الفلسفة وراء الخيال في فيلم «2001: A Space Odyssey»

لقطة من فيلم «2001: A Space Odyssey» - الصورة: Metro-Goldwyn-Mayer

محمد جمال الدين
نشر في 2018/08/29

لا أعتقد أن أحدًا ممن يقرأون هذا الموضوع كان من المحظوظين الذين عاصروا ستينيات القرن العشرين، وأتيحت لهم فرصة مشاهدة «2001: A Space Odyssey» أوديسا «ستانلي كيوبريك» في السينما، لكن إن كنت منهم، فإنني أحسدك.

أحاول أن أتخيل إحساسك وأنت جالس على كرسي السينما، دون ارتداء تلك النظارات المزعجة، كي تشاهد الفيلم بالأبعاد الثلاثية. بل حين تسمع موسيقى «ريتشارد شترواس» الافتتاحية التي استعملها كيوبريك بذكاء، حين تسمع الجزء الأول من معزوفة «هكذا تكلم زرادشت» المعروفة باسم «إشراقة شمس»، تصيبك قشعريرة وإحساس بأنك مُقبل على رحلة، لا داخل الفيلم، لكن داخل مخيلة المخرج العبقري ستانلي كيوبريك.

من أشهر أقوال كيوبريك حول السينما أنه «إذا تخيلت أي شيء، فمن الممكن أن تصوره على هيئة فيلم». هذه المقولة لا تجد قالبًا أفضل من هذا الفيلم حتى تثبت صحتها. ففيه قدَّم المخرج رؤيته للمستقبل، على الرغم من أنها ليست صحيحة تمامًا، ومتشائمة قليلًا، لكن تلك عادة كيوبريك في جميع أفلامه. هناك شخصيات تبحث عن شيء، ليس بالضرورة أنها تجده، لكنها من خلال رحلة البحث تجد المعنى في حياتها، ذلك هو المذهب الوجودي في السينما المعاصرة، والذي كان كيوبريك مبتكِره ورائده.

الفيلم تحفة بصرية مبهرة لم يكن أحد يتصور وقتها ما يمكن للسينما أن تصل إليه، من مؤثرات خلابة وديكورات سابقة لعصرها، كيف يمكن أن تُستخدم الكاميرا بطريقة مبتكَرة حتى تصور إحساس انعدام الجاذبية في الفضاء. جاءت قبل أوديسا كيوبريك كثير من أفلام الفضاء التي أغفلت تلك النقطة المهمة، لكن كيف يغفلها كيوبريك وهو الباحث عن الكمال، والذي فتح من خلال هذا الفيلم أفاقًا جديدة تبرهن على أنه لا حدود للسينما إلا تلك التي نضعها لأنفسنا.

من الطريف ذكره أن شركة «مترو غولدن مايور»، عندما حاولت أن تنتج جزءًا ثانيًا للفيلم استغلالًا لنجاحه، وعلى غرار سلسلة أفلام «حرب النجوم»، رفض كيوبريك ذلك بشدة، فاستبعدوه من المشروع. كيف كان سينجح أحد ما في أن يخلق مثل ما خلق كيوبريك؟ عندما علم أنهم بصدد البدء في العمل، وقانونيًّا لا يملك الحق في أن يقاضيهم على ذلك، أرسل خطابًا يهدد فيه أحد القائمين على الجزء الثاني، يقسم فيه إنه سيحشر عظمة «الفيمر» الشهيرة التي ألقاها أحد القرود من السماء في بداية الفيلم، في مؤخرته، إذا رأى ذلك الفيلم النور، موضحًا أن الأمر يتطلب ذكاءً فضائيًّا لم يجر التحقق بعدُ من وجوده حتي يستطيع أن يزيلها من مكانها.

لم يجرؤ أحد على أن يستكمل المشروع أو يعبث مع كيوبريك، ونحمد الله على ذلك. لكن السؤال هنا: هل كان الفيلم مجرد تجربة بصرية فذة، أم هناك أكثر مما تخبرنا به الصورة وحدها؟

كيف بدأ الفيلم؟

بعد أن انتهي كيوبريك من تصوير فيلم «Dr. Strangelove»، أصابه هوس بإمكانية وجود حياة خارج كوكبنا، وتشكلت لديه رؤية كاملة عن الطريقة الأمثل لصنع فيلم يتحدث عن الفضاء، متأثرًا بأفلام الفضاء اليابانية، مثل «Warning from Space». وعلى الرغم من أن تلك الأفلام عانت من مشكلات في تسلسل الأحداث، فإنها تميزت بالتصوير الجيد والحوارات الكئيبة المثيرة، ما حفَّز كيوبريك على أن يبدأ بنسخته الخاصة، أو إن شئت قلت «رؤيته الخاصة عن الفضاء».

حمل الفيلم كثيرًا من العناوين، مثل «سقوط كوكب» و«نفق إلى النجوم» و«رحلة خلف النجوم». لكن كيوبريك استقر على «أوديسا الفضاء».

كي يبدأ كيوبريك العمل على فيلمه، تعاون مع أحد كتاب القصة القصيرة: «أرثر كلارك»، الذي قدم له ستة قصص قصيرة ليختار منها النواة التي سيبني عليها الثنائي نص الفيلم. اتفق الاثنان على أنهما في أثناء كتابتهما نص الفيلم سيشرعان في نفس الوقت بكتابة الرواية التي صدرت بعد الفيلم بمدة قليلة. الفرق بين الفيلم والرواية أن الرواية حرة من القيود التي تكبل السيناريو، وتحمل كثيرًا من الوصف والتفسير لما يحدث.

أما في السيناريو، فقد اختار كيوبريك أن تكون التجربة بصرية أكثر منها حوارية وصفية، ليكون لكل مشاهد وصفه الخاص لتلك التجربة.

من المعروف عن كيوبريك أنه ليس من اليسير العمل معه، لذلك اختلف الاثنان في النهاية. وحاول المخرج أن يأتي بكاتب بديل في خضم عملية الكتابة، لكنه لم يجد، فخرجت الرواية دون اسم كيوبريك عليها. أما الفيلم، فخرج باسم الاثنين.

لماذا الأوديسا؟ حمل الفيلم كثيرًا من العناوين قبل خروجه إلى النور، مثل «سقوط كوكب» و«نفق إلى النجوم» و«رحلة خلف النجوم». لكن كيوبريك استقر أخيرًا على «أوديسا الفضاء»، موضحًا أن الفضاء بالنسبة إلى البشر في هذا العصر، هو نفسه المحيط بالنسبة إلى الإغريق قديمًا: مليء بالغموض والعزلة، لهذا كان الفيلم ملحمة هذا القرن.

قد يهمك أيضًا: لأن محبتنا للحرب ضرورية: كيوبريك ونولان

«الأوديسة»: فجر الإنسان

في بداية الفيلم نرى القرود تعيش حول بركة ماء، لا تسمح لأي فصيل آخر من الحيوانات بمشاركتها، حتى تأتي مجموعة أخرى من القرود، ويبدو أنها الأقوى، فتسيطر على البركة وتطرد الجماعة التي نجدها تهرب بعيدًا وتختبئ حتى ظهر في يوم من الأيام حجر غريب، لا يدري أحد مصدره.

تكرر ظهور هذا الحجر أكثر من مرة في الفيلم، وما إن لمست القرود الحجر حتى أصابها شيء من العنف والفضول، فتوصلت إلى فكرة استخدام عظمة «الفيمر» من أجل القتال. عادت الجماعة إلى بركة الماء، واستطاعت هزيمة القرود الأخرى، واستعادة سيطرتها، وبينما يرمي القرد العظمة في الهواء، يأخذنا كيوبريك في رحلة عبر ملايين السنين من تطور البشر حتى وصلنا إلى عام 2001. كل هذا بنفس المبدأ الذي استخدمته القرود لاستعادة بركة الماء.

يحمل هذا المشهد كثيرًا من المعاني. فالإنسان/القرد استطاع التغلب على عجزه عن طريق ابتكاره الآلة، تلك التي تمنح الإنسان القوة ليسمو. تطورت الآلة على مر التاريخ، لكن في الفيلم استغرق الأمر ثواني لنرى تلك العظمة وقد صارت سفينة فضاء مكَّنت الإنسان من استكشاف المجهول والتسامي على ذاته. إضافة إلى أن ذلك فيه إيحاء بظاهرة الانتخاب الطبيعي، فالبقاء للأقوى دائمًا.

الفضاء المجهول

«موسيقى الدانوب الأزرق»، أشهر المقطوعات الموسيقية التي تُعزف في رقصات الفالس، توحي بأن كيوبريك يريد أن يعطي المُشاهد انطباعًا بأنه يراقص التكنولوجيا الحديثة وقتها. الأمر بالنسبة إلينا يبدو عاديًّا، لكن لمن عاشوا في تلك الفترة، فالأمر بالتأكيد مبهر. تخيل أن تجد الهاتف الذي يجعلك ترى من تحدثه، وأن يتعرف الآخرون إليك من خلال بصمة صوتك. تخيل ذلك الحاسوب الخارق الذي تستطيع أن تحدثه ويحدثك. هذه أشياء مألوفة في عصرنا، أما وقت إنتاج الفيلم، فهي وليدة أفكار كيوبريك.

يبدو أن هناك مشكلة تواجه المركز الفضائي على القمر، حيث اكتشفوا بقعة ترسل إشارات مغناطيسية غير مألوفة. تنتشر الإشاعات حول تلك الظاهرة، تتستر الحكومة على الخبر، فيظن الناس أن هناك وباءً في تلك المنطقة، لكن الحقيقة أنها دليل على وجود نوع من الذكاء غير الأرضي الذي وضع حجر مثل الذي ظهر للقرود، قبل ملايين السنين. لا أحد يدري الغرض من ذلك، لكن بتتبع الإشارات المنبعثة من الحجر يجد العلماء أنها تصل إلى كوكب المشتري.

لنفهم نهاية الفيلم علينا أن نُلقي الضوء على نيتشه وفلسفته الوجودية عن الإنسان الخارق أو السوبر مان.

بعد 18 شهرًا من ذلك الحدث، نجد سفينة فضاء في طريقها إلى المشتري. لا يدري أفراد الطاقم الهدف الحقيقي من وراء هذه البعثة. تتضمن تجهيزات السفينة الكمبيوتر «هال 9000»، أسمى صور الذكاء الصناعي الذي وصل إليه الإنسان. يزعم أنه لا يخطئ في شيء، وأن دقته متناهية، وأن احتمال حدوث أي خطأ سيكون بسبب العامل البشري. نجد هال يتعطل، يكتشف طاقم البعثة ذلك، فيحاولون إيقافه عن العمل. لكن هال علم بنيتهم، فقتل جميع أفراد الطاقم الذين هم في سبات، عبر إيقاف وظائفهم الحيوية. ويتبقى فرد واحد فقط يتمكن من إطفائه، ويصل إلى المشتري.

هناك، نجده ينسحب داخل بوابة نجمية تأخده عبر أبعاد المكان، حتى يصل إلى نوع من المحميات الطبيعية التي بناها الفضائيون للبشر، فيبدو أن سبب إرسال الحجر إلى القرود أن يتطوروا ويصبحوا قادرين في يوم من الأيام على الصعود إلى القمر. هناك يجدون الحجر الآخر الذي أغرى البشر بالذهاب إلى المشتري، ثم تأخذ البوابة أحد البشر إلى بُعد آخر يتوقف فيه الزمن ويصبح دون معنى. يشيخ هذا البشري دون أن يدري بذلك، ثم يرى نفسه على فراش الموت، ليولد من جديد على هيئة طفل فضائي. يأخذنا المشهد التالي إلى طفل ينظر إلى كوكب الأرض من جديد، وينتهي الفيلم.

لنفهم تلك النهاية، علينا أن نُلقي الضوء على نيتشه وفلسفته الوجودية عن الإنسان الخارق أو السوبر مان. يؤكد نيتشه أن ذلك الإنسان سينحدر من البشر إذا تغلبوا على كل القيود، وسيكون قادرًا على كل ما لا يقدر عليه البشر، ويكون بالنسبة إلينا مثلما نحن بالنسبة إلى القرود.ربما ذلك الطفل الفضائي هو تصور كيوبريك عن الإنسان الخارق الذي وصفه نيتشه.

يبقى السؤال الذي لم يجب عنه كيوبريك: ما الذي سيفعله الطفل الفضائي في الأرض؟ هل سيقضي على البشر ويبدأ بنفسه سلالة جديدة من البشر، أم يساعدهم حتى يتغلبوا على مشكلاتهم ويصيروا أكثر تطورًا؟ تلك الإجابة متروكة لمخيلة المُشاهد وكيف يتصور المستقبل.

بحسب وصف كيوبريك، الفيلم بشكل أساسي لا يعتمد على الحوار الشفهي. إنه تجربة بصرية تقبل تأويلات المشاهدين، وتؤثر في وعيهم الباطن ووجدانهم، تمامًا كما تفعل الموسيقى واللوحات الفنية. إنه لا يخبرك بما يحب عليك أن تشعر به، ولا يقيد فكرك في سياق واحد. إنه يعطي لك مطلق الحرية، فالفن من منظور كيوبريك نابع من الغموض. وكما يقول في أحد حواراته: «هل سيعطي الناس للوحة الموناليزا أي قيمة إذا ما كتب دافنشي أسفلها، سر ابتسامة السيدة أن أسنانها قبيحة أو أنها تخفي سرًّا عن حبيبها؟ هذا بالتأكيد سيقلل من تقدير المُشاهد للعمل، ويقيده بواقع غير الذي يحياه، وأنا لا أريد أن يحدث ذلك مع 2001».

أين الفضائيون؟ وما هيئتهم؟

في أثناء كتابة الفيلم، سأل كيوبريك عالم الفضاء «كارل ساغان» عن الطريقة المُثلى لوصف ذكاء الفضائين. كان ينوي التعامل مع ممثلين عاديين من البشر حتى لا يربك المشاهدين. لكن ساغان طلب منه ألا يفعل ذلك، ومن الأفضل أن يقترح خلال فيلمه وجود ذكاء غير أرضي، دون أن يصفه صراحة. يبدو أن كيوبريك عمل بنصيحته، فرأى أن أولئك الفضائيين كانوا بهيئة حيوية مثلنا، ثم بالتطور عبر مئات السنين صاروا كيانات ميكانيكية، وبعدها تطوروا إلي موجودات من الطاقة الخالصة، لها قدرات لامتناهية وذكاء غير قابل للوصف.

لماذا تعطَّل هال؟

برمجة هال تهدف من الأساس إلى معالجة كل البيانات بشكل دقيق، دون إخفاء أي شيء منها. بهذه الطريقة ضمن مبرمجوه أنه لن يتمرد على البشر أو يدبر المكائد ضدهم، لكن كان هذا هو السبب الذي جعله ينقلب على البشر. فمن أجل هذه المهمة تلقى تعليمات بأن يخفي بعض المعلومات السرية عن طاقم البعثة. هذا معناه أن قيمة البعثة الإستكشافية أهم من أفراد الطاقم أنفسهم. لم يستطع هال أن يتقبل هذا التضارب في الأوامر، فالآلة مهما تكن ذكية، فإنها ليست بشرًا، ولهذا تمردت.

معزوفة «شترواس»: كيف تتكامل الفلسفة والموسيقى والسينما؟

معزوفة «Thus Spoke Zarathustra» التي استخدمها كيوبريك في الفيلم

أثبت كيوبريك بعظمة عمله أنه السوبرمان الذي تحدث عنه نيتشه، إنسان يقدر على أن يفعل ما لا يقدر عليه إنسان.

في بداية الفيلم، نسمع معزوفة «Thus Spoke Zarathustra» (هكذا تكلم زرادشت) لشترواس، في شكل موسيقى تصويرية في الفيلم. من المعروف عن كيوبريك أنه أعظم من سخَّر الكلاسيكيات الموسيقية في أفلامه، لكن الأمر لا يتوقف هنا. فانتقاء المخرج لتلك المعزوفة يبدو منطقيًّا، إذ إن معزوفة شترواس ما هي إلا محاكاة موسيقية لكتاب نيتشه «هكذا تحدث زرادشت» الذي صاغ فيه فلسفته، ومنه استوحي المخرج فيلمه أو نسخته الخاصة من تلك الفلسفة.

الفيلم ما هو إلا ختام ثلاثية عابرة للفنون (الكتابة والموسيقى والسينما): الجزء الأول تشبيهات نيتشه وتعاليمه الروحية لزرادشت حتى يصل إلى حالة السوبر مان، والثاني الجُمَل الموسيقية التي وضعها شتراوس للحالة التي عليها ذلك الإنسان الأعلى، أما الثالث، فهو أوديسا كيوبريك الفضائية.

كيوبريك بعظمة عمله، أثبت أنه السوبرمان الذي تحدث عنه نيتشه في كتابه، والذي هو إنسان، لكنه يقدر على أن يفعل ما لا يقدر عليه إنسان. ذلك الإنسان الأعلى الذي هو بالنسبة إلى البشر مثلما هم بالنسبة إلى للقرود.

من أجل هذه الأسباب، فإن فيلم كيوبريك «2001: A Space Odyssey» أحد أفضل أفلام الخيال العلمي التي أنتجتها البشرية، وفي كل مرة تعيد مشاهدة ذلك الفيلم تكتشف شيئًا جديدًا يؤكد ذلك.


هذا الموضوع اقترحه أحد قُراء «منشور» وعمل مع محرري الموقع على تطويره، وأنت كذلك يمكنك المشاركة بأفكارك معنا عبر هذه الصفحة.

مواضيع مشابهة