وا إسلاماه: كيف رسم شادي عبد السلام تفاصيل زمن لم يعشه؟

رسم بيد شادي عبد السلام - الصورة: The Fashion School Daily

آية طنطاوي
نشر في 2017/01/20

تزخر السينما المصرية بقائمة من أهم الأفلام التاريخية التي أُنتجت في القرن العشرين، وتجدر هنا الإشارة إلى أن التناول التاريخي للأفلام يدعمه بشكل رئيس عدة عناصر؛ فالديكور والملابس والإكسسوارات وتصميم المعارك من أهم العوامل الفنية التي تعكس السمات الواقعية للطابع التاريخي والاجتماعي والحياتي للفترة الزمنية التي تدور فيها أحداث العمل الفني.

إن الدارس لتاريخ الفنون الإنسانية سيسهُل عليه الأمر إذا كُلف ببناء ديكورات أو تصميم أزياء لتصوير لعمل فني تدور أحداثه في عصور قديمة لها مراجع بصرية، كما فعل المخرج المصري ومصمم الملابس والديكور الأشهر شادي عبد السلام في أفلام تتناول تاريخيًّا أحداثًا في مصر الفرعونية، مثل فيلمه «شكاوي الفلاح الفصيح».

وبسبب تميزه وحسه الفني الحقيقي، شارك عبد السلام في تصميم الأزياء والديكور في فيلم المخرج البولندي «يرزي كافاليروفيتش» (Jerzy Kawalerowicz) «فرعون»، وفيلم «كليوباترا» للأمريكي «جوزيف مينكيفيتش» (Joseph L. Mankiewicz).

صمم شادي عبد السلام أزياء «وا إسلاماه» بالاستعانة بكتابات المقريزي وابن إياس الحفني وبعض المستشرقين.

لكن عند العمل على تصميم أزياء وتنسيق مناظر عمل سينمائي تدور أحداثه في أحد العصور الإسلامية القديمة، لأن الحضارة الإسلامية لم تنقل لنا أي فنون مصورة توثق تفاصيل حياتهم لحُرمانيَّة التصوير بكل أشكاله، فهنا لا يصبح الأمر يسيرًا. 

تُرى، عندما عُرض على شادي عبد السلام العمل في فيلم «وا إسلاماه»، كيف استلهم التصميم العام للديكورات وتصميم أزياء كل شخصيات الفيلم، من عامة وسلاطين وفرسان والجواري ينتمون لعصر المماليك؟

كيف تصوَّر شادي عبد السلام ما لم يره؟

بوستر فيلم وا إسلاماه
بوستر فيلم «وا إسلاماه» - الصورة: مدونة «كان زمان»

في الفترة التي التحق فيها عبد السلام بكلية الفنون الجميلة، كان تلميذًا نجيبًا لشيخ المعماريين«حسن فتحي»، فعرف واطَّلع بفضله على تاريخ الفنون الإسلامية.

أما رحلة البحث عند شادي في مرحلة الإعداد لفيلم «وا إسلاماه»، الذي أنتجه رمسيس نجيب (1962) وأخرجه المجري الأمريكي «أندرو مارتون» (Andrew Marton)، فقد «بدأت بعدة مصادر استقى منها المعلومات التاريخية الصحيحة عن طبيعة الحياة الاجتماعية في عصر المماليك، وتحديدًا في مصر»، وفقًا لما ذكره مهندس الديكور أنسي أبو سيف في أحد مقالاته عن شادي عبد السلام.

ومن هذه المصادر، على سبيل المثال؛ اللوحات التشكيلية للرسامين والمستشرقين، والكتابات والأبحاث عن الحياة في مصر في ذلك الوقت؛ مثل كتاب «إدوارد لين» (Edward William Lane) «طباع وأزياء المصريين العصريين»، وكتاب «بدائع الزهور في وقائع الدهور» لابن إياس الحنفي، ومخطوطات المقريزي، والمنممات التركية والفارسية، والرسوم المصورة في مقامات الحريري، وكليلة ودمنة.

كل هذه المصادر وغيرها كوَّنت صورة بصرية متكاملة، استطاع شادي عبد السلام أن ينسج منها خيوطًا أضاف عليها بصمته الخاصة؛ ليصنع أزياء وإكسسوارات وديكورات تليق بتمثيل فترة العصر المملوكي في مصر.

جدير بالذكر أن الفيلم المصري «لاشين»، الذي أخرجه الألماني «فريتز كرامب» (Fritz Kramp) وعُرض في الثلاثينات، كانت أحداثه تدور في مصر عصر المماليك، لكن «لاشين» يتلقى دائمًا نقدًا سلبيًّا من دارسي الفنون والتاريخ الإسلامي؛ لما جاء به من أخطاء فادحة في تصميم الأزياء والديكورات، التي كانت مزيجًا بين الطراز المملوكي والعثماني، ناهيك بزخم الديكور بإكسسوارات قطع الأثاث، كل هذا لم يكن بالدقة الحقيقية التي تعكس شكل الحياة الاجتماعية في العصر المملوكي.

كان ياما كان في قصر السلطان..

في البدء، استوحى شادي عبد السلام تصميم واجهة القصر السلطاني من لوحة «حفل استقبال سفراء البندقية» للرسام الإيطالي الشهير «جينتيلي بيليني» (Gentile Bellini)، التي تصور مجموعة من الحكام الأتراك في استقبال سفير البندقية عام 1507، ليصنع عن طريقها تصورًا مماثلًا لقصر السلطان الذي تدور فيه وحوله أحداث الفيلم.

حفل استقبال رئيس البندقية
لوحة «حفل استقبال سفراء البندقية» - الصورة: Pinterest
مشهد من فيلم وا إسلاماه
واجهة القصر في فيلم «وا إسلاماه» - الصورة: Youtube

وفي تصميم مشهد الحرملك، نلاحظ التقارب والتشابه مع لوحات المستشرق الإيطالي «فابيو فابي» (Fabio Fabbi)، الذي تميَّز بلوحاته العديدة للحرملك، في تفاصيل الملابس والتشابه المعماري للنوافذ، ووجود رجل يعزف للجاريات، وارتداء الجاريات أغطية رأس حتى في الحرملك، واتكاء النساء بالقرب من النافذة.

لوحة الحرملك لفابيو فابي
لوحة الرسام «فابيو فابي» - الصورة: Pinterest
مشهد من فيلم وا إسلاماه
مشهد الحرملك في الفيلم - الصورة: Youtube

الألوان الزاهية للملابس لم تكن مفتعلة

تؤكد المراجع التاريخية التي استقى منها عبد السلام معلوماته مدى اهتم المماليك، سواء الأمراء أو الجنود أو حتى العامة، بالملابس . وكانت الفخامة والأُبهة تتجلى في ثيابهم؛ إذ ارتدوا القميص والسروال والقباء الحرير ذات الأكمام المزخرفة والمطرزة، وكذلك أغطية الرأس من العمائم الصغيرة، خُف ذي رقبة للأقدام، وتميزت تلك أزياء بألوانها المتعددة، على عكس اللون الأبيض الموحَّد الذي كان شعار الدولة الفاطمية.

زي السلطان

رسم تصوّري لزي السلطان أيبك من تصميم شادي عبد السلام
رسم تصوّري لزي السلطان أيبك من تصميم شادي عبد السلام - الصورة: Pinterest

الزي الأهم للسلطان والمتوافر عنه معلومات هو حين توليه السلطنة، وكان أسود ليدل على الولاء للخلافة، ومطرزًا بالذهب، وهذا ملخص ما ورد في كتابات المقريزي عن زي السلطان المملوكي الظاهر بيبرس أثناء تعيينه، وأيضًا ما ذُكر في كتب الأثر من أن السلطان الناصر محمد بن قلاوون كان يرتدي عمامة وسترة سوداء برقبة طويلة، كما أن ملابس التنصيب تضاهي ملابس رجل دين أصيل، ولا يكون لها طابع عسكري.

استقى شادي عبد السلام تصوره لشكل الأحذية من وصف المقريزي للباس الجنود، فرسمه في إسكتش وارتداه أيضًا في الفيلم.

وما ورد بالتفصيل عن ملابس تتويج السلطان بيبرس الأول أنها تكونت من «عمامة سوداء منسوجة بخيوط الذهب، أي من النسيج المذهب المزركش، ودراعة أو فرنجية بنفسجية، وياقة مذهبة، وسلسلة ذهبية، وسيوف عديدة»، وهذا الوصف يتطابق تمامًا مع زي السلطان أيبك، الذي لعب دوره الممثل عماد حمدي، في حفل زفافه على شجرة الدر (تحية كاريوكا) وتنصيبه للسلطنة.

أزياء المشايخ والوزراء

يقول المقريزي في كتابه «تاريخ السلاطين والمماليك» إن «الدراعة» لباس يميز الوزراء عن بقية ضباط القلم أو العدالة، وهي مفتوحة من الأمام حتى أعلى القلب، ومزررة بأزرار وعُرَى، فيما يؤكد المستشرق الفرنسي «سيلفستر دي ساسي» (Antoine Isaac Silvestre de Sacy) في كتابه «طرائف عربية» أن الدراعة كالقميص المفرط في السعة والفضفضة، ويتشابه أيضًا هذا الوصف مع مشهد اجتماع الوزراء أمام أيبك في الفيلم، كما أن ألوان أردية الوزراء تتشابه مع الألوان في صورة مقامات الحريري.

لوحة أبو زيد يشكو إلى القاضي
لوحة «أبو زيد يشكو إلى القاضي» من مقامات الحريري - الصورة: Wikipedia
مشهد من فيلم وا إسلاماه
مشهد العلماء والشيوخ أمام السلطان أيبك - الصورة: Youtube

أزياء الفرسان

كان الفرسان يرتدون زيًّا ضيقًا وقصيرًا، ذا أكمام طويلة ضيقة؛ حتى يساعد الفارس على أداء مهامه القتالية. وللرداء فتحة رقبة مستديرة، وتزينه زخارف على هيئة صفوف أفقية. ويقول المقريزي عن لباس القدم للطبقات العسكرية، إن «المركوب يُصنع من الجلد المراكشى أحمر اللون، سميك مدبب وأنفه شامخ إلى العلاء، له مقدم رفيع يلتوي إلى أعلى»، وهو ما استقى منه شادي عبد السلام تصوره لشكل الأحذية بالفعل، فرسمه في إسكتش أيبك وارتداه أيضًا في الفيلم، كما في المشهد التالي.

مشهد من فيلم وا إسلاماه
السلطان أيبك مع محمود، لاحظ حذاء السلطان - مصدر الصورة: Youtube

أزياء العامة

لم ترد تفاصيل كثيرة عن أزياء العامة في كتب الأقدمين، لكن «القباء» يعتبر من أندر القطع الأثرية الباقية حتى الآن، وهو محفوظ في متحف الفن الإسلامي بالقاهرة، ويعتبر من الثياب التحتية، وتُرتدى فوقه البُردة.

أزياء مقامات الحريري
البُردة في مقامات الحريري - الصورة: Histoire Islamique
مشهد من فيلم وا إسلاماه
بُردة مزركشة (إلى اليسار) - مصدر الصورة: Youtube

أزياء النساء والأطفال

ولم يرد الكثير عن لبس النساء أيضًا، لكنه كان في الأغلب سراويل طويلة تقوم مقام قميص يبدو مثل الجلباب يُطلق عليه اسم الثوب. وذُكر في حادث قتل شجرة الدر في كتب التراث أن جثتها ألقيت دون شيء يسترها سوى سروال وقميص، وهذا الوصف يطابق بالفعل الملابس التي ارتدها تحية كاريوكا في مشهد قتل شجرة الدر.

مشهد من غفيلم وا إسلاماه
تحية كاريوكا - الصورة: Youtube

أما أزياء الأطفال فاستوحيت من لوحات استشراقية.

أزياء الأطفال في العصر المملوكي

إلى اليمين: لوحة من مجموعة «هانز سلون» بالمتحف البريطاني، وإلى اليسار: لوحة المستشرق الفرنسي «بول ليروي» - الصورة: Pinterest

مشهد من فيلم وا إسلاماه
أزياء الأطفال في الفيلم - الصورة: Youtube

فيلم تاريخي.. للتاريخ

إن دراسة تاريخ الأزياء والمعمار تخلق جوًّا من الواقعية خلال تناول الروايات التاريخية في السينما، وحتى في التليفزيون أو المسرح، وهذا ما يُبرز بالفعل إبداع شادي عبد السلام، الذي خلق صورة حقيقية لحياة المصريين في العصر المملوكي في فيلم «وا إسلاماه» ، وساعدته تقنية التصوير بالألوان في نقل هذه الصورة الحية، التي تعتبر حتى الآن مرجعًا رئيسًا لمظاهر الحياة الاجتماعية في مصر في تلك الفترة على مستوى الديكور والملابس.

هكذا، وبمنتهى البراعة، شكَّل عبد السلام تأريخًا جديدًا وحقيقيًّا لفترة زمنية مهمة اندثرت آثارها، وساهم في تأسيس أرشيف فني جديد في تاريخ السينما وتاريخ الفن في مصر ؛ بتقديمه صورة متكاملة عن الأزياء المملوكية تعد مرجعًا دقيقًا لدارسي الفن وصناع السينما، وكذلك للثقافة العامة والجمهور، سواءً بالإسكتشات الفنية التي رسمها للتصميمات أو بالملابس، لتصير المرجع الأهم لصناع السينما في المستقبل عن هذه الحقبة التاريخية، وأقرب الصور الصحيحة لتاريخ قديم لم نعشه.

مواضيع مشابهة