يغيِّر باراك أوباما أدواته دائمًا بمهارة. الرئيس الأمريكي السابق لا يرغب في أي صدام مباشر، تحديدًا مع الرئيس دونالد ترامب وإدارته المحافظة. لكنه في الوقت نفسه لا يبدو على استعداد للتخلي بسهولة عن المساحة التي احتلها على الساحة السياسية لمدة ثماني سنوات، سيعود هذه المرة إلى الحياة المدنية عبر شيء غير مألوف في عالم السياسة والعمل العام: «نتفليكس».
في بداية مارس 2018 نشرت صحيفة «The New York Times» تقريرًا عن مفاوضات بين الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما وزوجته «ميشيل»، مع شركة نتفليكس، لإنتاج سلسلة حصرية من البرامج التي ستوفر له منصة عالمية بعد خروجه من البيت الأبيض، فمتابعو نتفليكس يقترب عددهم من 118 مليونًا.
كانت الصفقة حينها مبهمَة المعالم، كل ما نعرفه أن ناتجها سيكون محتوى حصريًّا من الزوجين، إلا أن «إيريك شولتز»، المستشار السابق لأوباما، قال للصحيفة الأمريكية إن الرئيس السابق وزوجته لطالما آمنا بقوة القصص في إلهام المواطنين، وكانا دائمًا يهتمان بحكايات عن أشخاص بذلوا جهودًا ليصنعوا فرقًا يغير العالم.
يفتح الاتفاق أمام أوباما منصة جديدة ومختلفة وغير محدودة للتواصل مع الناس. يقترب عدد متابعي نتفليكس من عدد المتابعين الذين يصل إليهم بالفعل عبر حساباته على وسائل التواصل الاجتماعي، إذ يملك أوباما ما يزيد عن 100 مليون متابع على تويتر، و55 مليونًا على صفحته في فيسبوك، بينما يصل عدد متابعي حساب زوجته ميشيل أوباما إلى 10 ملايين.
نتفليكس وأوباما: الإفصاح عن المشروع
تحدث أوباما لأول مرة علنًا عن الاتفاق خلال مؤتمر تقني في لاس فيغاس نظمته شركة «Okta». وقتها فسر أوباما التعاون مع نتفليكس بأنه سيركز على رواية القصص. وقال إنه يأمل في أن هذه القصص ستساعد الناس على رؤية الآخرين وفهمهم بشكل أفضل، وتجاوز الانقسام السياسي الذي غرقت فيه واشنطن لوقت طويل. وقال لآلاف الحاضرين في المؤتمر إنه لم يكن ليصبح رئيسًا لولا أنه تعلَّم في مسيرته المهنية أهمية القصص.
شرح أوباما للحضور أن وظيفته الأولى بعد الجامعة كمنظم مجتمع (وظيفة تعتمد على التفاعل مع الناس والاشتباك مع اهتماماتهم بغرض العثور على حلول مجتمعية) ساعدته على توحيد صف الفصائل المجتمعية المختلفة لحل المشكلات، بدءًا من الجريمة حتى المدارس التي تعاني نقص التمويل. أحد مديريه وقتها من ذوي الخبرة نصحه بأن عليه أن يقضي شهرًا يتحدث فيه مع الناس ويسمع قصصهم، قبل أن يبدأ في اقتراح حلول لمشكلاتهم. وليس هذا الاهتمام غريبًا على أوباما، فقد تكرر عددًا من المرَّات في فترته الرئاسية.
اقرأ أيضًا: نتفليكس وأمازون: لا مكان لكما في المهرجانات المحترمة
ما يفعله الرؤساء العاطلون عن العمل
لكن العمل مع شركة إنتاج عالمية، مثل نتفليكس، أمر جديد بين رؤساء أمريكا السابقين، فأغلبهم يتجه إلى الراحة والسفر، أو مواصلة العمل العام بشكله التقليدي، أو حتى تأليف الكتب والمذكرات.
توارى الرئيس الأمريكي السابق «جون آدامز »، على سبيل المثال، عن الأنظار تمامًا، وقضى ما تبقى من عمره بعيدًا عن الشهرة مع عائلته. وعاد «جيمس ماديسون» إلى مزرعته، في الوقت الذي مارس فيه نشاطًا واسعًا ضمن منظمة مثيرة للجدل تدعو إلى عودة العبيد. أما «ثيودور روزفلت»، فقد أجرى عدة رحلات استكشافية، وألَّف بعيدًا عن نشاطه السياسي نحو 25 كتابًا في التاريخ والجغرافيا والفلسفة والأحياء.
«ريتشارد نيكسون»، الذي تنحى بعد فضيحة شهيرة، عانى مشكلات صحية ومالية متعددة حتى كتب مذكراته وأجرى مقابلات إعلامية مدفوعة الأجر.
ربما تكون حياة «جيمي كارتر» بعد الرئاسة أقرب شكل لما اختاره أوباما، إذ عمل منذ خروجه من البيت الأبيض في الأعمال الإنسانية، وأنشأ «مركز كارتر الرئاسي»، وهو مؤسسة غير ربحية تهدف لتحسين مستوى الحياة في عدد من البلاد، وفاز بجائزة نوبل للسلام لجهوده في البحث عن حلول سلمية للصراعات الدولية الطويلة.
ماذا نتوقع من أوباما على نتفليكس؟
أشارت صحيفة «The Times» إلى أن الأفكار التي ربما يعرضها البرنامج قد تتضمن مناقشة موضوعات كانت وثيقة الصلة بسياسات أوباما كرئيس، مثل الصحة العامة وحق الانتخاب والهجرة. والتغريدة التي كتبها حساب نتفليكس على تويتر وضحت أن الاتفاق سارٍ لعدة سنوات، ويشمل تقارير وأفلامًا وثائقية وحلقات مسلسلة.
لم تشر أي صحيفة إلى الشروط المالية للاتفاق بين أوباما ونتفليكس، ولا إلى الأجر الذي قد يتلقاه هو وميشيل مقابل عملهما. لكن مصادر مقربة من المفاوضات قالت لـ«CNN» إن المقابل المالي «مكون من ثمانية أرقام»، أي أكثر من 10 ملايين دولار.
قد يهمك أيضًا: مسلسلات الإنترنت: هل نودع التلفزيون قريبًا؟
من المكتب البيضاوي إلى طاولة الأعمال
وسَّعت نتفليكس باتفاقها مع أوباما قاعدتها، خصوصًا في أوروبا، حيث لا يزال أوباما مشهورًا.
أسس أوباما وزوجته، قبل صفقة نتفليكس، شركة إنتاج تدعى «Higher Ground Productions». والاتفاق مع نتفليكس لم يذكر أن عملهما سيكون معها حصريًّا، لذا سيكون الباب مفتوحًا أمام الرئيس السابق وحرمه للعمل على إنتاج أعمال أخرى مع موزعين مختلفين.
لم يعين الزوجان شريكًا للإنتاج ليراقب العمل اليومي ويطوره بعد، لكن المطَّلعين على الأمور المماثلة في هوليود يتوقعون تعيين منتج مشهور أو مدير استوديو تنفيذي كبير. أحد هؤلاء (يعمل لصالح شركة ضخمة في هوليوود لكنه رفض التصريح باسمه) قال إنها قد تكون أعظم وظيفة في العالم.
يمنح الاتفاق مؤسسة أوباما قاعدة واسعة، إذ يمكنها الاستفادة من 125 مليون متابع لنتفليكس في قضاياها الاجتماعية. عدد من مبادرات المؤسسة يستهدف صغار الشباب، وهو الأمر نفسه الذي تفعله نتفليكس في مسلسلات مثل «Stranger Things» و«13 Reasons Why».
حققت نتفليكس قبل اتفاقها مع أوباما إنجازات كبيرة، إذ أعلنت في فبراير 2018 عن أول مسلسل تنتجه باللغة العربية، ووقعت في الشهر نفسه اتفاقية مع «OSN» لأول مرة في الشرق الأوسط.
استطاعت نتفليكس بتلك الخطوة أن تحتل نفوذًا في مجال إعداد البرامج، وهذه إشارة أساسية إلى توسيع قاعدتها، وبخاصة في أوروبا ومناطق مختلفة من العالم، حيث ما زال أوباما مشهورًا.
أنصار ترامب ضد أوباما ونتفليكس
رغم التجاهل الذي يبديه الرئيس السابق ومستشاروه تجاه المحافظين وترامب، وحتى بعد تأكيد المقربين منه أن البرامج التي سيقدمها مع نتفليكس لن تكون ذات طابع حزبي أو تحمل ملامح سياسية، بدأ عدد من مؤيدي ترامب حملة مضادة للاتفاق وهددوا بمقاطعة الشركة.
لكن هذه ليست المرة الأولى التي تتلقى فيها نتفليكس هجومًا من المحافظين، إذ تعرَّض الموقع لموقف مماثل بعد انضمام «سوزان رايس»، السفيرة السابقة في عهد أوباما، إلى مجلس إدارة الشركة، في رد فعل على تصريح أدلت به عام 2012 بعد الهجوم على السفارة الأمريكية في ليبيا. إضافةً إلى المرة التي أعلن فيها المدير التنفيذي للموقع أنه سينتخب هيلاري كلينتون، وأن ترامب سيدمر كثيرًا من الأمور العظيمة في أمريكا.