كان من المناسب أن تترك المصورة الأمريكية «فرانشيسكا وودمان» وراءها ما يعبِّر عمَّا دار في رأسها طَوَال 22 عامًا قررت ألا تزيد يومًا واحدًا حين انتحرت في 1981، وضمَّ إرثها ألبومات صور صُنِّفت بشكل ما ضمن مدرسة جديدة في التصوير الحديث.
تحمست فرانشيسكا لفكرة «الاختفاء» منذ الصورة الأولى التي التقطتها بكاميرا أبيها، المصور «جورج وودمان»، عندما كانت في الثالثة عشرة من عمرها، حين أخفت وجهها خلف شعرها وثبتت توقيت الكاميرا، وظلَّت فكرة الاختفاء تراودها منذ ذلك الحين.
فرانشيسكا وودمان.. خلف بابٍ لا يمكن وصفه
في مرحلة تالية من حياتها، التقطت فرانشيسكا وودمان صورةً لما يبدو أنه باب خشبي كبير مخلوع وملقى أرضًا بشكل مائل في غرفة قديمة، يكاد يطفو في الهواء، وخلفه بدت الجدران شديدة القتامة. للوهلة الأولى تبدو الصورة تلخيصًا لحياة المصورة، باعتبار أنها كانت تختبئ خلف هذا الباب الذي لا يمكن الجزم بكونه مفتوحًا أو موصدًا.
ما بين عامي 1972 و1981، التقطت المصورة الأمريكية عشرة آلاف «نيجاتيف» بكاميرا قَطْع متوسط، يُخيُّل إلى مُشاهِد هذه الصور أنها نقلت ما دار في رأس فرانشيسكا طيلة 22 عامًا. اعتبرت جسدها المادة الخام الأولى لصورها، ليس كمصدر إغراء، وإنما كالباب الذي لا يمكن وصف حالته.
درست وودمان في إيطاليا بين 1977 و1978، حيث بيت أسرتها الثاني في مدينة فلورنسا، ضمن برنامج دراسي قدمته لها «مدرسة رود آيلاند لفنون التصميم» في الولايات المتحدة، لكن فرانشيسكا لم تندمج فيها تمامًا لإحساسها الدائم بالاغتراب عمَّا حولها.
ظنَّتها زميلتها في الجامعة، الكاتبة «بيتسي بيرني»، مختلة عقليًّا في بادئ الأمر ولم ترغب في الاقتراب منها، إذ كانت ترتدي ملابس طويلة مهلهلة وتعقص شعرها الطويل إلى الخلف دون اكتراث وتتحدث بصوت عالٍ. لم تشاهد التليفزيون، لم تهتم بالموسيقى، لكنها كانت إذا أرادت شيئًا تحصل عليه.
بابٌ إلى السريالية.. باب إلى الاكتئاب
لم تحظَ وودمان بشهرة كبيرة خلال حياتها، ولم تُنظَّم لها سوى القليل من المعارض.
تمكنت فرانشيسكا وودمان خلال دراستها من إيجاد مأوى لشغفها، فلازمت التصوير في المنازل المهجورة التي تذكرها بروما العريقة. التقطت صورًا لنفسها ولنساء عاريات، استغلت التكوين البصري للجدران الباهتة والطلاء المتساقط أرضًا لتدمج فيه البشر والمرايا التي تعكس صورهم، وتخلق بذلك نوعًا خاصًّا من التصوير شديد الذاتية لم يكن مألوفًا في ذلك الوقت.
مكَّنها من ذلك الفترة التي قضتها في إيطاليا، فهناك تعرفت إلى مكتبة «مالدورور» المتخصصة في نشر الفن السريالي، الذي ظهر أثره بشكل واضح في أعمال فرانشيسكا. أحبَّت المصورة الأمريكية تلك المكتبة، وهناك أقامت معرضها الفردي الثاني في 1978.
في عام 1979، عادت وودمان إلى نيويورك بعد زيارة حبيبها في واشنطن، وقررت حينها بإصرار شديد أن تبدأ في خلق موقع مهم لنفسها في مجال التصوير. عملت مساعد مصور لفترة، وبدأت في إرسال أعمالها إلى عدد من مصوري الموضة، إلا أنها لم تتلقَّ منهم ردًّا يناسب إصرارها، وهو ما دفع الاكتئاب إلى مغازلتها.
قد يعجبك أيضًا: فاليري سولانيس: الراديكالية الساحرة التي أرادت عالمًا بلا رجال
باب النقاد لا يمرر فوتوغرافيا فرانشيسكا
لم تحظَ فرانشيسكا بشهرة كبيرة خلال حياتها، ولم يُنظَّم لها سوى عدد قليل من المعارض، إلا أن المعارض التي تبنت عرض أعمالها منذ وفاتها وحتى الألفية الجديدة انتشرت بين روما ونيويورك وعدد من الدول الأوروبية.
نشرت وودمان عددًا من الكتب المصورة، كان أبرزها كتيب من 24 صفحة بعنوان «بضع هندسات مضطربة»، وفيه ألصقت صورها بالأبيض والأسود على رسوم هندسية من كتاب تدريبات هندسية إيطالي، وأدخلت تعديلات على العديد من الرسومات بما يتناسب مع صورها وكتابتها، وجذب الكتاب بعد وفاتها انتباه عدد من النقاد والفنانين، الذين اعتبروه كتابًا فريدًا وغريبًا.
اعتبر النقاد أن فرانشيسكا وودمان تأثرت في أسلوب تصويرها بعدد من التوجهات الفنية، مثل «الغوث» (يعتمد على العمارة القوطية) والسريالية.
كانت تمثِّل «العبقرية الضبابية» كما أطلقت عليها جريدة الديلي تليغراف، لكن عالمها كان أكبر من هذه الألقاب، إذ ركزت في تصويرها على الشخصانية المطلقة، وتوجهت إلى الذات بدلًا من الصور التي تبرز الأماكن والأشخاص الآخرين والقضايا المعاصرة، التي اشتهر بها أسلوب التصوير في سبعينيات القرن العشرين.
كان تصويرها يعكس انغماسها الشديد في عُمق رأسها ومشاعرها، حتى الصور العارية التي التقطتها لم تكن بقصد إثارة الشهوة كما كان شائعًا وقتها، بل لإظهار أسرار جسد المرأة.
ساعدت فرانشيسكا النساء في إعادة اكتشاف أجسادهن عبر صورها، كانت تكشفها بدافع تعرية المخاوف والعيوب، العلاقة بين العقل والجسد، دون إفراط في المظاهر الشهوانية.
قد يهمك أيضًا: صورة «A Sister's Care»: كيف تكسر القواعد وتبني الجمالية
أثار تصويرها الكثير من الفضول، مثل السؤال عن سبب اعتمادها بشكل كبير على هذا الكم من السواد، إلى الدرجة التي تبدو معها صورها كمقطتفات من فيلم رعب قديم، فأغلب المباني التي صوَّرتها كانت محطمة في شوارع تبدو حديثة، غرفًا مهجورة، مقابر دون زوار، واعتمدت فرانشيسكا على إبراز التناقضات أو بالأحرى تعريتها، كأن تصور فتاة عارية تبتسم بينما يدها تنزف.
واحدة من الصور التي عبَّرت عن ذلك كانت تُظهر وودمان نفسها عارية في مقابر مهجورة، ترقد على حافة بحيرة لا ألوان فيها وتحتضن جسدها جذور شجرة، كما لو أن الشجرة على وشك أن تلتهمها بينما هي مستسلمة، كما يبدو من إرخاء شعرها الطويل على صفحة المياه.
بابٌ نهائي.. كيف ستبدو صورة وودمان الأخيرة؟
استكشفت فرانشيسكا وودمان تكنيكات جديدة في التصوير، وكانت صورها تمزج الطاقة والحزن والخوف والارتياب والدهشة في وقت واحد. ظهرت في إحدى صورها وهي تمرُّ عاريةً من فتحة شاهد قبر رخامي، وقللت سرعة التقاط الصورة (Shutter Speed) كي تبدو وكأنها تتحرك.
في 1980، فشلت وودمان مرة أخرى في الاندماج مع العالم من حولها، حاولت الانتحار لكنها فشلت، فانتقلت إلى بيت والديها في مانهاتن ونشرت كتابها المصور «بضع هندسات مضطربة». منحها ذلك بعض الحماس، سيطر عليها كما كانت حالة الأبيض والأسود تسيطر على رؤيتها للعالم، فـتقدمت بطلب للحصول على منحة لمساعدتها كمصورة مستقلة لكن طلبها رُفض، ثم سُرقت دراجتها، وانتهت علاقتها العاطفية.
اقرأ أيضًا: لماذا نختار الموت؟ 6 أسباب يشرحها مختص نفسي قد تدفع الناس للانتحار
بعدها، اندفعت فرانشيسكا وودمان إلى سطح أحد مباني الجانب الشرقي في نيويورك وألقت بنفسها. لا بد أن عينيها التقطتا الصورة الأخيرة قبل الارتطام بالأرض، لَمْ تحتج إلى إبطاء سرعة الكاميرا كي تتحرك في الصورة، وقد تكون سنين عمرها الـ22 تحركت بحرية في هذا الكادر.
ربما شاهدت نفسها بالأبيض والأسود كما أحبَّت لصورها أن تكون، أو ربما كانت تلك هي الصورة الوحيدة التي رأت فيها فرانشيسكا ضرورةً للألوان. إنها الصورة الأخيرة في نهاية الأمر، عليها أن تُلتقط كما هي، دون إضافات. الصورة التي تختفي فيها المصورة الأمريكية للمرة الأخيرة في حياتها، بعد مارست الاختفاء منذ كان عمرها 13 عامًا.