لكل عصر «موضة» من الأفلام، وموضة العصر الحالي هي أفلام الكوميكس (القصص المصورة).
ومع تنامي عدد هذه الأفلام سنويًّا، إلى جانب القوى الخارقة لأبطالها، أصبحت فكرة أن نشاهد نهاية أحد «الخارقين» أمرًا نادرًا، ولكن الأكثر ندرة هو أن تكون هذه النهاية جيدة لدرجة أن تعيد تعريف الجمهور وصُنَّاع السينما كيفية إنهاء سلسلة أفلام.
لهذا بالتحديد يعد فيلم «لوغان» (Logan) تجربة خاصة للغاية.
ﻷفلام الكوميكس قواعد.. فيلم «لوغان» يخرقها
منذ انطلاق صيحة أفلام الكوميكس أو الأبطال الخارقين (السوبر هيروز)، التي يمكن التأريخ لها منذ عام 2000 مع بداية سلسلة «X-Men»، التي لحقتها سلسلة «Spider-Man» في عام 2002، اعتمدت السينما عوالم أفلام الكوميكس، ليبدأ إنتاج عشرات الأفلام التي تحصد مليارات الدولارات، ومع هذا الازدياد أصبحت لهذه الأفلام قواعد غير مُعلنة.
1. عنف يمكن للرقابة تمريره
أولى هذه القواعد هي إمكانية تصنيف الفيلم رقابيًّا بما يسمح للمراهقين بمشاهدته، فجميع أفلام الأبطال الخارقين، باستثناءات نادرة مثل «Deadpool»، تخضع لتصنيف «PG-13» الأمريكي، بما يعني إمكانية حضور مَن هم أكبر من 13 عامًا بحرية تامة، وهؤلاء هم المراهقون والشباب الذين يمثلون نسبة كبيرة من جمهور السينما بوجه عامٍّ، وجمهور هذه الأفلام بالتحديد.
في المقابل، يقدم صُنَّاع الأفلام شروطًا، أو ربما تنازلات، للحصول على هذا التصنيف، أهمها عدم وجود مشاهد دموية عنيفة، لهذا نلاحظ في أفلام الكوميكس أنه، رغم كثرة المعارك والقتلى، من النادر مشاهدة دماء أو لقطات بشعة، بل يحدث القطع قبل مشاهِد القتل مباشرة.
قد يبدو هذا أفضل لمن يكرهون العنف، لكنه من جانب آخر يضع بعض القيود على مخرجي الأفلام، ولكي ندرك هذا يمكن أن نعود إلى الفيلم الشهير «The Dark Knight»، ونتخيل ما كان يمكن أن يفعله «الجوكر» بأسلحته البيضاء لو كانت للعنف مساحة مسموح بها.
اقرأ أيضًا: نظرة إلى جذور العنف في منازلنا ومجتمعاتنا
2. بطل خارق ﻻ يموت
القاعدة الثانية لأفلام الكوميكس هي أن البطل لا يفنى، أو بلفظ آخر لا يموت. من الممكن أن يتغير من يقدم الشخصية، وأشهر مثال لذلك مؤخرًا شخصية «سبايدر مان»، فقد تَغيَّر الممثل الذي يقدمها ثلاث مرات منذ عام 2002، وعلى الرغم من هذا لا يمكن أبدًا أن ينتهي البطل.
ربما كان فيلم «X-Men: The Last Stand» هو الاستثناء الوحيد، إذ قضى صُنَّاعه على كثير من الشخصيات رغبةً منهم في إنهاء السلسلة آنذاك، وإن عادت الشخصيات بأبطالها أنفسهم في فيلم لاحق.
هاتان هما أشهر قواعد أفلام الأبطال الخارقين، لهذا فإن فكرة إنهاء حكاية بطل خارق بعيدة وصعبة، فكيف يمكن أن تقضي على بطل خارق؟
«وولفرين» ينتهي.. «هيو جاكمان» ينتهي
صلة قوية تربط شخصية «لوغان» أو «وولفرين» والممثل «هيو جاكمان» الذي يؤديها منذ 17 سنة، وهو ارتباط من الصعب للغاية فصله، إذ يبقى هذا الدور أهم ما قدمه «جاكمان» في مسيرته الطويلة، للدرجة التي جعلته، خلال تقديم حفل الأوسكار عام 2009، يختم الأغنية الافتتاحية بعبارة «أنا وولفرين»، فهكذا يعرفه الجمهور، والأهم أنه هكذا يحبه الجمهور.
إذًا، كيف ينجح صناع الفيلم في تقديم الوداع اللائق لشخصية «وولفرين» ولمؤدِّي الشخصية في الوقت نفسه؟ الإجابة هي فيلم «Logan»، الذي كتب قصته وأخرجه «جيمس مانغولد».
قد يهمك أيضًا: أن تخسر بطلًا شخصيًّا: في ذكرى «فيليب سيمور هوفمان»
ما فعله «لوغان» هو تأسيس قواعده الخاصة لكيفية إنهاء مسيرة بطل خارق، وهو ما حدث من قبل عام 2012 في نهاية ثلاثية «باتمان» للمخرج الأمريكي «كريستوفر نولان»، ولكنه لم يكُن على المستوى المطلوب، لهذا لا يمكن الاعتماد عليه درسًا خاصًّا، أو اتجاهًا في كيفية إنهاء سلسلة.
مقادير النهاية.. أو كيف فعلها فيلم «لوغان»؟
أفضل ما قدمه الفيلم كان نجاحه في الجمع بين عدة ملامح سينمائية شاهدناها منفردة في سلاسل أبطال خارقين سابقة، وكذلك أنه جمع بينها بذكاء، ليخرج بشكل مختلف تمامًا عن كل ما سبقه من أفلام.
كل هذا السواد
أول ما قدَّمه «Logan» هو حالة السوداوية المُقبِضة التي سادت معظم أجزائه. لا نقصد بالسوداوية هنا المعنى النفسي فقط، بل الحرفي أيضًا، إذ كان كثير من المشاهد يدور في الليل بالفعل، وحتى في مشاهد النهار كان «لوغان» دائمًا في دائرة الظلال، خصوصًا في نصف الساعة الأول من الفيلم.
أجواء مقبضة ربما لم نشاهدها في أفلام كوميكس من قبل.
ثم تأتي فكرة السوداوية النفسية؛ لا بهجة هنا، لا توجد شخصية شريرة أو مخطط خبيث يشكِّلان الخط الرئيسي، بل البطل نفسه هو الموضوع الأساسي للفيلم، وهو في عُمقه لا يؤمن بأنه بطل من الأساس، وهذا جانب آخر من تميز الفيلم سننتقل إليه لاحقًا.
النجاح الأكبر للفيلم كان في كيفية تأسيسه هذه السوداوية منذ المشهد الافتتاحي. المشهد يدور في الظلام، بعض اللصوص يحاولون سرقة السيارة التي صار «لوغان» يعمل سائق أجرة عليها، في إشارة واضحة إلى انتهاء كل شيء بالنسبة إليه، ثم المعركة التي يخوضها مع هؤلاء اللصوص التقليديين ويكاد يخسرها، وهو ما لم يكُن ليحدث من قبل في أفلام سلسلة «X-Men» السابقة.
هذه الأجواء المقبضة ربما لم نشاهدها في أيٍّ من أفلام الكوميكس باستثناء «The Dark Knight»، وإن كانت محدودة فيه بمشاهد معيَّنة وليست السمة الغالبة كما هو الحال مع «Logan».
قد يعجبك أيضًا: تجربة الكوميكس العربية من سمير وسندباد إلى السمندل وتوك توك
اللا بطل
بالإضافة إلى فقدان «لوغان» قواه الخارقة التي تتيح له الشفاء من جروحه، نرى هنا أن نظرته إلى نفسه اختلفت، فهو لا يؤمن بأنه بطل على الإطلاق، وعندما تأتيه الممرضة بالطفلة «لورا»، التي تلعب دورها «Dafne Keen»، في بداية الفيلم وتطلب عونه، يتهرب منها ويرفض مساعدتها، وحتى مع بقاء الطفلة معه لاحقًا، فإنه يفعل كل شيء لمساعدتها على مَضَض.
مرة أخرى يمكن أن نتذكر أفلام كوميكس قدمت الفكرة نفسها مثل «Spider-Man 2»، حين قرَّر «بيتر باركر» التخلِّي عن شخصية «سبايدر مان»، فما الجديد هنا؟
الجديد هو التركيز بوضوح على نفسية البطل، فالأمر هنا ليس مجرد التخلي عن قواه الخارقة وعمله على سيارة أجرة، بل إن الفيلم يركز بقوة على هذا الصراع من خلال السيناريو، ويؤكِّد دائمًا مَيْلَ البطل إلى الهرب وعدم المواجهة، ومن خلال أداء هو الأفضل لهيو جاكمان، الذي تبدو عليه حالة اليأس وفقدان أي هدف طوال الفيلم. إنها النهاية بلا أدنى مواربة.
الواقعية
هنا تحديدًا تظهر قيمة الاتجاه إلى التصنيف الرقابي الأعلى. الأمر ليس عنفًا ودماءً أو شتائم، لكنه هنا أهم، لأنه أضاف كثيرًا من الواقعية إلى الشخصية والأحداث. «وولفرين»، المشهور في الأفلام والكوميكس بمزاجه العصبي، كان يكتم كثيرًا بداخله.
لهذا أصرَّ هيو جاكمان بنفسه على إدخال الفيلم إلى تصنيف رقابي أعلى، حتى إنه تنازل عن جزء من أجره كي توافق الشركة المنتجة على الانتقال إلى التصنيف الرقابي «R»، الذي يُلزم كل من هم أقل من 17 عامًا بإحضار مُرافق بالغ لدخول قاعة السينما.
انعكس هذا بوضوح على المشاهد القتالية، فجاءت أكثر عنفًا إلى حدٍّ بعيد، أبعد ممَّا كنا نتخيل في الحقيقة، لكن ذلك سمح بمساحة أكبر من التحرك بحرية في المعارك، أتاحت في أكثر من مشهد تأكيد حالة الضعف التي أصابت «لوغان» من جهة، ومن جهة أخرى لم يكن داخل المشاهد القتالية قطعات خاصة للابتعاد عن العنف، ممَّا منح المُشاهِد تجربة رؤية جميع تفاصيل هذه المشاهد بوضوح.
جانب آخر من الواقعية داخل الأحداث، هو سخرية «لوغان» من مجلات القصص المصورة لـ«X-Men»، وتأكيده أن كل ما بها لم يحدث حتى ربعه.
نهاية تمهِّد لبداية جديدة
فيلم «لوغان» هو الوداع المثالي لـ«هيو جاكمان»، وربما أفضل تحية يمكن تقديمها له.
هذا هو أحد أهم العناصر، لا بالنسبة إلى الفيلم فقط بل للسلسلة بأكملها، فلا يمكن للشركة المنتجة أن تستغني عن الدجاجة التي تبيض ذهبًا: «وولفرين».
الحلُّ الأسهل بالطبع أن تُنهي الشركة السلسلة مع «هيو جاكمان» حاليًّا ثم تعيد إحياءها مرة أخرى مع بطل جديد، كما حدث مع شخصيات «سبايدر مان» و«بات مان» وحتى «هالك». لكن صُنَّاع الفيلم تصرفوا بذكاء أكبر، فلِمَ لا يكون الفيلم في حد ذاته بدايةً جديدة كما أنه نهاية؟ من هنا جاء الخط الخاص بالطفلة «لورا» شبيهة «وولفرين»، ليكون الفيلم ككلٍّ أفضلَ تمهيد ممكن لظهور الشخصية الجديدة.
هذا الأمر ليس هيِّنًا على الإطلاق، إدخال شخصية جديدة دون أن تكون مُقحَمة في الأحداث، وفي الوقت نفسه تحافظ على خط الشخصية الرئيسية دون تأثُّر؛ يحتاج هذا إلى كتابة دقيقة.
هنا يمكن التوقف عند مثالين شهيرين، أولهما الظهور الخاص لشخصية «سبايدر مان» في «Captain America: Civil War»، الذي لم يكن له أي تأثير حقيقي في الفيلم، ولكنه حصل للترويج للبطل الجديد. والمثال الثاني هو شخصية «بليك» في «The Dark Knight Rises»، الذي ظهر في آخر مشاهد الفيلم ليوحي للمشاهدين بأنه سيصير «روبن»، وقد كانت تفصيلة مُقحَمة أيضًا ولم تُضِف شيئًا إلى الفيلم.
كل ذلك يجعلنا نؤكد أن ما صنعه «Logan» كان أمرًا استثنائيًّا.
اقرأ أيضًا: 4 مخرجين بمثابة مدارس سينمائية مستقلة
عندما تضافرت العناصر السابقة معًا حولت «Logan» من مجرد فيلم كوميكس تقليدي إلى مرثية للبطل، في إطار يحافظ إلى حدٍّ كبير على طبيعة أفلام الأبطال الخارقين، ويضيف إليها دراما نفسية يبحث عنها عديد من الأفلام.
فيلم «لوغان» هو الوداع المثالي لهيو جاكمان، وربما أفضل تحية يمكن تقديمها له على دوره في سلسلة «X-Men». وهو من جهته قدَّم أفضل أداء ممكن للشخصية، ولكن الأهم من هذا أن الفيلم يعيد إلقاء الضوء على مساحة منسيَّة في عالم سينما الأبطال الخارقين، هي: كيف يمكن أن تُنهِي سلسلة بنجاح.