هل هذا حلم أم واقع؟
الثيمة السابقة كانت دومًا محور اهتمام في الثقافة الغربية. من الصعب أن نذكر نقطة بداية محددة، لكن إذا تحدثنا من منطلق الرواج والشعبية، يمكن القول إن رواية «أليس في بلاد العجائب» التي صدرت عام 1865، للروائي الإنجليزي «لويس كارول»، قد تكون أول المحاولات الأدبية التي حققت رواجًا عالميًّا.
هوليوود لم تنفصل عن هذه الثيمة، وتفننت في دمجها بأجواء أخرى فلسفية وعلمية. القائمة لا تنتهي، لكن أشهر النماذج في آخر عقدين وأهمها، قد تكون ثلاثية «The Matrix» للأخوين «وتشاوسكي» (1999-2003)، وفيلم «Inception» للمخرج «كريستوفر نولان» (2010).
لا عجب عامة في هذا الارتباط بين الأحلام والخيال الروائي. في الأحلام نفعل المستحيلات، نحقق طموحاتنا، نقابل أقاربنا الأموات، نصارع شياطيننا، ننتقل الى أي مكان، نحطم باستمرار حائط المنطق والمعتاد في السرد، لنفرض قواعد جديدة.
في مسلسل «Maniac» (المعتوه) الذي أنتجته «نتفليكس» من إخراج «كاري فوكوناغا»، نميز باستمرار كمُشاهدين بين ما هو حلم وما هو حقيقة. لكن تأثير الثيمة هنا مستمر في البطلين الأساسيين.
«أوين»، الذي يؤدي دوره «جونا هيل»، شاب محبط وانطوائي بسبب طباع أسرته القوية الثرية المسيطرة، التي تفرض عليه عزلة وضغوطًا نفسية، باعتباره الابن الأضعف والأقل نجاحًا وسط الباقين. و«آني» (إيما ستون)، شابة مكتئبة ومحطمة بسبب مأساة عائلية مرت بها، تركت بداخلها إحساسًا بالذنب.
الاثنان هنا في رحلة غريبة للولوج في تجربة علمية وطبية جديدة من نوعها لعلاج المرضى نفسيًّا. تجربة تتضمن مزيجًا بين هلوسة المخدرات وبرامج التحكم الكمبيوترية، لتخليصهم تمامًا من مصادر عقدهم ومتاعبهم النفسية عن طريق تعريضهم لمغامرات وتجارب خيالية.
مع هذا القالب في السرد، يسهل استنتاج أحد أهم نقاط التسلية في المسلسل: «التجديد». ما نتابعه على مدار حلقاته العشرة في الموسم الأول يشمل مغامرات، نرى فيها البطلين في شخصيات وأجواء قصصية وبصرية مختلفة، إذ تتحول التركيبة هنا من «قصة داخل قصة» أو «فيلم داخل فيلم»، لتصبح «عدة أفلام داخل مسلسل واحد».
من المبهر متابعة تطور «جونا هيل» ليصبح ممثلًا دراميًّا له ثقله.
إيما ستون الرابح الأكبر في هذه اللعبة، والعنصر الأقوى فنيًّا في المسلسل. من جديد تثبت أنها ضمن أفضل مواهب جيلها، بفضل قدرتها على الانتقال بسهولة بين الشخصيات والمَشاهد الطفولية العابثة بكل ما يوفره ذلك من مرح وكوميديا، إلى الشخصيات والمَشاهد ذات الطابع الدرامي الجاد، بكل ما يوفره ذلك من تأثير عاطفي.
حتى فترة قريبة، كانت المسلسلات الملجأ الذي يهرب إليه النجوم بعد انطفاء بريقهم في شباك التذاكر. الآن، في عصر ارتفعت فيه المعايير الإنتاجية للمسلسلات، واختطفت «نتفليكس» وغيرها، باقة من أبرع المؤلفين والمخرجين، وتحول الإنترنت إلى منصة عرض متوفرة في كل منزل، أصبح من العادي أن تنحاز ممثلة مثلها إلى مسلسل، وهي في أوج نجوميتها.
قد يهمك أيضًا: هل تُغير «نتفليكس» الدراما العربية؟
«جونا هيل» أقل توهجًا في المنافسة، لكن من المبهر متابعة تطوره المستمر، من ممثل بدأ مشواره بشخصية ثابتة (مراهق الثانوية السمين خفيف الظل)، ليصبح ممثلًا دراميًّا له ثقله، قادرًا على توظيف قدراته الكوميدية لخدمة شخصيات معقدة.
كلاهما يتحرك في المسلسل طوال الوقت، بحمولة مزدوجة تمثيليًّا. حمولة تتضمن الشخصية الأساسية لكل منهما، والشخصية الفرعية الموجودة في كل مغامرة خيالية، التي تحمل أيضًا قدرًا من طباع الشخصية الأساسية وذكرياتها ومشكلاتها.
ينحاز «Maniac» بصريًّا إلى ناحية مختلفة أكثر عبثية وجنونًا، ويسهل قراءة تأثير فترة الثمانينيات تحديدًا في اختيارات المخرج.
السيناريو ثمرة تعاون بين «كاري فوكوناغا» والسيناريست «باتريك سوميرفيل»، في اقتباس من المسلسل النرويجي الأصلي الذي حمل الاسم ذاته. لكن يستحيل لمن شاهد الأصل أن يرى النسخة الأمريكية مجرد إعادة إنتاج، لأنها ببساطة ليست إعادة سرد بقدر ما هي اقتباس للفكرة الرئيسية فقط.
بدأ فوكوناغا مشواره السينمائي بإخراج نسخة جديدة من رواية «جين آير» عام 2011، ثم حقق شهرته لاحقًا في الإخراج بفضل الموسم الأول من مسلسل الجريمة «True Detective» وفيلم «Beasts of No Nation». في كل هذه الأعمال اتجه بصريًّا إلى الشكل الكلاسيكي الواقعي، لأنه الأنسب لهذه القصص.
في «Maniac» ينحاز فوكوناغا بصريًّا إلى ناحية مختلفة أكثر عبثية وجنونًا، ويسهل قراءة تأثير فترة الثمانينيات تحديدًا في اختياراته. من المفترَض أن الأحداث مستقبلية، لكنه اختار مستقبلًا أقرب إلى خيال روايات عقد الثمانينيات وأفلامه، مستقبلًا لا انتشار فيه للهواتف المحمولة، ولا وجود فيه للشكل الحداثي في أجهزة الكمبيوتر وشاشاتها.
تأثير الثمانينيات يمتد أيضًا إلى زوايا تصوير وتكوينات بصرية ولونية وتصميمات ديكور، تُذكرنا بأعمال المخرج «تيري غيليام» وألوانه الزاعقة، وخصوصًا فيلمه «Brazil». من وقت إلى آخر، توجد لمسات سريعة تذكرنا بعمالقة آخرين. هناك مثلًا مشهد دموي سَادي لا يقل قسوة عن مشاهد «ديفيد كروننبرغ» و«بول فيرهوفن» خلال نفس الحقبة.
ليس من المبالغة ذكر أن هذا الانحياز إلى الثمانينيات ليس فقط وليد اختيارات فوكوناغا المخرج، بل أيضًا انحياز تجاري واضح في اختيارات «نتفليكس» عامة. هذا الانحياز منطقي جدًّا إذا اتفقنا أن كثيرًا من المشتركين في خدماتها، هم ببساطة ممن عاشوا طفولتهم في الثمانينيات وأوائل التسعينيات.
هذه النقطة جزء من أسباب النجاح الساحق الذي حققته «نتفليكس» في مسلسل «Stranger Things»، وهو عمل قائم بالكامل على إعادة تدوير أهم كلاسيكيات عقد الثمانينيات، ومخاطبة نوستالجيا ملايين المتفرجين.
رغم هذا الطابع الثمانينياتي بصريًّا، يرسم «Maniac» خريطة المسلسلات المعاصرة وشروطها الضخمة إنتاجيًّا، المصنوعة بحرفية لمخاطبة نفس الجمهور العاشق لأفلام الأكشن والإثارة، باعتباره مسلسلًا يندرج تحت تصنيف «مسلسلات اللحظات الضخمة» (Big Moment Tv).
في هذا النوع، يحرص صناع المسلسل على تطعيم كل حلقة بمشهد أو حدث ضخم ومهم ومبهر، بهدف جذب انتباه جمهور المنازل، الذي يتابع المسلسلات أحيانًا بنصف انتباه، وهو يلعب على هاتفه المحمول أو يتحدث مع أفراد الأسرة. فائدة هذا النوع من المَشاهد تمتد أيضًا إلى السوشيال ميديا، التي يتبادل عليها الملايين تغريدات وتعليقات تثير الاهتمام بما يحدث في المسلسل، وتمثل دعاية مجانية لمشاهدته في حد ذاتها.
النموذج الأشهر حاليًّا قد يكون مسلسل «Game of Thrones» الذي دشن لعبة الموت المفاجئ لأحد الأبطال، كقالب مستمر لصياغة هذا المشهد والحدث الضخم المطلوب.
في «Maniac» لا يوجد قالب ثابت مماثل لتنفيذ الـ«Big Moment»، لكن يسهل استخلاص مشهد وحدث من كل حلقة. يُحسب لفوكوناغا في هذه النقطة، سواء السيناريست أو المخرج، أن اختياراته في هذه اللعبة ليست دخيلة على القصة.
في أحد هذه الاختيارات مثلًا، يقرر تنفيذ صراع جاسوسية بالمسدسات في «مشهد متصل» (Long Take)، وهو ما يذكرنا بمشهد اقتحام مماثل في مسلسله السابق «True Detective». قيمة التنفيذ بهذه الطريقة لا تكمن في إبهار المُشاهد وتسليته فقط، بل تمتد لتصبح جزءًا منسجمًا مع أجواء السخافة والتصنع والافتعال التي يتعرض لها الأبطال، ومعهم المتفرج في هذه المغامرة تحديدًا.
أصبح للمسلسلات الضخمة شروطها وثوابتها، تمامًا مثل الأفلام الهوليوودية الضخمة. فالميزانية الأكبر تعني حرية فنية أقل.
الطريف أيضًا، ما دمنا تحدثنا عن «نتفليكس» ومثيلاتها، أن الإنترنت كوسيط عرض سمح بمرونة غير معتادة لصناع المسلسلات. بعض حلقات المسلسل لا تتجاوز مدتها 23 دقيقة، بينما يمتد غيرها إلى 45 دقيقة.
هذه المرونة مستحيلة التحقق في البرامج التلفزيونية، لأن جدول العرض المتواصل لمدة 24 ساعة، يشترط انتظام مدة العرض في كل الحلقات. يمكننا الآن أن نشكر الإنترنت بالتأكيد، لأنه سينقذ صناع المسلسلات مستقبلًا من شرط إنتاجي عتيق وسخيف، ينتج عنه عادةً تطويل غير مبرَّر.
إجمالًا، يجنح «Maniac»، رغم مزاياه الكثيرة، ناحية التسلية أكثر من أي شيء، ويضحِّي من وقت إلى آخر بحبكته الرئيسية، وما تطرحه من فُرص لمناقشة الدوافع الانسانية، مقابل تقديم هذه التسلية. المقارنة بمسلسل آخر لنتفليكس، هو «The End of the F***ing World»، الذي تدور أحداثه أيضًا عن شاب وفتاة يعانيان أزمات نفسية، ويتورطان في رحلة معًا، توضح الفارق بين المسلسلات الضخمة إنتاجيًّا وبقية المسلسلات العادية.
اقرأ أيضًا: «نهاية العالم ابن الـ****»: لذة تجربة المشاعر العادية لأول مرة
الآن أصبح للمسلسلات الضخمة شروطها وثوابتها، تمامًا مثل الأفلام الهوليوودية الضخمة. الميزانية الأكبر تعني حرية فنية أقل، نتجهً لعصر «مسلسلات البلوكباستر» الحالي، إن صح هذا التعبير المسروق من عالم السينما. وسنعرف لاحقًا مع تراكم التجارب العملية، مزايا صناعة المسلسلات بهذا النمط وعيوبها.
يبقى أن نذكر أن منتجي سلسلة أفلام «جيمس بوند» اختاروا كاري فوكوناغا لإخراج الفيلم القادم، المنتظَر عرضه في 2020. هذه شهادة إثبات أخرى لأن المسافة بين عالم المسلسلات والأفلام لم تعد ضخمة كما كانت في السابق، وشهادة لفوكوناغا باعتباره من أهم مخرجي عصره.
قريبًا سنعرف نتيجة الاختيار، لكن قدرة فوكوناغا على الالتزام بنمط كلاسيكي في أعماله السابقة، وتجدده هنا في مسلسل خيالي يسمح بمساحات عبثية وجنونية، كلها عناصر تنبئ بفيلم بوند ممتاز، فيلم يرث ثوابت السلسلة ومزاياها دون أن ينسى وضع بصمة مختلفة.