هذا الموضوع ضمن ملف «الثورة والثوار». لقراءة موضوعات أخرى في الملف اضغط هنا.
تسير الأمور على النحو التالي: ستة آﻻف عضو من أكاديمية العلوم والفنون، التي توزع الجوائز المعروفة إعلاميًّا باسم «الأوسكار»، يصوتون في الفئات المختلفة؛ 24 فئة منذ عام 2001، لمنح جائزة «الأفضل» في كل إنجاز فني.
قواعد التصويت تلك تفرض أن تكون النتيجة في النهاية «توافقية»؛ أن يفوز بجائزة «أفضل فيلم» أكثر فيلم استطاع نَيل إعجاب أكبر عدد من المصوتين، وهو ما يجعل مساحة الخيارات «الثورية»، الخارجة عن النَّمط المألوف، نادرة للغاية.
مع تراكم السنين، أصبح هناك شكل معتاد لـ«الفيلم الفائز بالأوسكار»؛ أغلب الأفلام المتوجة، حتى العظيمة منها، تحمل صفة أو أكثر من بين أن تكون: ملحمية، ذات قصة إنسانية قريبة للقلب، مرتبطة بقضية سياسية/عالمية حاضرة، تدور عن شخصية حقيقية مؤثرة (تاريخيًّا أو عاطفيًّا)، متفوقة تقنيًّا بطريقة أو بأخرى.
بهذا المنوال، فإن الكثير من الأفلام «الثورية» وغير النمطية في تاريخ السينما؛ أفلام لمخرجين من قبيل شارلي شابلن أو ستانلي كوبريك أو سيدني لوميت أو روبرت ألتمان أو كوينتن تارنتينو وغيرهم، لم تتوَّج بالجائزة الأكثر شعبية عالميًّا لأنها، لحظة صدورها، لم تكن «توافقية» بالقدر الذي يجعلها تحوز إعجاب أكبر عدد من المصوِّتين.
لكن هناك في النهاية «تلك الحالات النادرة»، التي فاز فيها فيلم لا يتبع النَّمَط. نحاول هنا تتبُّع تلك الأفلام، والأهم: نحاول أن نفهم لماذا استطاعت أن تكون استثناءً؟
Rebecca
العلاقة بين «الأوسكار» وأفلام الغموض/الرعب/الإثارة/الجريمة عمومًا مُلتبسة، وعلى مدى تاريخ الجائزة الطويل، من النادر جدًّا أن تشاهد فيلمًا ينتمي لتلك الفئات مُكَرمًا، حتى في أكثر أزمنة الـ«فيلم-نوار» ازدهارًا، لم يُتوَّج سوى فيلم «نوار» واحد بالجائزة؛ (The Lost Weekend) عام 1945، خلال أكثر من عقدين.
«ريبيكا» (Rebecca)، إنتاج عام 1940، هو واحد من الاستثناءات القليلة، كان الفيلم الأول للمخرج ألفريد هيتشكوك في أمريكا بعد مسيرة ناجحة ومختلفة في بريطانيا، وأتى مدعومًا بحماس وميزانية كبرى ونجوم بحجم لورانس أوليفييه وجوان فونتين.
على الرغم من سيطرة القصص الملحمية والرومانسية على الجائزة في ذلك الوقت، ووجود فيلم بقيمة (The Grapes of Wrath)، الذي حاز بالفعل جائزة أفضل مخرج لـ«جون فورد»، أو (The Philadelphia Story)، الذي يحاكي الشكل الهوليوودي المثالي وفاز بجائزتي أفضل سيناريو وممثل، إلا أن اختلاف «ريبيكا» عن شكل الفيلم الأمريكي في ذلك الوقت، والقدر الكبير من التفوق والإتقان في أغلب عناصره، جعله الفائز بجائزة أفضل فيلم، ليكون العمل الوحيد في تاريخ هيتشكوك الذي استطاع الحصول عليها.
Annie Hall
المخرج الأمريكي وودي آلن من الثائرين الكبار على قواعد السينما التقليدية، تحديدًا داخل إطار الصناعة في هوليوود. يشعر المرء أحيانًا أن جانبًا من تلك الثورية مربوط بكثافة الإنتاج (منذ عام 1977 حتى 2016 لم يمر عام دون أن يُخرج فيه فيلمًا على الأقل، باستثناء 1981)، وأن كثافة الإنتاج مربوطة بدورها برغبته في ملاحقة وتجريب كل فكرة تمر في باله.
(Annie Hall)، إنتاج 1977، واحد من أكثر أفلام آلن ثورية على كل الأصعدة؛ فهو الفيلم الذي يجعل فيه بطله يتحدث إلى الجمهور منذ أول مشهد، يوقف بعض الأحداث أحيانًا لينظر إلى الكاميرا ويعلق عليها، يستخدم الرسوم المتحركة في مشهد من أجل استعادة ذكرى معينة، يكتب ترجمة على الشاشة لأفكار الشخصية الداخلية مقارنة بما تقوله (وهو المشهد الذي صار يُستخدم في كل كتب السيناريو لشرح مصطلح Sub-Text)، وغيرها من التفاصيل في المونتاج والتصوير (كيف يبدأ هذا المشهد مثلًا) واستخدام الموسيقى، كل شيء على علاقة بالسينما كان ثوريًّا في هذا الفيلم.
لذلك، من المُدهش أنه تُوِّج في النهاية بجائزة أفضل فيلم ومخرج وليس أفضل سيناريو فقط كعادة أفلام وودي آلن، في لحظة نادرة جدًّا من تقبُّل المزاج العام لهذا القدر من التجريب السينمائي، وتكريمه بجائزة لها تلك الشعبية.
قد يهمك أيضًا: كيف تختار أكاديمية «الأوسكار» الفيلم الفائز بأفضل مونتاج؟
The Silence of the Lambs
«صمت الحملان» هو فيلم الجريمة الوحيد الذي تُوِّج بـ«الأوسكار».
في العادة، يُسمى الرُّبع الأخير من العام «موسم أفلام الجوائز»، وبنسبة تزيد عن 90% تكون الأفلام المرشحة للأوسكار قد عُرضت في الأشهر الثلاثة الأخيرة من العام.
صُنَّاع «صمت الحملان» (The Silence of the Lambs) لم يتخيَّلوا أبدًا أن فيلمهم، الذي يدور عن تحقيق وجريمة، وقاتل متسلسل يختطف ضحاياه، ودكتور يأكل لحوم البشر، يمكن أن يكون مؤهلًا لمجرد الترشح للأوسكار، لذلك كان تاريخ عرضه في أمريكا هو 14 فبراير.
ما حدث بعد ذلك لم يخطر على بال أكثر صُنَّاع «صمت الحملان» تفاؤلًا، ليس فقط نجاحًا تجاريًّا كبيرًا في شباك التذاكر؛ بل استقبال نقدي حافل، وأحاديث لا تتوقف عن أداء أنطوني هوبكنز في الفيلم، وكون شخصية «هانيبال ليكتر» واحدة من أهم الشخصيات الشريرة التي عرفتها هوليوود طوال تاريخها.
مع الوصول لنهاية العام، ظل الفيلم مسيطرًا على أحاديث الجميع، ووصل دور هوبكنز من الشهرة والصيت إلى درجة قرَّر منتجو الفيلم ترشيحه لجائزة أفضل ممثل في دور رئيسي وليس مساعد، رغم أن مدة ظهوره على الشاشة لا تتجاوز رُبع الفيلم، ومُقسَّمة في أربعة مشاهد فقط.
في ليلة 30 مارس عام 1992، صار «صمت الحملان» ثالث فيلم (والأخير حتى الآن) يُتوَّج بجوائز «الأوسكار» الخمس الرئيسية؛ فيلم ومخرج وممثل وممثلة وسيناريو بعد (It Happened One Night) لـفرانك كابرا عام 1934، و(One Flew Over the Cuckoo's Nest) لـميلوش فورمان عام 1975.
في عقد تسعينيات عظيم جدًّا لسينما الجريمة، شهد أفلامًا مثل (The Crying Game) و(Pulp Fiction) و(Se7en) و(Fargo) و(The Usual Suspect) و(L.A. Confidential)، على اختلاف صنوفها وأنواعها، كان «صمت الحملان» هو فيلم الجريمة الوحيد المتوَّج بـ«الأوسكار».
No Country for Old Men
في أعظم الأعوام السينمائية خلال الألفية، كان الأكثر منطقية ربما لنمط «أفلام الأوسكار» هو تتويج فيلم عظيم آخر مثل (There Will Be Blood) بأفضل فيلم في 2007، بكل ما فيه من ملحمية وأهمية وتتبُّع لشخصية مضطربة وقصة صعود على خلفية من التاريخ الأمريكي الحديث، تمامًا كما يحب المصوتون في الأكاديمية.
لكن، وفي لحظة غريبة أخرى من اتفاق المزاج العام على فيلم «غير معتاد»، كانت الأغلبية في جانب «لا بلد للعجائز» (No Country for Old Men)، عمل الكوينز (Ethan Coen وJoel Coen) العظيم الذي يخالف تمامًا الشكل المعتاد لفيلم فائز بـ«الأوسكار».
يختلف الفيلم بدءًا من القصة البسيطة ظاهريًّا عن مُلاحقة قط لفأر، ومرورًا بحبكة مُبسطة بقدر قصته، ولحظات الترقُّب التي يخلقها شريط صوت صامت في أوقات كثيرة، حتى الحوار الفلسفي، ونَدرة الموسيقى (أو اختبائها)، والنهاية المفتوحة.
كلها تفاصيل تليق بفيلم أوروبي (رُشِّح «لا بلد للعجائز» للسعفة الذهبية في مهرجان «كان» بالفعل)، ولكن النتيجة المدهشة كانت تتويجه بأوسكار أفضل فيلم وإخراج، للمرة الوحيدة في تاريخ الأخوين كوين، اللذين عادا إلى بيت العائلة بستة تماثيل ذهبية في تلك الليلة.
اقرأ أيضًا: كيف استغلت الأنظمة السينما للترويج للجيش والحرب
The Artist
قد لا يكون الأمر مخالفةً للنمط بقدر ما هو خلق نمط جديد في عصر يتعاطف كثيرًا مع النوستالجيا والأزمنة الضائعة ومأساة أُفُول النجومية. قد لا يكون خيارًا غير تقليدي بقدر ما هو تحوُّل جماليات؛ مثل استخدام الأبيض والأسود أو محاكاة نمط الحقبة الصامتة، إلى خيار أكثر «شعبية». ولكن، رغم هذا وذاك، فجملة «الفيلم الفرنسي الصامت المتوَّج بأوسكار أفضل فيلم» تبدو غريبة وغير معتادة.
يكفي أنه لم يسبق لفيلم صامت أن فاز بجائزة أفضل فيلم، حتى في السنوات الأولى للجائزة التي كان لا يزال يُنتَج خلالها أفلام صامتة، بعضها لرموز مثل شارلي شابلن وباستر كيتون، باستثناء (Wings) في عام الجائزة الأول، عام 1928.
ويكفي أنه، خلال تاريخ «الأوسكار» الطويل، لم يسبق لفيلم ليس أمريكيًّا أو بريطانيًّا (بمعنى أدق: غير ناطق بالإنجليزية) أن فاز بجائزة أفضل فيلم، حتى في تلك السنوات المسروقة التي رُشِّح فيها إنجمار بيرجمان أو كوستا جافراس أو أنج لي (في نسخته التايوانية) للجائزة، حتى فعلها (The Artist) في 2011، وحوَّل كل عناصره التي يفترض أن تكون ضده إلى نقطة قوة لصالحه.
كانت لحظة أخيرة من الخروج عن النمط في تاريخ جائزة «الأوسكار»، ولم تتكرر منذ ذلك الحين.