«لماذا نرى الدراما التاريخية العربية تُظهر العرب بصورة استشراقية؟»، وجَّه إليَّ هذا السؤال أستاذ دراسات العلاقات الدولية في جامعة سانت أندروز البريطانية، الصديق «غِلبرت رامزي». لم أجد وقتها جوابًا له، وهو من يتابع مثل هذه المسلسلات الدرامية مستعينًا بإجادته اللغة العربية.
لا أتعرض هنا للتصور الفنتازي المقصود أصلًا، مثل ذلك في مسلسل «الجوارح»، بل لمَن يعرض صورة يدَّعي واقعيتها. هنا لا أقول إني بلغت الجواب الشافي لهذا السؤال، لكن لنلقِ نظرة على ما يعنيه رامزي مستعينين بأربع نظرات.
النظرة الأولى: أبو جهل المزركش
بيوت طينية لكنها في أحسن صورة كأنها بُنيت قبل التصوير بيوم، أبوابها لا يبدو عليها طول الدهر، بل دقة البناء وحُسن الصنعة والصبغة اللامعة.
في الدراما العربية المُستقاة من هوليوود، الكل يرتدي أقمشة براقة ولباسًا موحدًا.
لا يختلف منظر البيت العربي في الجاهلية أو صدر الإسلام عمَّا ظهر عليه منذ بدأ تصوير البيوت العربية في «سندباد» هوليوود إلى مسلسل «عمر» مرورًا بفيلم «الرسالة»، متساويًا في ذلك بيت الغني والفقير، وربما اختلف الحجم فقط.
لكن الدراسات والأبحاث، مثل كتاب «تاريخ العرب قبل الإسلام» لجواد علي، تخبرنا بأصناف من البيوت المعروفة عند العرب لا نرى لها مصداقًا في الدراما. فللبدوي بيت الشَّعر، وللغني بيت الطين، وبيوت الفقراء من الخشب وسعف النخيل. وبيوت الطين منها المسوَّد وغير المسود. وإن تكن القرى غير مسوَّرة فالمدن مسورة ومبلطة الطرقات. وفي كل تلك البيوت، ليس ثمة مكان لقضاء الحاجة، بل يقضونها في الخلاء.
يظهر العربي الهوليوودي جليًّا في اللباس الذي لا يتصل بزمانه بشيء أبدًا، فالكل يرتدي الأقمشة البراقة واللباس الموحد من البُردة والقميص.
نعرف من الآثار النصية التراثية أن لباس الغني سيد قومه كان عمامة معصفرة وربما حَمُر ثوبه، ولا تكون العمامة لكل أحد إلا المقتدر، ويرخي ذؤابتها بقدر غِناه وقدرته، ومِن لباس السادة «المُستُقَة»، وهو ثوب عريض الأكمام.
أما عامة الناس فعماماتهم إن لبسوها فعصابة يعصبون بها رأسهم، وإلا فلا يقدرون على شرائها. وثياب العامة قميص واحد، وربما يأتزر المرء أو يلف نفسه بإزار دون أن يكسي عالي بدنه. ومنهم من يتخذ «رَيْطة» قطعة واحدة يستتر بها، وكل ذلك أسمال بالية ربما بلغت نصف ساق الرجل.
النظرة الثانية: زمان حشر الرأس في الأندلس
ما يُعرض في الدراما التاريخية لا صلة له بما كان عليه زي الأندلسيين وصورتهم.
يذكر المقري التلمساني في كتاب «نفح الطِّيب من غصن الأندلس الرطيب» أن أهل الأندلس كانت لهم عادات في اللباس تختلف عن المشارقة، ولعلِّي بدل أن أسردها لكم أوردها على لسان صاحبها.
يقول المقري: «وأما زيِّ أهل الأندلس فالغالب عليهم ترك العمائم، لا سيما في شرق الأندلس، فإن أهل غربها لا تكاد ترى فيهم قاضيًا ولا فقيهًا مشارًا إليه إلا وهو بعمامة، وقد تسامحوا بشرقها في ذلك، ولقد رأيت عزيز بن خطاب أكبر عالم بمرسية، حضرة السلطان في ذلك الأوان، وإليه الإشارة، وقد خُطب له بالملك في تلك الجهة، وهو حاسر الرأس، وشيبه قد غلب على سواد شعره».
«أما الأجناد وسائر الناس فقليل منهم تراه بعمَّة في شرق منها أو في غرب، وابن هود الذي مَلَك الأندلس في عصرنا رأيته في جميع أحواله ببلاد الأندلس وهو دون عمامة، وكذلك ابن الأحمر الذي معظم الأندلس الآن في يده، وكثيرًا ما يتزيَّا سلاطينهم وأجنادهم بزيِّ النصارى المجاورين لهم، فسلاحهم كسلاحهم، وأقبيتهم من الإشكرلاط (قماش يشبه المخمل) وغيره كأقبيتهم، وكذلك أعلامهم وسروجهم».
ممَّا ذكره المقري يظهر لنا أن ما يُعرض في الدراما التاريخية صورة لا صلة لها بما كان عليه زي الأندلسيين وصورتهم، وفي ذلك كفاية.
اقرأ أيضًا: وا إسلاماه: كيف رسم شادي عبد السلام تفاصيل زمن لم يعشه؟
النظرة الثالثة: البدوي الأنيق
أي مُطَّلع على صور البدو في القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين سيجد صورة لا صلة لها بأناقة البدوي الدرامي، الذي هو أقرب إلى التصور الاستشراقي الهوليوودي للبدوي العربي، بلباسه المزركش النظيف المؤنق وأذياله التي تُجَّر خلفه، رغم أن صورة مثل هذه غير مطابقة للواقع إن وُجدت، فهي للأمراء على أقل تقدير لا شيوخ القبائل.
ثم إن اللباس يتمايز بين بدو الشام وبدو وسط الجزيرة وبدو العراق وبدو جنوب الجزيرة، ولندع الصور تتحدث.
النظرة الرابعة: فانتازيا داعش
حتى لو عرضت بروباغاندا داعش أطفالًا يَقتلون ويرفعون السلاح، فإن المَقَاطع التي تُنشر لا تعكس تلك الصورة الترهيبية.
برغم أن مسلسل «غرابيب سود» مقصده المعلَن إظهار وحشية وانحراف تنظيم داعش في الواقع، فإنه انقلب إلى فانتازيا من الخيال المقابل لفكر داعش. فبدل أن يعري وحشية داعش لتأريخ هذه المرحلة، أو ربما لردع من قد يتعاطف معهم، صوَّر «غرابيب سود» داعش بطريقة فانتازية، جمع فيها صورًا نمطية تخالفها مقاطع الفيديو التي يعرضها المنضمين إلى داعش، فكانت النتيجة كوميديا سوداء سخيفة تضحك أعضاء داعش من ناحية ولا تقنع الطرف الآخر.
لا نجد في ما ينتشر من مقاطع داعش غير الرسمية أن أعضاء التنظيم يتحدثون باللغة العربية، بل كلٌّ بلهجته أو بلهجة بيضاء، ولو لم توجد مثل هذه المقاطع، فعلم اللغة في هذا الباب لا يعين على إثبات مثل ذلك التصور في دراما «غرابيب سود».
حتى لو عرضت بروباغاندا داعش أطفالًا يقتلون ويرفعون السلاح، نجد أن المقاطع التي ينشرها أفراد التنظيم لا تعكس تلك الصورة الترهيبية «الغوبلزية»، فلا الأطفال منفصلون عن أمهاتهم في معسكرات خاصة، ولا الفتيات دون سن البلوغ متَّشحات بالسواد.
لن أذكر هنا ما أطلق عليه معارضو داعش «جهاد النكاح»، وليس متصورًا لداعشي أن يطلق هذا الاسم على أي فعل ينفذه أعضاء التنظيم.
إن مثل هذه الصور الفانتازية لا تعين إلا على تقديم صورة كاريكاتيرية أو «كوميكية»، فلو كان هذا هو القصد الأول، فليكن، ولكنهم لا يدركون حزبهم المفضَّل، فينقلب السحر على الساحر.