بماذا تخبرنا اللغة عن الفوازير؟
تخبرنا الجولة السريعة في معاجم اللغة العربية، بأن الجذر اللغوي «فَزَرَ»، وهو جِذر كلمة فازورة (أو فزورة) بمعنى لغز أو أحجية، يرتبط دائمًا بالكسر أو الشق، ما يفترض أن المتلقي حين يهم بحل الفازورة، إنما يكسر قشرتها وصولًا إلى المعنى.
وبتطبيق مبدأ «الاشتقاق الكبير» الذي أخذه فيلسوف اللغة العربية أبو الفتح عثمان بن جني عن أستاذه أبي علي الفارسي، وطوَّره في كتابه العمدة «الخصائص»، يمكننا أن نضع أيدينا على علاقات وفيرة بين الكلمات المبنية بهذه الحروف الثلاثة (ف ز ر). فكلمة «فَرَزَ»، مثلًا، تحمل معنى تمييز المجموعات الجزئية عن بعضها، وصولًا إلى «الفرز» بمعنى القطعة.
كل «فَزْر» أو كسر ينتج عنه مجموعة من القطع (الفروز)، فكأن الفعلين «فَزَر» و«فَرَز» متصلان برابط خفي لا يصعب أن نكشف عنه. قل مثل ذلك في الجذر «زَرَف»، بمعنى اقترب مسرعًا، فهو يتجاوب مع فكرة الإنجاز الموجودة في «فزر» و«فرز»، وكذلك «زَفَر»، بمعنى «أخرج نَفَسه». فكأن الإنسان حين يزفر يكسر كيانه الذي يبدو متماسكًا ليخرج معنى حياته ملخصًا في النفس، أو هو «يفرز» هذا النفس الذي «يزفره» كما يفرز العرق.
هكذا تتجاوب معاني التباديل والتوافيق الصادرة عن مجموعة هذه الحروف الثلاثة، وهذا هو جوهر نظرية الاشتقاق الكبير لابن جني. لكن هل ابتعدنا كثيرًا عن موضوع الفوازير؟
حلاوة الروح: لماذا بطلت موضة الفوازير؟
في فوازير «ماونتن فيو» لرمضان 2018، القائمة على النجمين ماجد الكدواني ودنيا سمير غانم، لا نصادف كثيرًا من الجهد التمثيلي من ناحية الكدواني ودنيا. فالممثلان المتمتعان بشعبية كبيرة، والمشهود لهما بمقدرة أدائية محترمة وخفة ظل موفورة وحضور آسر أمام الكاميرا، لا يخرجان من طاقتهما الإبداعية إلا أقل القليل.
سيناريو الحلقات السبعة الموغلة في القِصَر يتلخص في أن الكدواني ودنيا يظهران في المقدمة بشخصيتيهما الحقيقيتين، باعتبارهما ضيفين في مهرجان سينمائي إيطالي (ربما يكون مهرجان فينيسيا باعتباره الأشهر)، ويضطران لأن يستقلا دراجة نارية بكابينة للحاق ببرنامج المهرجان، لكن فراملها تتلف فيتعرضان لحادث يفقدهما الذاكرة، ويكتشفان في جيوبهما ميداليتي «آي-سيتي» (I-City)، وهو أحد المشروعات العقارية لشركة «ماونتن فيو»، ومن خلال الحلقات السبعة يكشف عن مزايا سبعة لهذا المشروع.
الفزورة هي استخلاص المزايا من الحلقات. وجائزة الفزورة الواحدة إيصال بمئة ألف جنيه تُخصَم من إجمالي قيمة الوحدة السكنية حين يتعاقد الفائز على شرائها، وصولًا إلى الإيصال الأعظم بمليون جنيه، يمثل الجائزة الكبرى للفوازير.
ربما يمثل هذا الظهور الخاطف للفوازير، وسط حمى المسلسلات الرمضانية، شيئًا أقرب إلى حلاوة الروح بالنسبة إلى تقليد فوازير رمضان الذي بدأ في الإذاعة المصرية مع آمال فهمي وسامية صادق عام 1960، لينتقل سريعًا إلى التليفزيون في العام التالي، ويشهد طفرات متعاقبة مع بطولات ثلاثي أضواء المسرح، ثم نيللي، ثم فؤاد المهندس وسمير غانم وشريهان، مرورًا بعبد المنعم مدبولي ويحيى الفخراني مع صابرين وهالة فؤاد، وفوازير الكاريكاتير مع الإعلامية سوزان حسن، وصولًا إلى نادين ونيللي كريم.
اقرأ أيضًا: هل تحول شهر رمضان إلى موسم «الكريسماس العربي»؟
مسألة سقوط دولة الفوازير تناقَش في الإعلام المصري كل عام تقريبًا مع دخول رمضان، ويُرجِع كثيرون سبب هذا السقوط إلى عوامل بعينها، ربما أكثرها ترددًا في هذه المناقشات ارتفاع الميزانية المتوقَّعة لإحياء هذا التقليد التليفزيوني الذي يعتمد على مزيج من فنون الاستعراض والموسيقى والدراما وغيرها، إضافة إلى نضوب معين المواهب الجبارة التي قد تضارع موهبتي نيللي وشريهان، تحديدًا في جمع الغناء مع الأداء الحركي إلى التمثيل وخفة الظل، أو تضارع مواهب الشعراء والموسيقيين ومصممي الرقصات ومصممي الملابس والديكور والمخرجين وكتَّاب السيناريو الذين صنعوا مجد دولة الفوازير من ستينيات القرن العشرين إلى تسعينياته.
بشكل شخصي، لا أرتاح إلى حصر الأسباب. يوجد سبب آخر بسيط ومباشر قد ينساه المناقشون لهذا السقوط، هو بطلان موضة الفوازير. لكن يبقى السؤال وراء هذا السبب الساذج بدوره: لماذا بطلت موضة الفوازير؟
قفزة إلى فلسفة الدين
يلتفت المسلم لحقيقة انقضاء العمر، من خلال طقس الصوم ومراقبته ميعادَي الإمساك والفطر وارتقاب بداية الشهر ونهايته.
ربما من أهم إسهامات فيلسوف الأديان الروماني «مرتشيا إلياد»، من 1907 إلى 1986، فكرة «تجلي المقدس» (Hierophany) التي تعني تلك الظهورات التي تنسبها النصوص المقدسة والأساطير إلى الإله (أو الآلهة) والملائكة والكائنات العلوية الغيبية، والتي تغزو فيها عالمنا/عالم الشهادة المدنس.
تتأسس الأديان إجمالًا على هذه الفكرة. وفي رأي إلياد، فإن تجلي المقدس هو الذي يؤسس العالم وجوديًّا، فهو الذي يمنحه قيمة وتوجُّهًا وغاية. يقول إلياد في كتابه «The Sacred and The Profane» (المقدس والمدنس)، ما معناه إن العالم المدنس للخبرة اللادينية على حالته النقية لا يمكن تقسيمه إلا بشكل هندسي حيادي بارد، فبنيته الداخلية غير قادرة على خلق أي «تمايز قِيَمي» (Qualitative Differentiation)، وهو لا يعطي الإنسان أي نموذج سلوكي للاقتداء.
يعضد إلياد هذه الفكرة بـ«العَوْد الأَبدي» (Eternal Return) في الممارسة الدينية، التي تختلف عن مفهوم العود الأبدي الفلسفي (تكرار حدوث العالم عددًا لانهائيًّا من المرات). فالعود الأبدي الذي يقصده إلياد في فلسفته هو ذلك المعتقَد لدى المؤمنين بدين ما، أنهم يصبحون قادرين على المشاركة في الأحداث الأصلية لتجلي المقدس في دينهم من خلال اتباع طقوس معينة.
بالنسبة إلى الحالة الإسلامية، يحتل رمضان موقعًا مركزيًّا مهمًّا في مفهوم تجلي المقدس. فالثابت إسلاميًّا أن الظهور الأول لمَلَك الوحي جبريل للنبي محمد كان في رمضان، وبالتحديد في ليلة القدر. ولذا يحتفل المسلمون في هذا الشهر بطقوس تطهرية، أهمها الصوم والصلاة وقراءة القرآن والصدقة.
يتكثف هذا السلوك الإسلامي في العشر الأواخر من رمضان تحريًا لذكرى ليلة القدر، التي يُمنَح بركتها من يعينه الله على أن يسمو بسلوكه إلى درجة يرضاها (فهو بشكل أو بآخر يصبح مشاركًا في الحدث الأصلي لتلقي الوحي القرآني، انطلاقًا من رأي إلياد).
يصبح هذا الشهر الإسلامي المقدس قادرًا على إعطاء المعنى للزمن نفسه، بهذا التمييز الذي يحيط به في الموروث الإسلامي. فالسنة القمرية التي تشبه أيامُها بعضَها، ولا يميز الإنسان منها وقتًا على غيره، تتوقف لمجيء رمضان، ويلتفت المسلم لحقيقة مرور الزمن وانقضاء العمر، من خلال طقس الصوم بمراقبته ميعادَي الإمساك والفطر يوميًّا، إضافة إلى ارتقاب بداية الشهر ونهايته، ويتحدد له في رمضان النموذج السلوكي المطلوب الاقتداء به على مدار الحياة.
قد يهمك أيضًا: الإسلام والعلامات التجارية: نبيع ونشتري كل شيء
نعود إلى الفوازير
يبدو أن ارتباط الفوازير برمضان، في مصر على الأقل، أقدم من ظهور الإذاعة والتلفزيون. يحكي «إدوارد لين» في كتابه «المصريون المحدَثون» أن أهل الريف كانوا يتحلقون في رمضان حول الحكائين ليسردوا حكاياتهم مشفوعة بالفوازير البسيطة.
الفزورة، باعتبارها لغزًا، تقليد إنساني بالطبع، متجاوز لحدود الجغرافيا، لكننا ما زلنا نلمس، مع ما نشهده من سقوط موضة الفوازير التلفزيونية هذه الأيام، بقاء هذا التقليد في أشكاله البسيطة ببعض الصحف والمجلات، وممارسته حتى في بعض مساجد القاهرة بعد صلاة التراويح.
هل لهذا الارتباط علاقة بالمقدمة المعجمية لموضوعنا، والتي تكشف عن أن حل الفازورة هو التنقيب عن المعنى؟ وإذا كانت الإجابة عن هذا السؤال بالإيجاب، فهل يلقي هذا ضوءًا على مركزية رمضان في الممارسة الإسلامية باعتباره مانحًا المعنى للزمن، وبالتالي للعالم كله؟
في تقديري، هذا الارتباط بين الفازورة ورمضان، وتمحور الاثنين حول فكرة منح المعنى، كل هذا حاضر في «اللاوعي الجمعي» (Collective Unconscious) للجماعة المسلمة، التي كرست تقليد الفوازير الرمضانية في هذه البقعة من العالم، تمامًا كما تفترض نظرية «الاشتقاق الكبير» التي ذكرنا طرفًا منها في بداية الموضوع، حضورًا لذلك التراسل بين معاني تباديل وتوافيق المادة الصوتية الواحدة (أو الجذر اللغوي) في اللاوعي الجمعي للعرب الأوائل الذين اصطلحوا على وضع اللغة.
فلماذا إذًا سقطت الفوازير؟ أو لنكن أكثر تحديدًا: لماذا سقطت موضة الفوازير التلفزيونية باعتبارها نوعًا خاصًّا هجينًا من الفن التلفزيوني مميزًا لهذا الشهر؟
يبدو لي أن تبنِّي الإذاعة والتلفزيون تقليد الفوازير الرمضانية، منذ ستينيات القرن العشرين، كان ينطوي في داخله على عمليتين تبدوان متناقضتين:
- «علمنة الدين» (Secularization of Religion): تحويل المناسبة الدينية إلى دنيوية مرتبطة بطقوس احتفالية معينة، وهذه العملية هي الأوضح لدى قطاع عريض من أئمة المساجد مثلًا، نلاحظ هذا في دأبهم القديم المتصل إلى الآن على حض المصلين على اعتزال التلفزيون ومقاطعة برامجه في رمضان
- تديين المجال الدنيوي: لا ينتبه هذا القطاع من المجتمع لتلك العملية على الأقل، وهي عملية في الاتجاه المضاد، وفيها ينسحب المعنى الذي يمنحه رمضان للزمن على برنامج التلفزيون، فما يحدث بالفعل أن نمطًا خاصًّا من الدراما والاستعراض، وغير ذلك، مما يكوِّن فن الفوازير، يميز برنامج التلفزيون في هذا الشهر
في ضوء هذه الرؤية، يبدو سقوط دولة الفوازير انكماشًا لذلك المعنى الذي يمنحه رمضان للزمن لدى صانعي برنامج التلفزيون. وبمعنى أدق، يبدو الأمر تراجعًا لسطوة الدين وهيمنته على تفكير المشتغلين بالفن. ما حدث في العقد الأخير مواكبًا لانفجار عدد قنوات التلفزيون الفضائية، هو انفجار مماثل في عدد المسلسلات التي تخصص عرضها الأول لشهر رمضان، في مقابل انكماش واضح للفوازير.
صحيح أن فكرة تخصيص العرض الأول لرمضان تعد شكلًا من أشكال تديين الفن أو المجال الدنيوي، لكن بالتأكيد بدرجة أقل من تخصيص فن بعينه لهذا الشهر لا يُعرَض إلا خلاله. نستطيع أن نعبِّر في أمان عن هذه العملية باعتبارها ازديادًا في علمنة رمضان مقابل الانكماش في تديين الفن.
سقوط فن مهتم بفكرة الكشف عن المعنى، كالفوازير، يمثل اتجاهًا عامًّا في المجتمع، إلى فقدان الثقة في حقيقة وجود المعنى.
ربما نلمس شواهد أخرى على هذه العلمنة في انكماش نسبة المسلسلات المصرية المهتمة بتاريخ العصور الإسلامية السابقة، مما يشار إليه بالمسلسلات الدينية. كذلك، فإن حلاوة الروح التي أشرنا إليها سابقًا في حديثنا عن فوازير «ماونتن فيو» لهذا العام، هي في الحقيقة تستهدف شريحة عليا مميزة في المجتمع. فمن نافلة القول إن المهتمين بحل هذه الفوازير من يملكون ثمن شراء الوحدات السكنية الممتازة لمشروعات «ماونتن فيو»، ويرغبون في الاستفادة من الخصم الذي تقدمه الفوازير.
هذا في مقابل تراث الفوازير الرمضانية الطويل الموجه لكل قطاعات المجتمع، دون تفرقة في غالبية الأحيان. يمثل هذا بدوره شكلًا صلبًا من الرأسمالية لا يهتم كثيرًا بمفاهيم الخير والصدقة والتكافل، التي كانت ترتبط قديمًا بتقليد الفوازير التلفزيونية والإذاعية.
يبدو أن سقوط فن مهتم بفكرة الكشف عن المعنى، كالفوازير، يمثل اتجاهًا عامًّا في المجتمع، إلى فقدان الثقة في حقيقة وجود المعنى. ورجوعًا إلى فلسفة إلياد، يجسِّد هذا بدوره انكماشًا يائسًا لسطوة الدين بصفته مانح المعنى لفضاءات الزمان والمكان للموجود البشري. إنها درجة قاسية من العلمنة التي يراها فلاسفة متباينون في مواقفهم إزاء دور الدين في المجتمع (مثل ماركس من ناحية، وماكس فيبر من ناحية مضادة) عملية تسير في اتجاه واحد: العلمنة، ثم مزيد من العلمنة، وهكذا إلى النهاية.