هذا الموضوع ضمن ملف «الهوية الجنسية»، لقراءة موضوعات أخرى في الملف اضغط هنا.
تمتلك هوليوود القدرة على إذهال محبي الأفلام، بمشاهدها الأيقونية التي استطاعت تحريك قضايا إنسانية راكدة؛ بإلقاء الضوء على سراديب المجتمعات الأمريكية وإظهار مساوئها للعلن، لكنها أسهمت كذلك في خلق قوالب نمطية سيئة للعديد من الأقليات التي طالما كانت جزءًا من النسيج المجتمعي الأمريكي، كما حدث مع طريقة تقديم الأمريكيين الأفارقة والعرب والهنود الحمر والآسيويين والمثليين في الأفلام.
كان أول ظهور لشكل العلاقة المثلية في فيلم من إنتاج 1894، متمثلًا في رقصة رجلين بحميمية على وقع أنغام الموسيقى.
ظلت الأدوار التي تقدم الشخصيات المثلية جزءًا من تاريخ هوليوود الطويل، لكن طريقة تناولها هي التي اختلفت من عصر لآخر؛ باختلاف المتغيرات السائدة فيه والعوامل المؤثرة في البيئة السينمائية لكل وقت، وهذا ما نتحدث عنه بإيجاز.
البداية كانت مع اختراع أول جهاز للصور المتحركة يدعى «الكينيتوجراف» من اختراع «توماس إديسون» (Thomas Edison) ومساعده «ويليام ديكسون» (William Dickson) عام 1895، ففي اللقطة التجريبية التي أخذها الجهاز لمدة 17 ثانية، كان أول ظهور لشكل العلاقة المثلية، متمثلة في رقصة رجلين بحميمية على وقع أنغام الموسيقى الصادرة من مكبر صوت عملاق. عُرف هذا الفيلم التسجيلي القصير لاحقًا باسم «فيلم ديكسون للصوت التجريبي».
التنكر في السينما الصامتة
تميزت المرحلة اللاحقة لظهور صناعة السينما، وهي السينما الصامتة، بقلة الأفلام التي تتحدث عن قضايا المثلية موضوعيًّا، والاتجاه نحو مقاربة الشخصيات المثلية من منظور سطحي؛ عبر إظهار الرجل المثلي رقيق الطباع بشكل مبالغ فيه، أو «مخنثًا» يتصرف كما تفعل النساء؛ لإضفاء طابع كوميدي على العمل.
أثرت أزمة الكساد الكبير على عائدات شباك التذاكر؛ فبدأت هوليوود بإقحام الشخصيات المثلية الكوميدية لإنقاذ دور السينما من الإفلاس.
نرى ذلك بوضوح في عدة أعمال كتبها ومثلها «شارلي شابلن» (Charlie Chaplin)؛ أهمها «The Masquerade» عام 1914، إذ تنكر في زي امرأة جذابة ليحوز إعجاب الرجال، لكن ما إن تنكشف هويته الحقيقية حتى ينهال عليه الجميع بالضرب.
اقرأ أيضًا: شارلي شابلن: الصعلوك الذي وضع قواعد السينما ثم كسرها
قولبة الشخصيات المثلية في العشرينات
بعد الخروج من الحرب العالمية الأولى (1914 -1918)، كانت نهاية العشرينات وبدايات الثلاثينات فترة تحرر غالبية فئات المجتمع الأمريكي، وبدء استكشاف فكرة قلب أدوار الأنوثة والذكورة عبر المسارح وصالات العرض الغنائية، أو حتى من خلال أمور بسيطة؛ مثل قصات الشعر وطريقة الملبس، والنتيجة أن المجتمع كان أكثر تساهلًا مع الظهور العلني للمثليين.
في المقابل، أثرت أزمة الكساد الكبير (أحد أشهر الأزمات الاقتصادية التي مرت بها أمريكا) على عائدات شباك التذاكر السينمائية؛ فبدأت هوليوود في إقحام مشاهد العري والشخصيات المثلية الكوميدية على الأفلام لإنقاذ دور السينما من الإفلاس، فأطلق الكُتَّاب والمخرجون العنان لمُخيَّلاتهم لتصوير نمط حياة الشخصيات المثلية وطريقة عيشها، مع الإبقاء على النَفَس الكوميدي الساخر في طرح الأدوار.
طبَّقت هوليوود نموذج السخرية من المثلية على العديد من الشخصيات التي أحبها الناس، أشهرها الثنائي «لوريل وهاردي»، إذ يتم التلميح أكثر من مرة إلى أنهما حبيبان من الجنس المماثل؛ فهما يتشاركان السرير، ويتنكران بأزياء نسائية، ويفضلان قضاء الوقت معًا أكثر من زوجتيهما المحجوبتين عن الشاشة، وفي إحدى المرات كان عليهما التظاهر بالزواج من أحدهما الآخر.
بفضل استغلال صناع الأفلام نجاح الشخصيات المثلية في إطار كوميدي، باتت طريقة تصرف أو حديث أي شخصية مثلية مدعاة للضحك؛ فكانت النتيجة خلق قالب نمطي علقت به الشخصيات المثلية طويلًا. مثلًا في مشهد من فيلم «Call her Savage»، يُصوَّر المثليون على هيئة نُدُل (موظفي الخدمة في المطاعم) مخنثين، يرقصون ويلهون بحرية تتماثل والصورة النمطية التي طبعت بأذهان الكثير من المشاهدين.
اللوائح تمنع تقديم المثلية في منتصف الثلاثينات
لجنة الرقابة امتلكت جميع الصلاحيات لمنع الأفلام أو قص أي مشهد غير خاضع لمحاذيرها الرقابية.
أثارت موجة الأفلام الصادرة في مرحلة الكساد سخط جماعات مسيحية ويهودية عديدة في بداية الثلاثينات، بحجة احتوائها على مشاهد قبلات حميمة ولقطات إباحية، فكان من الكنيسة الرومانية الكاثوليكية أن أعلنت عام 1934 رفضها قبول مشاهد من هذا النوع، باحتجاج هددت فيه بمقاطعة منتسبيها للأفلام السينمائية، كما طالبت رابطة منتجي الصور المتحركة (MPAA) في هوليوود بتصدير «سينما نظيفة» خالية من المشاهد المخلة بالآداب العامة.
قد يعجبك أيضًا: عندما كانت المثلية واجبًا اجتماعيًّا
وبالفعل أُنشئت لجنة مراقبة الأفلام السينمائية في العام نفسه، برئاسة سياسي محافظ يدعى «ويل هايز» (Will Hays)، فرض بدوره قائمة تحوي 36 بندًا؛ منها 11 بندًا أساسيًّا تحظر تناول عدة مواضيع في السينما الأمريكية؛ من ضمنها «الانحراف الجنسي»، وتناول المثليين/المتحولين جنسيًّا في الأفلام. النتيجة كانت أن لجنة الرقابة امتلكت جميع الصلاحيات لمنع الأفلام أو قص أي مشهد غير خاضع لمحاذيرها الرقابية؛ ما أدى إلى غياب أي تجسيد للمثلية أو المثليين في السينما الأمريكية في ذلك الوقت.
مرضى نفسيون في الأربعينات
عمد بعض المخرجين إلى التلميح للمثلية أو تجسيدها كشخصيات بغيضة تُظهر شرًّا مطلقًا أو عتَهًا مخيفًا؛ كما فعل «هيتشكوك».
أثرت لوائح لجنة «هايز» بشكل واضح على طريقة ظهور الشخصيات المثلية في الأفلام التي صدرت منتصف الثلاثينات حتى منتصف الستينات؛ ما اضطر صناع الأفلام في هوليوود لإيجاد أساليب للتحايل على مقص الرقيب، ففي فيلم (The Lost Weekend) عام 1945، عُدِّل النص الأصلي ليصبح عن معاناة كاتب مع الشراب بسبب صراعه الدائم مع عدم القدرة على الكتابة، أو ما يُعرف بـ«حبسة الكاتب» (Writer's Block)، بدلًا عن هويته الجنسية.
أما في (Dracula’s Daughter) عام 1936، فتخضع الشخصية الرئيسية في الفيلم لعلاج نفسي للشفاء من كونها «مصاصة دماء»، فيُرمَز إلى مثلية الشخصية عبر حاجتها الدائمة للبحث عن دماء جديدة، ويزداد الأمر وضوحًا في أحد المشاهد، عندما تطلب مصاصة الدماء من الضحية خلع ثيابها قبل الهجوم عليها كي تتغذى على الدم.
قد يهمك أيضًا: كيف أصبح «The Wizard of Oz» أيقونة للمجتمع المثلي في أمريكا؟
أشرار في الخمسينات والستينات
اعتُبرت المثلية في ذاك الوقت مفسدة قادرة على التأثير في المشاهدين الأسوياء، والتشكيك في مفاهيم الذكورة التي تدعو إليها المجتمعات المحافظة، فحرصت الرقابة عبر لوائح «هايز» على حجب الأدوار المثلية الصريحة ضمن الأفلام، لذا عمد بعض المخرجين إلى التلميح لها في الأدوار التي تتطلب ذلك؛ بإخفائها في أدوار مركبة، فيما اختار بعضهم الآخر تجسيدها على الشاشة كشخصيات بغيضة تُظهر شرًّا مطلقًا أو عتَهًا مخيفًا؛ كما فعل «ألفريد هيتشكوك» (Alfred Hitchcock) في أفلامه، وكان معروفًا عنه حبه لاستكشاف المناطق المحظورة بالسينما، وإيجاد أفضل الطرق لتخطي اللوائح.
بسبب نظرة المجتمع الأمريكي الضيقة في الستينات، تكرر سيناريو مصير العقاب، واستمر تنميط الشخصيات المثلية على أنهم ضحايا يعانون علة تستوجب اللوم والتقريع، ففي (Suddenly Last Summer) تروي شخصية «إليزابيث تايلور» (Elizabeth Taylor) في الفيلم كيف يهلك ابن عمها ذو الميول المثلية، ضمن نهاية تراجيدية على يد مجموعة من الأطفال ينهون حياته.
«فالانتي» يعيد الحرية في السبعينات
ساد اعتقاد في المجتمع الأمريكي خلال الثمانينات بوجود علاقة مباشرة بين المثليين ومرض الإيدز.
في عام 1966، تسلم «جاك فالانتي» (Jack Valenti) رئاسة رابطة منتجي الصور المتحركة (MPAA)، فاستبدل قواعد لجنة «هايز» الرقابية بما بتنا نعرفه اليوم من نظام تصنيف الأفلام وفق المحتوى، الذي يتضمن 4 أنواع: تصنيف (G) لجميع الأعمار، تصنيف (PG) للمشاهدة مع رقابة عائلية، تصنيف (R) لمن هم فوق الـ16، تصنيف (X) للبالغين فقط.
هذه الحرية الجديدة فتحت الباب لاستكشاف عالم الأدوار المثلية بأريحية أكبر، بعيدًا عن القوالب النمطية التي اعتدنا عليها، فكانت البداية مع (The Boys in The Band) عام 1970، الذي غيَّر موقع المثليين على خارطة هوليوود إلى الأبد؛ إذ روى حكاية مجموعة شباب يتقبلون مثليتهم ويعيشون حياتهم وفقًا لذلك، إلا إن الغالبية العظمى من الجماهير لم تحبذ الفيلم ووجدته جريئًا بلا مبرر.
مصابون بالإيدز في الثمانينات
تُعد الثمانينات أحد أسوأ الفترات في دورة حياة المثلية في هوليوود، إذ ابتعد المنتجون عن تصويرها إيجابيًّا بسبب الاعتقاد السائد في المجتمع الأمريكي آنذاك بالعلاقة المباشرة بين المثليين ومرض نقص المناعة (الإيدز)؛ ما أدى إلى تفشي ظاهرة رهاب المثلية (Homophobia)، وتضمين التعليقات السلبية تجاه المثليين في أعمال شهيرة.
من هذه الأعمال فيلم (Back to The Future) عام 1985، عندما يذكر البطل أنه لا يرغب في العودة للمستقبل لأنه يظن أن الاضطرار لمغازلة والدته سيجعل منه مثليًّا، في إشارة إلى تشبيه البطل لجريمة سِفاح القربى بالعلاقات المثلية. أما في (Night Shift)، فتُصوَّر العلاقات المثلية على أنها علاقات تتكاثر في أكثر الأماكن شبهة؛ كزنازين السجون.
اقرأ أيضًا: ما هي الهوموفوبيا ولماذا يخاف البعض من المثليين؟
كسر القالب أخيرًا في التسعينات
بحلول التسعينات، ظهرت أفلام حققت نجاحات مهمة على مستوى الجماهير المثلية وغير المثلية على حد سواء، وهو ما ندر حدوثه في الفترات السابقة، ففي (Thelma & Louise) تسرق «سوزان ساراندون» (Susan Sarandon) قلوب الجماهير، عندما تقرر تقبيل صديقتها على الشاشة في آخر مشهد من الفيلم، رغم أنه يتحدث عن شخصيات غير مثلية.
وفي فيلم (Philadelphia) الحائز على جائزتي أوسكار عام 1993، تعاطفت الجماهير مع شخصية «توم هانكس» (Tom Hanks)، الذي يلعب دور محامٍ مثلي مصاب بالإيدز، وفي (Birdcage) عام 1996 يقوم «روبن ويليامز» (Robin Williams) بدور أب مثلي في إطار كوميدي، ليحقق الفيلم أرباحًا طائلة في شباك التذاكر الأمريكية.
قد يهمك أيضًا: كيف يجعلنا الأدب والفن أكثر تعاطفًا مع اﻵخرين؟
المسلسلات التليفزيونية تُخرج المثليين إلى العلن
التأثير الذي تركته هوليوود على أمريكا أتاح الفرصة لأجيال التسعينات لتقبل فكرة وجود مثليين يشاركونهم الحي نفسه أو صفوف الدراسة.
بعد إفصاح الممثلة ومقدمة البرامج الأمريكية «إيلين ديجينيريس» (Ellen Degeneres) عن مثليتها عام 1997 على غلاف مجلة (Time)، بدأت هوليوود تدريجيًّا تتحرر من عقدة إخفاء المثلية. وفي السنة التي تلتها، تشجعت القنوات التليفزيونية على إصدار أول مسلسل كوميدي يتمحور حول رجلين مثليين؛ هو (Will & Grace)، الذي نجح في أن يصبح أكثر المسلسلات مشاهدة على مدى خمس سنوات.
كما أسهم المسلسل الشهير (Friends) في رفع وصمة العار المرتبطة بالشخصيات المثلية؛ إذ يكتشف «روس غيلر» (Ross Geller) أن زوجته مثلية ويتقبل الأمر بصدرٍ رحب، وتظهر شخصية زوجته السابقة على مدار مواسم العمل، بالتزامن مع صعود المطالبة بحقوق المثليين في الولايات المتحدة نهاية التسعينات.
أخذت الشخصيات المثلية في الظهور إلى العلن بعد قضاء عقود طويلة في الخفاء بفضل المسلسلات التي قُدِّمت أواخر التسعينات وفي أول الألفية الثالثة، بحسب تأكيد استطلاع هاريس عام 2008، الذي شارك فيه أكثر من 2000 أمريكي بالغ، أفصح 34% منهم عن أنهم غيروا آراءهم بشأن المثليين في السنوات الخمس الماضية؛ بسبب مشاهدة شخصيات مثلية تعاطفوا معها على الشاشة.
إن التأثير الذي تركته هوليوود على المجتمع الأمريكي أتاح الفرصة للأجيال التي نشأت في التسعينات لتقبل فكرة وجود مثليين يشاركونهم الحي نفسه أو صفوف الدراسة، كما أظهرت حلقات مسلسل (Glee) الشهير، ما انعكس إيجابًا على الحقل السياسي، وأسهم في التحول الجذري في الولايات المتحدة من بلد يُرهِب المثليين ويقمعهم إلى دولة تكفل حقوقهم المدنية، كالزواج وتبني الأطفال وحتى حق التصويت لمُرَشّح مثلي.
ربما يعود الفضل في ذلك كله إلى مسلسلات مهدت الطريق للعامة لتقبل الأقلية المثلية كجزء من أفراد المجتمع؛ كما فعل (Modern Family)، وأفلام أظهرت العلاقات المثلية بواقعية تامة؛ مثل (Brokeback Mountain) و(Blue is the Warmest Color).