على الأرجح. تخيَّل تشِت جثَّة النَّغل چون سنو الزَّرقاء المتجمِّدة على قمَّة جبل، وقد انغرسَت حربة واحدٍ من الهَمج في مؤخِّرته، فتراقصَت ابتسامة على شفتيه وفكَّر: آملُ أنهم قتَلوا ذئبه اللَّعين أيضًا.
قال وقد حزمَ أمره فجأةً: «لا يوجد دُبٌّ هنا، إنه مجرَّد أثرٍ قديم لا أكثر. لنَعُد إلى (القبضة)».
اندفعَت الكلاب جاذبةً مَقاودها بعُنفٍ كادَ يُسقِطه أرضًا، وكلُّها توق إلى العودة مِثله تمامًا، فلعلَّها تحسب أنه سيُطعِمها. ضحكَ تشِت رغمًا عنه، فهو يُجَوِّعها منذ ثلاثة أيامٍ كاملة بغية أن تكتسب الشَّراسة المطلوبة، فاللَّيلة، وقبل أن ينسلَّ هاربًا في الظَّلام، سيُطلِقها بين صفوف الخيول، بَعدما يقطع دونل هيل المرِح وكارل ذو القدم المعوجَّة حبالها. ستكون كلاب الصَّيد المزمجرة والخيول المذعورة في كلِّ مكان، تجري وسط النَّار وتثب من فوق السُّور وتدعس الخيام. في فوضى كتلك قد تمرُّ ساعات طويلة قبل أن يلحظ أحدهم غياب أربعة عشر أخًا.
أرادَ لارك أن يُحضِر ضِعف هذا العدد، لكن ماذا تتوقَّع من رجل الأخوات الأحمق ذي الأنفاس الذَّفرة؟ اهمس كلمةً واحدةً في الأُذن الخطأ، وفي لمح البصر ستجد أن رأسك لم يَعُد على كتفيك. كلا، أربعة عشر رجلًا عدد مناسب، يكفي لتنفيذ المراد وليس كبيرًا لدرجة أن يتسرَّب السِّرُّ من بينهم. كان تشِت قد جنَّد معظمهم بنفسه، ومنهم پول الصَّغير، أقوى رجلٍ على «الجِدار» على الإطلاق، وحتى إذا كان فهمه أبطأ من حلزونٍ ميت، فإنه قويٌّ لدرجة أنه كسرَ ظَهر همجيٍّ بمجرَّد أن عانَقه ذات مرَّة. ديرك محبُّ الخناجر معهم أيضًا، والرَّجل الأشيب الصَّغير الملقَّب بين الإخوة بالمتسلِّل، الذي اغتصبَ مئة امرأةٍ في شبابه، ويتلذَّذ بالتَّباهي بأن لا واحدة منهن رأته أو سمعَته حتى دَسَّه فيها.
الخُطَّة خُطَّة تشِت، فهو الذَّكي فيهم، وكان وكيل المِايستر إيمون العجوز طيلة أربع سنواتٍ كاملة، إلى أن أزاحَه النَّغل چون سنو من وظيفته ليشغلها صديقه الخنزير البدين. إنه ينوي حين يَقتُل سام تارلي اللَّيلة أن يهمس في أُذنه: بلِّغ اللورد سنو حُبِّي، قبل أن يَشُقَّ حَلق السير خنزير لتجيش دماؤه من تحت طبقات الشَّحم التي تكسو عظامه. ثم إنه يعرف الغِدفان وتعرفه، فلن تُسَبِّب له متاعب أكثر من تارلي نفسه. سيُبَلِّل ذلك الجبان سراويله بمجرَّد أن يَشعُر بلمسة السكِّين، ويُجهِش بالبكاء متوسِّلًا الرَّحمة.
دَعه يتوسَّل، فلن يُجديه هذا نفعًا. بَعد أن ينحره، سيفتح الأقفاص ويهشُّ الطُّيور كي لا تَبلُغ أيُّ رسائل «الجِدار». سيَقتُل المتسلِّل وپول الصَّغير معًا الدُّب العجوز، وديرك سيتولَّى أمر بلين، أمَّا لارك وأبناء عمِّه فسيُخرِسون بانن ودايوين العجوز لئلا يأتيا ويتشمَّما آثارهم. إنهم يُخَزِّنون الطَّعام منذ أسبوعين، وسيعمل دونل المرِح وكارل ذو القدم المعوجَّة على تجهيز الخيول. ستنتقل القيادة بوفاة مورمونت إلى السير أوتين ويذرز، ذلك الشَّيخ الواهن. سيهرع عائدًا إلى «الجِدار» قبل أن تَغرُب الشَّمس، ولن يُبَدِّد رجالًا في مطاردتنا.
شَدَّته الكلاب وهي تشقُّ طريقها بين الأشجار، ورأى تشِت «القبضة» ترتفع مضمومةً من قلب الأخضر. كانت سماء النَّهار ملبَّدةً بغيومٍ كثيفة، حتى أن الدُّب العجوز أمرَ بإضاءة المشاعل، فاتَّقدت في حلقةٍ واسعة على محيط السُّور الدَّائري الذي يُتَوِّج قمَّة التَّلِّ الحجري شديد الانحدار.
نزلَ ثلاثتهم إلى جدولٍ صغير مياهه باردة كالثَّلج، وقد بدأت رُقع الجليد تتكوَّن على سطحه بالفعل، وفي أثناء خوضهم صارحَهم لارك رجل الأخوات قائلًا: «سأتَّجهُ إلى السَّاحل أنا وأبناء عمِّي، سنبني قاربًا ونُبحِر إلى ديارنا في (الأخوات الثَّلاث)».
وفي الدِّيار سيعرفون أنكم متهرِّبون ويضربون أعناقكم أيها الحمقى. لا سبيل لتركِ حَرس اللَّيل بمجرَّد أن تحلف اليمين. اهرُب إلى أيِّ مكانٍ في «الممالك السَّبع» كلِّها، وسيقبضون عليك ويَقتُلونك.
كراستر لديه 19 زوجةً نِصفهم عجائز قبيحات، لكن لا يهمُّ، سيُكَلِّفهن تشِت بالطَّهو والتَّنظيف وجني الثِّمار وإطعام الخنازير، فيما تُدفئ الشَّابَّات فِراشه ويحملن أطفاله.
أمَّا أولو الأبتر فيتكلَّم عن الإبحار عائدًا إلى «تايروش»، التي يَزعُم أنها بلد لا يفقد الرَّجل يديه فيه بسبب القليل من اللُّصوصيَّة النَّزيهة، ولا يُرسِلونه إلى حيث يقضي ما تبقَّى من حياته يتجمَّد لأنهم ضبَطوه في الفِراش مع زوجة فارسٍ ما. كان تشِت قد فكَّر في الذَّهاب معه، لكنه لا يتكلَّم لُغتهم البناتيَّة المائعة تلك، وماذا يفعل في «تايروش» على كلِّ حال؟ إنه لم يتعلَّم صنعةً تُذكَر خلال نشأته في «مستنقع هاج»، إذ أمضى أبوه حياته يعزق حقول الآخَرين ويجمع العَلَقات؛ يتجرَّد من ثيابه كلها باستثناء إزارٍ جِلديٍّ سميك يُحيط بعورته، ويخوض في المياه الآسنة، وحين يَخرُج تجد العَلَقات تُغَطِّيه من حلمتيه إلى كاحليه.
أحيانًا كان يجعل تشِت يُساعِده على نزعها، وفي مرَّةٍ تمسَّكت إحداها براحة يده، وعندما هرسَها على الحائط مشمئزًّا ضربَه أبوه حتى أدماه، فالمِايسترات يدفعون بنسًا كاملًا لقاء كلِّ دستةٍ من العَلَق.
فليَعُد لارك إلى دياره إذا أرادَ، والتايروشي الملعون كذلك، لكن ليس تشِت. إنه لا يَشعُر ولو بشذرةٍ من الشَّوق لرؤية «مستنقع هاج» ثانيةً، على حين راقَه منظر «قلعة كراستر» كثيرًا. لقد عاشَ كراستر هناك كالأعيان، فما الذي يمنعه من أن يُصبِح مِثله؟ كم سيكون هذا مضحكًا؛ تشِت ابن جامِع العَلَق لورد وصاحِب قلعة. من الممكن أن تكون رايته دستةً من العَلَقات على خلفيَّةٍ باللَّون الوردي. لكن لِمَ يكتفي باللورديَّة؟ ربما ينبغي له أن يصير ملكًا. مانس رايدر كان غُرابًا في البداية. يُمكنني أن أكون ملكًا مِثله، وأتَّخذ لنفسي بضع زوجات.
كراستر لديه تسع عشرة زوجةً، وليس من ضمنهن البنات اللاتي لم يُضاجِعهن بعدُ. نِصف أولئك الزَّوجات عجائز قبيحات ككراستر نفسه، لكن لا يهمُّ، فيُمكن لتشِت أن يُكَلِّفهن بالطَّهو والتَّنظيف وجني الثِّمار وإطعام الخنازير، فيما تُدفئ الشَّابَّات فِراشه ويحملن أطفاله، وكراستر لن يقوى على الاعتراض بمجرَّد أن يُعانِقه پول الصَّغير.
لم يعرف تشِت نساءً إلَّا العاهرات اللاتي استأجرهن في «بلدة المَناجذ»، أمَّا قبلها، وهو أصغر، فكانت فتيات قريته يُلقين نظرةً واحدةً على وجهه ببثوره وكيسه الدُّهني، ويُشِحن بأنظارهن متقزِّزات. أسوأهن كانت تلك القذرة بِسا، التي فتحَت ساقيها لكلِّ صبيٍّ في «مستنقع هاج»، فقال لنفسه إنه لا يوجد ما يمنع أن تفعلها معه أيضًا، بل وقضى صباحًا كاملًا يجمع لها الزُّهور البرِّيَّة عندما عرفَ أنها تُحِبُّها، فما كان منها إلَّا أن ضحكَت في وجهه، وقالت إنها تُفَضِّل أن تَدخُل الفِراش مع عَلَقات أبيه على أن تَدخُله معه. لم تكفَّ عن الضَّحك حتى أولجَ سكِّينه فيها، ولكم كانت النَّظرة على وجهها حُلوةً لحظتها، فسحبَ سكِّينه وطعنَها ثانيةً.
حين قبضوا عليه أخيرًا بالقُرب من «الجداول السَّبعة»، لم يتجشَّم اللورد والدر فراي العجوز عناء المجيء والحُكم عليه بنفسه، بل أرسلَ واحدًا من نغوله، والدر ريڤرز، وإذا بتشِت يجد نفسه في الطَّريق إلى «الجِدار» في صُحبة الشَّيطان الأسود كريه الرَّائحة المدعو يورن. لقد سلَبوه حياته كلها ثَمنًا لهذه اللَّحظة الواحدة الحُلوة.
لكنه يعتزم الآن أن يأخذ حياته منهم ثانيةً، ويأخذ زوجات كراستر أيضًا. الهمجيُّ المسنُّ المقيت على حَق؛ إذا أردت امرأةً زوجةً لك فخُذها، ودعك من هراء إعطائها بضع زهورٍ على أمل ألَّا تلحظ بثورك القبيحة. تشِت لا ينوي أن يرتكب ذلك الخطأ مجدَّدًا.
للمرَّة المئة أكَّد لنفسه أن الخُطَّة ستنجح... شريطة أن نَخرُج من هنا بلا عقبات. سيعمد السير أوتين إلى «بُرج الظِّلال» جنوبًا، فهذا أقصر الطُّرق إلى «الجِدار». ويذرز لن يشغل باله بنا، ولن يُريد إلَّا العودة سالمًا. بينما سيرغب ثورين سمولوود لا شَكَّ في تنفيذ الهجوم، لكن السير أوتين رجل حذِر لأقصى حد، كما أنه يفوقه رُتبةً. ولن يهمُّ هذا على كلِّ حال. فليُهاجِم سمولوود من يشاء بمجرَّد أن نختفي، فلِمَ نعبأ؟ إذا لم يَعُد أيٌّ منهم إلى «الجِدار»، فلن يأتي أحد يبحث عنا أبدًا، وسيحسبوننا مِتنا مع البقيَّة. كان هذا الخاطر جديدًا، وقد استمالَه لحظةً بالفعل، لكن عليهم في تلك الحالة أن يَقتُلوا السير أوتين والسير مالادور لوك أيضًا كي تنتقل القيادة إلى سمولوود، وكلاهما مُحاط بعددٍ لا بأس به من رجاله ليل نهار... لا، المخاطَرة كبيرة للغاية.
سأَله پول الصَّغير وهُم يمشون متثاقلين على دربٍ حجريٍّ للفرائس يمضي بين أشجار الحارس والصَّنوبر الجُندي: «تشِت، ماذا عن الطَّائر؟».
- «أيُّ طائرٍ لعينٍ هذا؟». آخِر شيءٍ يحتاج إليه الآن أن يشرع هذا المأفون في الثَّرثرة عن طائرٍ ما.
أجابَ پول: «غُداف الدُّب العجوز. من سيُطعِم الطَّائر إذا قتلناه؟».
- «ومَن يُبالي؟ اقتُل الطَّائر أيضًا إذا أردت».
قال الرَّجل الكبير: «لا أريدُ أن أوذي أيَّ طيور، لكنه طائر متكلِّم، فماذا لو وشى بما فعلناه؟».
ضحكَ لارك رجل الأخوات وقال ساخرًا: « پول الصَّغير، بليد كالحمير!».
خاطَبه پول مُنذرًا: «اخرس!».
سارعَ تشِت يقول قبل أن تتفاقَم غضبة الرَّجل الكبير: «پول، عندما يجدون العجوز غارقًا في بِركةٍ من الدَّم وعُنقه مشقوق، فلن يحتاجوا إلى طائرٍ يقول لهم إن أحدًا قتلَه».
تأمَّل پول الكلام لحظةً ثم قال: «هذا صحيح. هل يُمكنني الاحتفاظ بالطَّائر إذن؟ إنني أحبُّه».
رَدَّ تشِت ليُخرِسه: «إنه لك».
أضافَ لارك: «ويُمكننا أن نأكله إذا جُعنا».
عادَت غيوم الغضب تتجمَّع في وجه پول ثانيةً وهو يقول بحدَّة: «خيرٌ لك ألَّا تأكل طائري يا لارك، خيرٌ لك».
تناهَت إلى مسامع تشِت أصوات قادمة من بين الأشجار، فقال: «فليُطبِق كلاكما فمه، إننا على وشك بلوغ (القبضة)».
خرجوا بالقُرب من جانب التَّل الغربي، وداروا حوله جنوبًا حيث تخفُّ حدَّة المنحدَر، وعلى مقربةٍ من حافة الغابة وجدوا دستةً من الإخوة يتمرَّنون على الرِّماية، وقد رسموا أهدافًا على شكل رجالٍ في جذوع الأشجار وأخذوا يُطلِقون عليها سهامهم، فقال لارك: «انظُروا، خنزير يحمل قوسًا».
وبالفعل كان أقرب رامٍ إليهم هو السير خنزير نفسه، الصَّبي البدين الذي سرقَ مكانه مع المِايستر إيمون. مجرَّد مرأى سامويل تارلي يُفعِمه غضبًا، إذ كان عمله وكيلًا للمِايستر أفضل حياةٍ عرفها على الإطلاق، فالعجوز الضَّرير قليل الطَّلبات، وكلايداس يُلَبِّي معظم حاجاته على كلِّ حال، أمَّا واجبات تشِت فكانت بسيطةً، تتلخَّص في تنظيف المِغدفة وإشعال النَّار للتَّدفئة وإحضار الوجبات... كما أن إيمون لم يضربه ولو مرَّةً.
يعتقد أنه يستطيع أن يأتي متبخترًا ويُنَحِّيني بهذه البساطة، فقط لأنه من عِلية القوم ويعرف القراءة. ربما أجعله يقرأ سكِّيني قبل أن أذبحه به. خاطبَ رفيقيه قائلًا: «اذهبا أنتما، أريدُ أن أشاهد هذا»، ولمَّا شدَّته الكلاب متلهِّفةً على الذَّهاب معهما إلى الطَّعام الذي تحسب أنها ستناله على القمَّة، ركلَ تشِت الكلبة الكبيرة بطرف حذائه، فهدَّأ هذا القطيع بعض الشَّيء.
راقبَ من بين الأشجار فيما كافحَ الصَّبي البدين للتحكُّم في قوسٍ يُناهِزه طولًا، وقد تقلَّصت قسمات وجهه المستدير المتورِّد من فرط التَّركيز، بينما انغرسَت رؤوس ثلاثة سهامٍ في الأرض أمامه. التقطَ تارلي سهمًا وركَّبه في الوتر وسحبَه، وظَلَّ مثبِّتًا إياه مدَّةً طالَت وهو يُحاوِل التَّصويب قبل أن يُطلِق، فقط ليختفي السَّهم وسط الخُضرة، فأطلقَ تشِت ضحكةً ساخرةً عاليةً ملأى بالامتعاض المنكَّه بالتَّلذُّذ.
أعلنَ إد توليت، المُرافِق الأشيب المتجهِّم الذي يُسَمِّيه الجميع إد الكئيب: «لن نَعثُر عليه أبدًا، وسيلومونني أنا. منذ فقدتُ حصاني ولا شيء يضيع أبدًا إلَّا ويَنظُرون إليَّ، كأني فقدته عمدًا. كان لونه أبيض والثَّلج ينهمِر، فماذا توقَّعوا أن يَحدُث؟».
قال صديق اللورد سنو الآخَر جرِن: «الرِّيح خطفَت هذا السَّهم. حاوِل أن تحمل القوس بثبات يا سام».
قال الصَّبي البدين بتذمُّر: «إنه ثقيل»، وإن نزعَ السَّهم الثَّاني من الأرض على كلِّ حال، وحلَّق هذا السَّهم عاليًا وغابَ وسط الغصون على ارتفاع عشرة أقدامٍ من الهدف.
علَّق إد الكئيب: «أعتقدُ أنك أسقطت ورقةً من هذه الشَّجرة. الخريف يزحف بسرعةٍ كافية بالفعل، فلا داعي لأن تُساعِده»، وتنهَّد مضيفًا: «وكلنا يعلم ما يتبع الخريف... لكن البرد قاسٍ بحقِّ الآلهة. أطلِق السَّهم الأخير يا سام، فيبدو أن لساني بدأ يلتصق بسقف فمي».
خفضَ السير خنزير القوس، وحسبَ تشِت أنه سينفجر في البكاء، إلَّا أنه قال: «صعب للغاية».
قال له جرِن: «ثبِّت واسحب وأطلِق، هيا».
بطاعةٍ نزعَ الصَّبي البدين السَّهم من الأرض وثبَّته إلى قوسه الطَّويل وسحبَه وأطلقَه. فعلَ كلَّ هذا بسرعةٍ ودون أن يُضَيِّق عينيه مجاهدًا للتَّصويب كما فعل في المرَّتين السَّابقتين، فأصابَ السَّهم الهدف المرسوم بالفحم في أسفل الصَّدر وانغرسَ في جذع الشَّجرة مرتجفًا، وبدا السير خنزير مصدومًا وهو يقول: «أصبته! جرِن، هل رأيت؟ إد، انظُر، لقد أصبته!».
قال جرِن: «بين الضُّلوع على ما يبدو».
سألَه الصَّبي البدين: «هل قتلته؟».
هَزَّ توليت كتفيه مجيبًا: «ثقبت رئته على الأرجح، لو أن له رئةً، ولكن القاعدة أن أكثر الأشجار بلا رئة»، والتقطَ القوس من يد سام مضيفًا: «ولو أني رأيتُ رمياتٍ أسوأ من هذه، نعم، وسدَّدتُ أكثر من واحدةٍ أسوأ كذلك».
انفرجَت أسارير السير خنزير عن آخِرها، حتى إن النَّاظر إليه كان ليحسب أنه حقَّق إنجازًا فعليًّا، لكن فور أن رأى تشِت وكلابه التوَت ابتسامته وماتَت على ثغره وخرجَ منه صرير حاد، فبادَره تشِت قائلًا: «إنك لم تُصِب إلَّا شجرةً. لنرَ براعتك عندما تُواجِه فِتية مانس رايدر، فهؤلاء لن يقفوا ثابتين في أماكنهم بأطرافٍ مفرودة وأوراقٍ تحفُّ، نعم، بل سيُهاجِمونك مباشرةً وهُم يَصرُخون في وجهك، وأراهنُ أنك ستُبَلِّل سراويلك هذه قبل أن يغرس أحدهم بلطته بين هاتين العينين الخنزيريَّتين، وآخِر ما تسمعه سيكون صوتها وهي تشجُّ جُمجمتك».
طفقَ الصَّبي البدين يرتجف، فوضعَ إد الكئيب يده على كتفه، وقال لتشِت بجدِّيَّة: «يا أخي، ما حدثَ معك لا يعني أن سام سيُعاني المصير نفسه بالضَّرورة».
- «عَمَّ تتكلَّم يا توليت؟».
- «البلطة التي شجَّت جُمجمتك. أصحيحٌ أن نِصف عقلك انسكبَ على الأرض والتهمَته كلابك؟».
ضحكَ المغفَّل الكبير جرِن، فيما تراقصَت ابتسامة ضعيفة على شفتَيْ سامويل تارلي، فسدَّد تشِت ركلةً إلى أدنى الكلاب إليه، وجذبَ المَقاود وبدأ يصعد التَّل. ابتسِم كما تُريد يا سير خنزير، سنرى من يضحك اللَّيلة. ليته يملك الوقت لأن يَقتُل توليت أيضًا. ما هو إلَّا أحمق كئيب يُشبِه الحصان.
كان الصُّعود عسيرًا، حتى على هذا الجانب من «القبضة»، حيث أخف الجُروف انحدارًا، وفي منتصَف المسافة راحَت الكلاب تنبح وتشدُّه حاسبةً أنها ستأكل قريبًا، فلم تَذُق منه إلَّا الرَّكلات والتَّلويح بالسَّوط فوق رأس الكلبة الكبيرة القبيحة التي نهشَت الهواء في وجهه. بمجرَّد أن ربطَها ذهبَ يُقَدِّم تقريره إلى القائد، وأخبرَ مورمونت أمام خيمته السَّوداء الكبيرة: «وجدنا الآثار حيث قال العملاق، لكن الكلاب رفضَت تتبُّعها. مكانها هناك عند النَّهر قد يعني أنها قديمة».
لحضرة اللورد مورمونت رأس أصلع ولحية شيباء كثيفة مشعثة، وقد بدا صوته متعَبًا كملامحه وهو يقول: «خسارة، كان القليل من اللَّحم الطَّازج لينفعنا جميعًا»، فهَزَّ الغُداف الجاثم على كتفه رأسه إلى أعلى وأسفل مردِّدًا: «لحم، لحم، لحم!».
فكَّر تشِت: يُمكننا أن نَطبُخ الكلاب اللَّعينة، لكنه أطبقَ فمه حتى صرفَه الدُّب العجوز، فقال لنفسه برضا: وهذه آخِر مرَّةٍ أحني رأسي له. أحسَّ بقسوة البرد تشتدُّ، الشَّيء الذي كان ليُقسِم أنه غير ممكن، ولمَّا رأى الكلاب متلَملِمةً معًا بتعاسةٍ فوق الوحل المتجلِّد عن آخِره، راودَته نفسه بالانضمام إليها، لكنه لَفَّ وشاحًا أسود من الصُّوف حول نِصف وجهه السُّفلي، تاركًا فراغًا لفمه بين الطيَّات، إذ وجدَ أن الحركة المستمرَّة تبثُّ فيه دفئًا أكثر، فدارَ بتمهُّلٍ مع محيط السُّور الدَّائري ومعه حزمة من التَّبغ المُر، الذي تقاسمَه مع الإخوة السُّود الواقفين حراسةً وهو يسمع ما يقولونه.
لا تضمُّ خُطَّته أحدًا من رجال المناوَبة النَّهاريَّة، وإن كان قد خطرَ له أن من المفيد أن تكون لديه فكرة عما يجول ببالهم.
وأغلب ما يدور ببالهم أن البرد لا يُطاق حقًّا.
بدأت الظِّلال تستطيل، على حين اشتدَّت الرِّيح وهبَّت مُصدرةً صوتًا رفيعًا عاليًا وهي تمرُّ مرتعشةً من فجوات السُّور الحجري، فغمغمَ العملاق الصَّغير: «كم أكرهُ هذا الصَّوت، كأنه رضيع في الغابة ينتحِب طالبًا اللَّبن».
عادَ إلى الكلاب بَعدما انتهى من دورته، فإذا بلارك ينتظره ليقول له: «الضُّبَّاط مجتمعون في خيمة الدُّب العجوز ثانيةً، والنِّقاش بينهم محتدم».
قال تشِت: «هذه عادتهم. إنهم من عِلية القوم، كلُّهم باستثناء بلين، يُسكِرهم الكلام بدلًا من النَّبيذ».
دنا منه لارك بتؤدة، وقال متلفِّتًا حوله ليتأكَّد من عدم وجود أحدٍ بالجوار: «مُخ الذُّبابة لا يزال يتكلَّم عن الطَّائر اللَّعين، والآن يسأل إن كنا قد خبَّأنا حبوبًا لإطعامه».
رَدَّ تشِت: «إنه غُداف، يأكل الجيف».
قال لارك بابتسامةٍ واسعة: «جيفته هو ربما؟».
أو جيفتك أنت. فكَّر تشِت أنهم يحتاجون إلى الرَّجل الكبير أكثر من لارك، لكنه قال له: «دعك من القلق بشأن پول الصَّغير. قُم بدورك وسيقوم هو بدوره».
كان الشَّفق يزحف على الغابة حين خلَّص نفسه من رجل الأخوات أخيرًا وجلسَ يشحذ سيفه، العمل الذي وجدَه صعبًا للغاية وهو يرتدي قُفَّازيه، لكنه لن يخلعهما بالطَّبع، ففي بردٍ كهذا سيفقد أيُّ أحمق يمسُّ الفولاذ بيده المكشوفة رُقعةً لا بأس بها من جِلده.
بدأت الكلاب تنوح عندما غابَت الشَّمس، فسقاها الماء واللَّعنات وقال لها: «نِصف ليلةٍ فحسب ويُمكنكم أن تبحثوا عن وليمتكم بأنفسكم».
عندئذٍ كانت رائحة العَشاء تَبلُغ أنفه، وبينما تناولَ تشِت قطعةً من الخُبز الصُّلب ووعاءً من الحَساء من هاك الطبَّاخ، كان الحطَّاب العجوز دايوين يقف عند نار الطَّهو ويُساعِد على تقديم الطَّعام وهو يقول: «الغابة ساكنة للغاية، لا ضفادع تنقُّ قُرب النَّهر ولا بوم ينعق في الظَّلام. لم أسمع قَطُّ غابةً أكثر مواتًا من هذه».
قال هاك: «صوت أسنانك هذه يشي بأنها ميتة تمامًا».
طقطقَ دايوين أسنانه الخشبيَّة، وأضافَ: «ولا ذئاب كذلك. كانت موجودةً من قبل لكنها اختفَت. أين تحسبونها ذهبَت؟».
أجابَ تشِت: «إلى مكانٍ دافئ».
ضمَّت الدَّستة أو نحوها من الإخوة الجالسين عند النَّار أربعةً من رجاله، وقد حدَّق إلى كلٍّ منهم بنظراتٍ فاحصةٍ قاسية، ليرى إن كان أحدهم يُبدي أمارةً على التَّخاذُل، فرأى ديرك هادئًا كفايةً في جلسته الصَّامتة وهو يشحذ خنجره كما يفعل كلَّ ليلة، بينما راحَ دونل هيل المرِح يُلقي الدُّعابات البسيطة. أبيض الأسنان هو، وشفتاه حمراوان ممتلئتان، وعلى كتفيه تنسدل خُصلات شَعره الأصفر بأناقة، ويدَّعي أنه نغل لأحد أولاد لانستر، ولعلَّه كذلك حقًّا. لا يُطيق تشِت أمثاله من الصِّبية المليحين كالفتيات ولا يُطيق النُّغول، لكن دونل المرِح بدا متماسكًا.
أمَّا مَن بَثَّ فيه قدرًا أقلَّ من الثِّقة فهو الحطَّاب العجوز الذي يُلَقِّبه الإخوة بالمنشار، لأسبابٍ علاقتها بصوت غطيطه أوطد من عمله على الأشجار، والآن يبدو متوتِّرًا من فكرة ألَّا يغطُّ في نومه العميق ثانيةً أبدًا. الأسوأ منه كان مازلين، الذي لمحَ تشِت عَرقه يسيل على الرغم من برودة الرِّيح، تلمع القطرات على وجهه في ضوء النَّار كعشرات الجواهر الصَّغيرة المبتلَّة، ولا يأكل ويكتفي بالحملقة إلى حَسائه كأن رائحته تُشعِره بالغثيان. يجب أن أُبقي عينَيّ عليه.
- «اجمع!»، جاءَت الصَّيحة فجأةً من دستةٍ من الحناجر، وسرعان ما انتشرَت في أنحاء المخيَّم المنصوب على قمَّة التَّل. «يا رجال حَرس اللَّيل! اجتمِعوا عند بؤرة النَّار الوُسطى!».
بملامح عابسة أنهى تشِت حَساءه وسارَ وراء البقيَّة.
كان الدُّب العجوز واقفًا أمام النَّار، وخلفه يقف كلٌّ من سمولوود ولوك وويذرز وبلين في صَف. ارتدى مورمونت معطفًا من الفرو الأسود السَّميك، وجثمَ غُدافه على كتفه وأخذَ يُسَوِّي ريشه الفاحم. فكَّر تشِت وهو يدسُّ جسده بين برنار البنِّي وبعض رجال «بُرج الظِّلال»: لا يُمكن أن يكون هذا خيرًا. عندما اجتمعَ الكل، باستثناء من يتولُّون الحراسة في الغابة وعلى السُّور الدَّائري، تنحنحَ مورمونت وبصقَ، فتجمَّد البُصاق قبل أن يَبلُغ الأرض، فيما بدأ الرَّجل: «أيها الإخوان، يا رجال حَرس اللَّيل».
صرخَ غُدافه: «رجال! رجال! رجال!».
- «الهَمج يزحفون، يأتون متَّبعين طريق (النَّهر اللَّبني) من بين الجبال. ثورين يرى أن طليعتهم ستَبلُغنا في غضون عشرة أيام، وسيكون أبرع مُغيريهم مع هارما رأس الكلب في هذه الطَّليعة، أمَّا بقيَّتهم فسيُشَكِّلون حراسة المؤخِّرة، أو يتحرَّكون ملاصقين مانس رايدر نفسه، وفي البقاع الأخرى سينتشر مُحاربوهم على مسافاتٍ متباعدة بطول خَطِّ السَّير. إن معهم ثيرانًا وبغالًا وخيولًا، لكنها قليلة، ومعظمهم سيكون من السَّائرين على الأقدام، عديمي التَّدريب ضعيفي التَّسليح. الأسلحة التي يحملونها فيها من الحجارة والعظام أكثر من الفولاذ، كما أنهم مُثقَلون بالنِّساء والأطفال وقُطعان الماعز والخراف، بالإضافة إلى كلِّ ما يملكونه من الدُّنيا. باختصار، على الرغم من أعدادهم الكبيرة، فنقاط ضَعفهم عديدة... ولا يعلمون أننا هنا، أو هكذا يجب أن نتمنَّى».
إنهم يعلمون، بكلِّ تأكيدٍ يعلمون أيها العجوز الخَرِف. كورين ذو النِّصف يد لم يَعُد، أليس كذلك؟ ولا چارمان بكويل. إذا وقعَ أيٌّ من رجالهما في الأسر، فثِق بأن الهَمج اعتصَروا منه كلَّ ما يعرفه.
تقدَّم سمولوود قائلًا: «مانس رايدر يسعى إلى اختراق (الجِدار) وإغراق (الممالك السَّبعة) في حُمرة الحرب. حسنٌ، إنها لُعبة يمكن أن يلعبها اثنان. غدًا سنُبادِره نحن بالحرب».
قال الدُّب العجوز، فيما ارتفعَت الهمهمات من بين الرِّجال: «سنتحرَّك في الفَجر بكلِّ قوَّتنا، ونتَّجه شمالًا وندور غربًا، ووقتها ستكون طليعة هارما قد وصلَت إلى (القبضة) وتجاوزَتها بالفعل. تلال (أنياب الصَّقيع) ملأى بالوديان الضيِّقة الملتفَّة الصَّالحة تمامًا كمكامن للهجوم، وخَطُّ سير الهَمج يمتدُّ أميالًا طويلةً، لذا سنُباغِتهم في بقاعٍ عدَّة في آنٍ واحد، ونجعلهم يُقسِمون أننا ثلاثة آلاف لا ثلاثمئة».
أضافَ ثورين سمولوود: «سنُوَجِّه لهم ضربةً عنيفةً ونتراجَع قبل أن يحتشد خيَّالتهم لمواجهتنا، فإذا أتوا في أعقابنا سنجعلهم يُطارِدوننا بلا طائلٍ ثم ندور ونضرب بقعةً أخرى في رَكبهم. سنُحرِق عرباتهم ونُشَتِّت قُطعانهم ونَقتُل أكبر عددٍ ممكن منهم، مانس رايدر نفسه إذا وجدناه. إذا تفرَّقوا وهرعوا عائدين إلى أكواخهم فقد فُزنا، وإذا لم يفعلوا فسنظلُّ نُداهِمهم طيلة الطَّريق إلى (الجِدار)، ونعمل على أن يَترُكوا أثرًا طويلًا من الجُثث بينما يتقدَّمون».
صاحَ أحدهم من وراء تشِت: «إنهم آلاف!».
وجاءَ صوت مازلين المشبَّع بغثيان الخوف يقول: «سنموت!».
وصرخَ غُداف مورمونت ضاربًا الهواء بجناحيه الأسودين: «نموت، نموت، نموت، نموت!».
سحبَ السير مالادور لوك سيفه الطَّويل مكملًا: «النَّار التي تحترق لتَطرُد البرد».
وتابعَ آخَرون ساحبين سيوفهم من أغمدتها بدورهم: «الضَّوء الذي يأتي بالفَجر».
عندئذٍ كان الجميع يستلُّون سيوفهم، التي ارتفعَ ما يَقرُب من ثلاثمئةٍ منها نحو السَّماء، ومن حناجر أصحابها خرجَت بقيَّة الكلمات: «النَّفير الذي يُوقِظ النِّيام! الدِّرع التي تقي بلدان البَشر!».
لم يجد تشِت خيارًا غير أن يضمَّ صوته إليهم، وقد أفعمَت أنفاسهم الهواء بالبُخار وترقرقَ ضوء النَّار على فولاذهم المسلول. سَرَّه أن رأى لارك والمتسلِّل ودونل هيل المرِح يشتركون مع الهاتفين كأنهم حمقى كبار مِثلهم. لا بأس، فلا داعي لجذب الانتباه الآن وساعتهم دانية للغاية.
عادَ يسمع الرِّيح إذ تضرب حجارة السُّور الدَّائري عندما خبا الهتاف، وبدا اللَّهب نفسه كأنه يَشعُر بالبرد وهو يتراقَص ويرتعد، وفي الهدوء المفاجئ الذي رانَ على المكان، رفعَ غُداف الدُّب العجوز عقيرته بنعيبٍ صاخب، ومرَّةً أخرى ردَّد: «نموت!».
طائر ذكي، فكَّر تشِت والضُّبَّاط يصرفونهم موصين بأن يتناوَل الجميع وجبةً مشبعةً ويرتاحوا طويلًا اللَّيلة. هكذا زحفَ تحت الأغطية الفرو بالقُرب من الكلاب، وعقله لا ينفكُّ يُفَكِّر في كلِّ الأخطاء التي يُمكن أن تقع. ماذا لو أدَّى هذا القَسم اللَّعين إلى أن يُغَيِّر أحد رجاله رأيه؟ ماذا لو نسيَ پول الصَّغير وحاولَ أن يَقتُل مورمونت خلال المناوَبة الثَّانية لا الثَّالثة؟ وماذا لو فقدَ مازلين شجاعته، أو وشى أحد بهم، أو...
وجدَ نفسه يُصغي إلى اللَّيل. كان صوت الرِّيح كنحيب رضيعٍ بالفعل، ومن حينٍ إلى آخَر تترامى إلى أُذنيه أصوات رجال أو صهيل حصان أو طقطقة الحطب في النَّار، لكن لا شيء غير هذا. يا لهذا الهدوء!
رأى وجه بِسا طافيًا في الهواء أمامه، فأرادَ أن يقول لها: لم يكن السكِّين هو ما أردتُ أن أضع فيكِ. لقد قطفتُ لكِ زهورًا، قضيتُ صباحًا كاملًا أقطفُ لكِ الورد البرِّي وحشيشة الملوك وكؤوس الذَّهب. كان الجليد يكسو لحيته حول فمه وقلبه يدقُّ كالطَّبلة، حتى إنه خشيَ أن تُوقِظ خفقاته العالية المعسكَر. سألَ نفسه: ما الذي جعلَني أفكِّرُ في بِسا هكذا؟ هو لا يُفَكِّر فيها أبدًا إلَّا ليتذكَّر كيف بدَت وهي تُحتضَر، فماذا دهاه الآن؟ إنه يكاد لا يستطيع التقاط أنفاسه. هل غلبَه النَّوم؟ اعتدلَ جالسًا على رُكبتيه، وأحسَّ بشيءٍ باردٍ مبتل يمسُّ أنفه، فرفعَ عينيه.
وكان الثَّلج يتساقَط.
شعرَ بالدُّموع تتجمَّد على وجنتيه، وأرادَ أن يَصرُخ: ليس هذا عدلًا! سيُفسِد الثَّلج كلَّ ما عملَ في سبيله، كلَّ ما خطَّط له بمنتهى العناية، وها هي النُّدف البيضاء الكبيرة تنهمِر بكثافةٍ في كلِّ مكانٍ حوله. كيف سيَعثُرون على طعامهم المخبَّأ؟ أو على درب الفرائس الذي ينوون سلوكه شرقًا؟ ولن يحتاجوا إلى دايوين أو بانن لمطارَدتنا وهُم يقتفون آثارنا في الثَّلج الطَّازج. ثم إن الثَّلج يُخفي شكل الأرض، خصوصًا ليلًا، ومن الوارد أن يتعثَّر حصان في جِذرٍ ويكسر ساقه على حجر. أدركَ أن أمرهم انتهى... انتهى قبل أن نبدأ، لقد ضِعنا. لا حياة لورد لابن جامِع العَلَق، لا قلعة ولا زوجات أو تيجان، لا شيء أكثر من سيف همجيٍّ في بطنه ثم قبر بلا شاهِد. الثَّلج سلبَني كلَّ شيء... الثَّلج اللَّعين...
وچون سنو سَمِيُّ الثَّلج الذي عصفَ بحياته من قبل، هو وخنزيره المدلَّل.
نهضَ تشِت بساقين متصلِّبتين، فرأى رقائق الثَّلج وقد أحالَت ضوء المشاعل البعيدة إلى وهجٍ برتقاليٍّ مبهم، فخُيِّلَ إليه كأن سحابةً من الحشرات الشَّاحبة الباردة تُهاجِمهم. نزلَ الثَّلج على كتفيه ورأسه، وطارَ في أنفه وعينيه، فنفضَه وهو يسبُّ ويلعن، وقال لنفسه وقد تذكَّر: سامويل تارلي، ما زالَ يُمكنني أن أتعامَل مع السير خنزير. أحكمَ لَفَّ وشاحه حول وجهه ورفعَ قلنسوته، وذرعَ المعسكَر بخطواتٍ واسعة إلى حيث ينام الجبان.
كان الثَّلج يَسقُط بغزارةٍ بالغة، لدرجة أنه ضَلَّ الطَّريق وسط الخيام، لكنه في النِّهاية أبصرَ حاجز الرِّياح الصَّغير المريح الذي نصبَه الصَّبي البدين لنفسه بين صخرةٍ وأقفاص الغِدفان، ووجدَ تارلي يبدو كجبلٍ ليِّنٍ مستدير وهو مدفون تحت كومةٍ من الأغطية الصُّوف والفرو السَّوداء، التي بدأت تكتسي بطبقةٍ من الثَّلج. بخفوت الأمل همسَ الفولاذ إذ احتكَّ بالجِلد وتشِت يستلُّ خنجره من غِمده، وأطلقَ أحد الغِدفان نعيبًا، فتمتمَ آخَر: «سنو» وهو يُحَدِّق من وراء القضبان بعينين سوداوين، فردَّد الأول: «سنو». تحرَّك تشِت مجتازًا الطُّيور ومتَّخذًا كلَّ خطوةٍ بحذر. سيُطبِق بيُسراه على فم الصَّبي البدين ليَكتُم صُراخه، ثم...
آآآآآآآهوووووووووو!
توقَّف قبل أن يُكمِل خُطوته، وابتلعَ شتائمه وصوت النَّفير يتردَّد مرتجفًا عبر المخيَّم، خافتًا بعيدًا لكن لا ريب فيه. ليس الآن، على الآلهة اللعنة، ليس الآن! كان الدُّب العجوز قد أمرَ عددًا من الخفر بالاختباء في حلقةٍ من الأشجار حول «القبضة»، لتحذيرهم من اقتراب أيِّ أعداء. چارمان بكويل عادَ من «سُلَّم العملاق»، أو أن كورين ذا النِّصف يد عادَ من «الممر الصَّادح». نفخة واحدة في البوق تعني رجوع الإخوة، وإذا كان العائد ذا النِّصف يد، فقد يكون چون سنو معه، على قيد الحياة.
انتفضَ سام تارلي جالسًا ورمقَ الثَّلج بارتباك، على حين أخذَت الغِدفان تنعب بصخب، وسمعَ تشِت كلابه تنبح. نِصف المعسكَر اللَّعين استيقظَ. أطبقَت أصابعه المغطَّاة بالقُفَّاز على مقبض الخنجر وهو ينتظر أن يَسكُن الصَّوت، لكن ما كادَ النَّفير يهمد حتى عادَ يتردَّد، أعلى وأطول هذه المرَّة.
آآآآآآآآآآآآهووووووووووووووو!
سمعَ سام تارلي يُتَمتِم: «يا للآلهة»، ثم سارعَ الصَّبي السَّمين بالنُّهوض وقد اشتبكَ معطفه وأغطيته حول قدميه، فركلها بعيدًا ومَدَّ يده إلى قميص الحلقات المعدنيَّة المعلَّق على الصَّخرة القريبة، وإذ كافحَ لدَسِّ جسده في القميص الضَّخم كخيمة، لمحَ تشِت واقفًا هناك، فسألَه: «أكانت نفختين؟ حلمتُ أني سمعتُ نفختين...».
قال تشِت: «لم يكن حُلمًا. نفختان لدعوة الحَرس إلى السِّلاح، نفختان للتَّحذير من اقتراب الأعداء. ثمَّة بلطة تنتظرك محفورة عليها كلمة (خنزير) أيها البدين. نفختان تعنيان الهَمج». أرادَ أن يضحك لمرأى الخوف على هذا الوجه المستدير الكبير، وأضافَ: «فليذهبوا جميعًا إلى الجحائم السَّبع؛ هارما الملعونة ومانس رايدر الملعون وسمولوود الملعون الذي قال إنهم لن يكونوا هنا قبل...».
آآآآآآآآآآآآآآآهووووووووووووووووووووووووو!
استمرَّ الصَّوت طويلًا طويلًا حتى بدا كأنه لن يخفت أبدًا. كانت الغِدفان تضرب بأجنحتها صارخةً، تُحَلِّق في أقفاصها وترتطم بالقضبان، وفي كلِّ أرجاء المعسكَر ينهض إخوة حَرس اللَّيل، يرتدون دروعهم ويربطون أحزمة السُّيوف ويلتقطون الفؤوس والأقواس.
وقفَ سامويل تارلي يرتعش بوجهٍ شاحبٍ يُحاكي الثُّلوج التي تدور في كلِّ مكانٍ حولهم، وقال لتشِت بصوتٍ كالعويل: «ثلاث نفخات، ثلاث، سمعتُ ثلاثًا. إنهم لا ينفخون ثلاث مرَّاتٍ أبدًا، لم يفعلوها منذ مئات وآلاف السِّنين. ثلاث نفخات تعني...».
- «... الآخَرين».
أصدرَ تشِت صوتًا هو نِصف ضحكةٍ ونِصف نشيج، وفجأةً أحسَّ بالبلل في ثيابه الدَّاخليَّة وبالبول يجري على ساقه، ورأى البُخار يَخرُج من مقدِّمة سراويله.
انتهى الفصل الأول من كتاب «عاصفة السيوف».