مصطلح جديد اقترن ظهوره بشركات مثل «أوبر» و«كريم»، «الاقتصاد التشاركي»، اقتصاد يبشِّرك بأنك ستكون شريكًا فاعلًا فيه، تقتسم الربح مع الشركة، وتتمتع بالاستقلالية التي لا يحظى بها أي موظف عادي. لكن تلك الشراكة لم تسلم من لغط يُثار حولها في دول العالم حاليًّا، بشأن مدى تحققها على أرض الواقع.
اتُّهِمت «أوبر» مؤخرًا بأنها تضيِّق على سائقيها الذين يتقدمون بشكاوى ويعترضون على سياساتها، ويتهمها بعضهم بأنها تتلاعب في نسب الربح المخصصة لهم، وأنها توجه تهديدات إلى الصحفيين الذين يحققون في الأمر.
رغم ذلك وصلت «أوبر» إلى الشرق الأوسط، وخرجت «كريم» من دبي لتنافسها، واستطاعت الاثنتان دخول أسواق عربية عدة، بخاصة السوق المصرية.
سائقون ينضمون للعمل بالشركتين بأعداد كبيرة، عملاء من كل الأطياف ينزِّلون تطبيقي «أوبر» و«كريم» على هواتفهم، صار الاقتصاد التشاركي مساهمًا حقيقيًّا في تفاصيل الحياة اليومية في مصر، فهل تحققت الاستقلالية إذًا وصار العامل بإحدى الشركتين شريكًا في الربح؟
مستقبل مجهول
أقلَّني الكابتن رامي من طريق الواحات في مدينة السادس من أكتوبر حتى مدينة الشيخ زايد، قال: كنت أعمل في الأمن الصناعي بشركة «أوراسكوم»، انتهى المشروع فانتهى العقد، عملت بعدها قائدًا لسيارة طبيب لمدة عام، عمل مرهق وعائد مادي قليل، بعدها ظهرت «أوبر» و«كريم» فابتاع أحد أقاربي سيارة جديدة وتعاقد مع «كريم» وعرض عليَّ قيادتها، أتقاسم الربح مع قريبي وتتقاسمه معنا الشركة.
يحكي رامي أنه في البدء كان يحقق ربحًا ما بين 1600 وألفَي جنيه في الدورة (كل أسبوعين)، لكن الآن صار الربح أقل لأن عدد المنضمِّين إلى العمل مع «كريم» في ازدياد، عرض أكثر من الطلب.
عندما سألته عن خططه للمستقبل إذا ما توقفت «أوبر» و«كريم» عن العمل في مصر قال: ليس لديَّ خطة، أتممت خطوبتي منذ عامين وسأتزوج قريبًا وسيزداد احتياجي إلى «كريم»، لا أدري حقيقةً ماذا سأفعل إذا ما توقفت الشركتان عن العمل في مصر.
وما البديل وقد خسرت نقودي
استقللت سيارة الكابتن حسن من الزمالك واتجهنا إلى مدينة نصر، كان متوترًا قليًلا بسبب الزحام، أخبرني أنه كان يعمل في دبي منظِّمًا للاحتفالات، وبعد أن جنى ربحًا جيدًا قرَّر العودة إلى مصر للاستقرار والزواج، افتتح مقهًى في أحد أحياء القاهرة، لكن المشروع فشل وخسر كل نقوده، فلم يجد بديلًا سوى استخدام سيارته ليعمل مع «كريم».
شرح لي حسن: أعمل في «كريم» منذ تسعة أشهر، قلَّ الربح الآن كثيرًا مقارنة بما جنيته في البداية، أعمل ليل نهار، لا أملك رفاهية الراحة أو العمل لخمس ساعات فقط، لكن دعني أخبرك شيئًا عن خداع الشركتين للسائقين...
أمسك حسن هاتفه المحمول، تصفحه قليًلا ثم رفعه في وجهي، قال: أنشأنا محادثة جماعية على «واتساب» لسائقي «أوبر» و«كريم»، وتجمُّعنا كشف لنا الكثير، مثلًا أخبرَت «أوبر» سائقيها أنها ستتوقف عن تقاضي نسبتها من الأرباح في ديسمبر 2016، بعدها عادت لتحتسب عمولتها مرة أخرى لكنها رفعت التسعيرة على الزبائن، فهمنا حينها أنها لعبة لتجذب عددًا أكبر من قائدي السيارات.
شركة «أوبر» أعلنت بالفعل في نوفمبر 2016 أنها تنازلت عن نسبة الـ20% التي تحصل عليها من قيمة الرحلات، ثم قررت العودة لتقاضي النسبة من السائقين مع زيادة التسعيرة على الركاب بعد ارتفاع أسعار الوقود.
يضيف حسن: تتلاعب الشركتان بتقييم قائدي السيارات، لأنه كلما كان تقييم الركاب للسائق جيدًا حصل على مكافأة إضافية، لذا تتلاعب الشركة في نسب التقييم، وأحيانًا تقيِّم بلا أساس حقيقي. كشف لنا الحديث مع قائدين آخرين في الشركتين أن كثيرين تعرضوا للخداع وأن في التعامل عشوائية، ورغم ذلك نحن مكبَّلون بقيود الشركة لأنه لا بديل. تسألني عن اللي رماني على المر؟ الأمَرُّ منه.
اقتصاد تشاركي؟ بالطبع لا
ركبت سيارة هيثم، الذي يعمل سائقًا مع «أوبر»، من وسط القاهرة. كان هيثم يعمل مدير مصنع، إلا أن الظروف الاقتصادية السيئة تسببت في خسارة المصنع. فقد هيثم عمله فلجأ إلى «أوبر».
يؤمن الرجل بأن الشركة هي الرابح الأكبر وأنه يتحمل كثيرًا هو ومن على شاكلته، قال وهو يستعرض أمامي حسابه على تطبيق «أوبر»: هذا هو ما حققته خلال الأسبوع الماضي من ربح صافٍ، 482 جنيهًا، حصَّلَت منها الشركة 116 جنيهًا نسبة عمولتها.
يتخيل هيثم: لو أن 20 ألف عربة تعمل مع «أوبر» وتُدخل لها 116 جنيهًا أسبوعيًّا، فسيصل ربح الشركة إلى أكثر من مليونَي جنيه كل سبعة أيام، تفوز «أوبر» بالمال ونتحمل نحن مصروفات البنزين والزيت وقطع الغيار ومضايقات رجال المرور. أي شراكة هذه؟ لكن ما باليد حيلة.
سيظلُّ التاكسي أكثر شعبية
أقلَّني محمد من مدينة السادس من أكتوبر إلى طريق الواحات. أخبرني خلال الرحلة أنه ترك عمله مهندسًا مدنيًّا لأنه لا يمنحه الربح الكافي، وابتاع سيارة أجرة ويعمل الآن سائقًا.
سألته إن كانت شركات التوصيل الجديدة أثَّرت على عمله، أجاب: فكرت كثيرًا فور ظهور هوجة «أوبر» و«كريم» أن أبيع التاكسي وأشتري بثمنه سيارة جديدة بالتقسيط أشغِّلها مع«أوبر». سبقني صديق لي، وفوجئت حينها بأن مكسبه من عمل أكثر من تسع ساعات يوميًّا لا يكفي، أيقنت حينها أن «أوبر» و«كريم» تخاطبان شريحة معينة من المصريين، وأن التاكسي سيظل أكثر شعبية.
سائقو «أوبر» و«كريم» سيخسرون
كنت في وسط القاهرة في اتجاهي إلى المقطم فأشرت إلى سيارة أجرة. توقف محمد وركبت بجواره. كان لمحمد منظور آخر للأمر ليس له علاقة بتأثير «أوبر» و«كريم» على قطاع التاكسي في مصر، كانت له حسبة خاصة.
قال لي: تعال نحسبها بالورقة والقلم، لو ابتعت عربة صينية مثلًا ماركة (BYD)، سعرها 160 ألف جنيه، الآن سأدفع جزءًا من المبلغ مقدَّما على أن أسدِّد ثلاثة آلاف جنيه كل شهر لشركة السيارات.
يوضح الرجل أن الخبرة تلعب دورًا أساسيًّا في العملية، فإضافةً إلى قسط السيارة الشهري سيدفع ألفَي جنيه مصاريف بنزين في الشهر، غير مصاريف زيت السيارة والكهرباء وقطع الغيار، وإطارات السيارة ستبلى سريعًا من كثرة الاستخدام، ثم إنه سيقطع عدد كبيرًا من الكيلومترات بالسيارة وهي لا تزال جديدة مما سيقلل سعرها عند البيع، فهل سيتبقى له ربح يكفيه ويكفي أسرته؟
يعرف محمد الإجابة جيدًا، يشرح لي: لا أتظاهر بالذكاء، لكني سائق تاكسي منذ عشرين عامًا، الخبرة جعلتني أعرف أدق تفاصيل متطلبات العربات، أما قائدو «أوبر» و«كريم» فلا يدركون ذلك لأنهم بلا خبرة، وربحهم الحالي ستقابله خسارة كبرى على المدى البعيد.
قد يهمك أيضًا: حكاية مصورة: ماذا تخبرنا ثلاجات المصريين عن الوضع الاقتصادي في البلاد؟
صائد «أوبر» و«كريم»
لم أكد أسأله عن رأيه في «أوبر» و«كريم»، وهو ينقلني من مصر الجديدة إلى شبرا، حتى ابتسم بخبث لم يُخفِه، ثم قال: لصوص، سرقوا منا الركاب، لا يدفعون ضرائب ولا يجددون رخصة القيادة كل عام، في حين نجددها كقائدي تاكسي وندفع ضرائب وغرامات، هل هذا عدل؟ لذلك قررت أن أحقق العدل بنفسي.
تأكدت من أن هذا السائق، الذي رفض ذكر اسمه، ﻻ يمزح، فلديه خطة مُحكَمة بالفعل شرحها خلال الطريق: أحيانًا أساعد صديقًا لي ضابط مرور في اصطياد عربات «أوبر» و«كريم» من فوق أحد مطالع كوبري أكتوبر، علامات محددة أعرفها نوقف بعدها العربة، مثلًا هاتف محمول فوق تابلوه السيارة الأمامي، عربات صيني وسيدة أو رجل في المقعد الخلفي، عندها أشير للضابط فيوقف السيارة ويسحب رخصتي العربة والقيادة ونحقق العدالة، هل في ما أفعله خطأ؟
القانون المصري يبدو أنه يقف في صف الرجل بالفعل، فـ«أوبر» و«كريم» تتمتعان بموقف يظهر سليمًا حقًّا، إذ تتعاملان مع شركات سياحة وأخرى لتأجير السيارات، إلا أن هذه الشركات تتعاقد مع سائقين يعملون على سياراتها لتوصيل الزبائن بأجر، وهو ما يخالف القانون الذي يمنع السيارات الملاكي من نقل ركاب بمقابل مادي، ويعرِّض سائقيها لغرامة فورية قدرها مئة جنيه.
ينتظر مجلس النواب أن تتقدم الحكومة بمشروع لتقنين أوضاع الشركتين، خصوصًا بعد تشكيل لجنة من سبع وزارات لكتابة مسوَّدة القانون في مارس 2016.
خدمة نظيفة
لماذا لم تتدخل الحكومة رغم أن سيارات الشركتين غير مرخَّصة؟
لا يرى ممدوح، صاحب التاكسي الأبيض الذي أعادني من المقطم إلى وسط البلد، أي مشكلة من وجود «أوبر» و«كريم».
وضَّح ممدوح كلامه: لم يتأثر عملي كثيرًا لأنني أتعامل مع زبائن بعينهم منذ فترة طويلة، حُزتُ ثقتهم بسبب نظافة سيارتي وجودة الخدمة التي أقدمها والتزامي بالمواعيد. أعتقد أن «أوبر» و«كريم» تلعبان على ذلك الوتر، تجذب الركاب بميزة الخدمة النظيفة.
يؤكد أن قائدي التاكسي مسؤولون بشكل أساسي عن استغلال «أوبر» و«كريم»، لأنهم اهتموا كثيرًا بالمال على حساب جودة الخدمة، لكنه يتساءل: لماذا لم تتدخل الحكومة رغم أن سيارات «أوبر» و«كريم» غير مرخَّصة؟
يصمت ممدوح قليلا قبل أن يضيف: بالتأكيد يوجد كبار لهم مصلحة في الأمر.
انتشار العدوى
أتاحت لي زيارة عمل في مدينة العاشر من رمضان بمحافظة الشرقية شمالي القاهرة أن أركب التاكسي المميز هناك بلونيه الأبيض والأحمر، وسألت السائق عن «أوبر» و«كريم» وهل امتد أثرهما إلى المدينة.
أخبرني أحمد أنه لا وجود للشركتين في العاشر من رمضان، لكن العدوى انتشرت، فيأتي قادة العربات الملاكي من محافظتي الإسماعيلية والسويس ليشغِّلوا سياراتهم كتاكسي، يقلدون «أوبر» و«كريم» ولكن لحسابهم. يمصمص أحمد شفتيه ويقول: كل من لا عمل له صار قائد تاكسي، من إذًا سيكون الزبون؟
«أوبر» 12 مرة في اليوم
جمعتني مائدة في أحد مقاهي القاهرة بالسيد الألفي، وهو صاحب شركة دعاية وإعلان، فسألته عن رأيه في شركات الاقتصاد التشاركي.
افتتح الألفي حديثه بتأكيد أنه يستخدم «أوبر» و«كريم» نحو اثنتي عشرة مرة يوميًّا: بحكم عملي أحتاج إلى التنقل كثيرًا، لا أقود سيارتي إلا ليلًا، ولست بحاجة إلى سائق خاص، «أوبر» و«كريم» قدمتا لي سائقًا خاصًّا يخضع للتقييم، كأن كل واحدة منهما شركة «ليموزين» تقدم خدمة تأجير السيارات.
يتحدث السيد الألفي من منطلق كونه عميلًا، لكنه يؤكد أن مالك السيارة سينظر للأمر على أنه فرصة لدخل إضافي، لكنه لن يكون دخلًا أساسيًّا أبدًا.
أكثر أمانًا أم وجاهة اجتماعية؟
كانت غادة تقف مع طفليها تنتظر سيارة «أوبر» التي ستوصلها إلى بيت والدتها في حي دار السلام. توترت في البداية لمَّا أخبرتها أنني أجري تحقيقًا عن «أوبر» و«كريم»، ثم قالت بعفوية: أستخدم التطبيق لأن السيارات أكثر أمانًا، يطمئن زوجي وهو يرى خط سيري على شاشة هاتفه المحمول، امرأة مثلي بطفلين تلجأ إلى ذلك لتشعر بأمان أكثر.
لكن الحياة ليست بهذه البساطة، إذ صارت الأجرة مرتفعة في الفترة الأخيرة بحسب غادة، التي تلجأ أحيانًا إلى المواصلات العامة، لكنها توضح: بعض السيدات يستخدمن «أوبر» و«كريم» على سبيل الوجاهة الاجتماعية، سيارة خاصة بسائق، رأيت كثيرًا من تلك الأمثلة حتى في دار السلام عند والدتي، رغم أنه حي متواضع.
اقرأ أيضًا: قصة مصورة: جيل «التهجير» يروي حكايات الظلم والقهر في قلب النوبة
سيارة أجرة برائحة الزمن
في شارع قصر العيني بوسط القاهرة لفتت نظري سيارة الأجرة تلك وهي تتهادى آتية من بعيد. ركبت إلى جوار الأسطى عبد الفتاح في سيارته التاكسي ذات اللونين الأبيض والأسود اللذين اختفيا من مفردات العاصمة منذ فترة.
كان كل شيء في الداخل قديمًا، المقود، المقاعد، الكاسيت، وكان عبد الفتاح ذاته مُسِنًّا. طلبت منه أن يلفَّ بي شوارع وسط البلد بلا وجهة، سألته عما يرى، قال: آخر أيام عز التاكسي الأبيض والأسود كانت في التسعينيات، كان لنا زبائننا الخصوصي بالإضافة إلى زبون الشارع العادي، جاءت حكومة أحمد نظيف وقررت إحلال التاكسي الأبيض بدلًا منا، هنا بدأت المأساة.
يشرح الرجل وأم كلثوم تغني في الخلفية بصوت متأثر بعُمرِ الكاسيت العتيق: فقدنا الزبائن، أعتمد في عملي الآن على ركاب عجائز مثلي يحافظون على العِشرة، وزبائن أصحاب مزاج مثلك يفضلون القديم. لا أعرف كثيرًا عن «أوبر» و«كريم»، ولا يهمني، إنها دائرة وتدور، ويومينهم وهييجي غيرهم.
أنهى عبد الفتاح كلامه ورفع صوت الكاسيت، انجلى صوت أم كلثوم أكثر وانجلى معه بعض ذكرياتي: تذكرت اعتياد المصريين اكتساب صداقة سائق تاكسي أبيض وأسود ليصير جزءًا من العائلة، تذكرت الأسطى عمرو صديق أبي قديمًا وتوصيله عائلتنا إلى المطارات والعيادات والمناسبات، تذكرت إفطارنا في رمضان داخل التاكسي في شوارع المدينة وحديث الأسطى عمرو عن فيلم «ليلة ساخنة» الذي يروي ليلة في حياة سائق تاكسي.
لكن الاقتصاد وحسابات المال والأعمال لا تهتم بذكرياتي ولا بعادات الأسر المصرية، فلا يزال كثيرون ينضمون إلى «أوبر» و«كريم» سعيًا وراء دخل أساسي أو إضافي، ولا تزال الشركتان تعملان بقوة وتتنافسان، بل وانضمت شركة محلية اسمها «أسطى» إلى المنافسة، ولا يزال التساؤل قائمًا: هل أنت شريك في الاقتصاد بالفعل، أم أنك مستغَلٌّ؟