كانت «مرسي الزناتي اتهزم يا رجالة» العبارة الأشهر التي رددها المصريون وتداولوها وكتبوها في تعليقاتهم على مواقع التواصل الاجتماعي، مرفقةً بصورة قائلها الفنان سعيد صالح، بعد مظاهرات 30 يونيو 2013، في إشارة إلى عزل الرئيس السابق محمد مرسي.
جملة قالها صالح في مسرحية بالأبيض والأسود عام 1973، لكنها لا تزال حاضرة وطازجة، وتختصر كثيرًا من الأفكار، خصوصًا حينما تكون مرفقة بصورة النجم الكوميدي الراحل وهيئته وهو يرفع يديه ملوحًا.
«الكوميكس» فن ذكي موجز يمكنه أن يمرر رسالة بمنتهى السلاسة، فماذا عن دوره في صنع أرشيف من نوع جديد للأعمال الفنية وقائليها أيضًا؟
الكوميكس، أو ما يُطلَق عليه «الفن التاسع»، فن القصص المصورة، قال عنه «سكوت مكلاود»، صاحب كتاب «فهم الكوميكس» إنه يوضع في وَسَط ورقي مثل الكتاب، لكنه رغم ذلك يحتوي على رسومات مثل اللوحات، ويُنتِج تأثيرًا بتتابعها مثل السينما. ولأن كل هذا العمل موضوع في قالب إبداعي، فقد أدى ذلك إلى اعتباره فنًّا مستقلًّا بذاته.
بدأ هذا الفن بالقصص المصورة الموجهة إلى الأطفال، ثم تطور كثيرًا حتى بات كل من يمتلك وسيلة اتصال ذكية بيده أن يصنع قصة مصورة تَلقى ذيوعًا وانتشارًا في التو. وفي مصر مثلًا، ساعد الكوميكس في توثيق أحداث ثورة 25 يناير، فقد صدر بعدها ألبوم مصور لأحمد فودة هو «الثوار الأبطال»، وتبعته محاولات كثيرة.
هل الكوميكس وسيلة لحفظ التراث؟
السؤال يبدو مشروعًا جدًّا الآن، فببساطة أنت تجد قريبك أو جارك الذي لا يزال في الخامسة عشرة من عمره، ولا يحب سوى مشاهدة أفلام أحمد حلمي وأحمد السقا مثلًا، يستخدم في نشاطه اليومي عبر مواقع التواصل الاجتماعي عبارات قالها فنان رحل قبل 35 عامًا مثل يوسف وهبي، في فيلم عُرِضَ عام 1960 هو «إشاعة حب».
كيف جاء بالعبارة وهو لا يجلس أبدًا أمام شاشة التلفزيون التي قد تعرض الفيلم بين حين وآخر، ولا يعرف شيئًا عن قصة العمل؟ إنه سحر «الكوميكس»، الذي يختصر الأفكار والردود والمواقف بصورة «سي السيد» أمام زوجته الخائفة «أمينة» مع عبارة قصيرة جدًّا مثل: «يعني بتسغفليني وتخرجي من غير أمري يا أمينة»، هكذا اختُزِلَت المقدمات والتبريرات وتحليلات الرأي.
قد يهمك أيضًا: القلش: هل هو عطل في ماكينة الكلام؟
سي السيد غاضب من أمينة لأنها لم تغسل المواعين.. ولم لا؟
في الوقت الذي تسير فيه كوميكس توفيق الدقن «انتباه يا دانص» و«أحلى مِ الشرف مفيش»، وسعيد صالح «مرسي الزناتي اتهزم يا مينز» و«إيه يا شيخة إيه» و«أيام ما كان عندي نظر»، جنبًا إلى جنب مع عبارات محمد رمضان مثل «بس يا بابا»، وخالد الصاوي «يا بهايم يا بهايم»، وغيرها، يبدو المشهد وكأن رواد السوشيال ميديا يسيرون على بحر من الكوميكس.
بل تجدهم ينوِّعون أيضًا ويغيرون في العبارات الأصلية مع الاحتفاظ بصور المَشاهد كما هي وفقًا لما يتطلبه الموقف، فلا مانع من أن يسأل سي السيد زوجته أمينة عن سبب تأخرها عن غسل الصحون (الأطباق) وتركها في حوض المطبخ، وأيضًا من الطبيعي أن تجد ماري منيب تسخر من «عيد الحب»، ولا توجد أزمة في أن تعاني زينات صدقي من عدم رد الشاب الذي تتمنى الارتباط به على رسائلها على واتساب.
من هذا الضخم الشرير؟ إنه صلاح منصور في «الزوجة الثانية»
المواد الممتعة والمضحكة وسهلة التداول بات لها صفحات خاصة على فيسبوك وتويتر، وتلك الصفحات ترحب دومًا بالأفكار الجديدة التي يتنجها المتابعون، ومنها «أساحبي»، الشخصية الكوميدية الخيالية الساخرة التي أصبحت لسان حال المصريين في المناسبات والمواقف كلها، فقد يصل الأمر إلى استخدامها في النقد القاسي اللاذع، الذي يتجاوز سقفه ما يمكن أن يصدر عن وسائل الإعلام التقليدية، بدءًا من غلاء سعر البنزين، وصولًا إلى كابوس الثانوية العامة، وحتى انتخابات الرئاسة.
نفس الأمر بالنسبة إلى صفحة «فاصل مش إعلامي»، إحدى أبرز الصفحات الساخرة المنتجة للكوميكس. هذه المنصات وغيرها تكون الأعمال الفنية باختلاف زمن صناعتها مادتها الأساسية، مثل الأغنيات والأفلام والمسلسلات والمسرحيات، بل كذلك «لازمات» مذيعي التوك شو، فالمجال متسع تمامًا، حتى أنه يصل إلى رؤساء الجمهوريات، عربيًّا وعالميًّا، فهل تعد هذه الصفحات وسيلة للتنفيس فقط، أم يمكن أن تكون مصدر معلومة ووسيلة مختلفة ومعاصرة لفكرة التوثيق والأرشفة بشكل غير نظامي بالطبع، عن طريق نقل تلك المواد للأجيال الجديدة؟
بسؤال أحمد الليثي، وهو طالب في الفرقة الأولى بكلية التجارة، يمكننا على الأقل أن نقترب من طريقة تعامل الجيل الحالي مع حالة الكوميكس.
يؤكد الليثي أنه أصلًا لا يعرف أن تلك الصور تسمى «كوميكس»، لكنها تعجبه كثيرًا، ويجدها خفيفة ومعبرة جدًّا، ومواكبة لأسلوبه اليومي، لكنه يحكي موقفًا.
«شاهدتُ صورة لرجل يرتدي جلبابًا يوبخ سيدة تبدو مرتعبة أمامه لأنها تركت المنزل دون إذنه، ثم شاهدت بعد ذلك عبارات كثيرة مضحكة على نفس الصورة التي أعجبتني جدًّا ووجدتها معبرة عن كل موقف. شغلني الأمر، فحاولت البحث، وتوصلت إلى اسم الفيلم، جربت مشاهدته ولم أتحمل طول مدته، لكني شاهدت مقطع فيديو مختصرًا للموقف الذي التُقِطَت منه الصورة». بالطبع يقصد يحيى شاهين وآمال زايد، أو سي السيد وأمينة، في فيلم «بين القصرين».
مثله رانيا العطار، التي لا تزال في المرحلة الثانوية، وتحب مشاهدة التلفزيون كثيرًا، لكن لا تستهويها أفلام الأبيض والأسود، ورغمًا عنها تجد نفسها تشارك بعض صور تلك الأفلام، لأن الكلمات المكتوبة عليها تكون دقيقة جدًّا وفي محلها: «كان هناك رجل يبدو ضخمًا، ومعه امرأة تقول له الليلة يا عمدة. زميلاتي يستخدمن تلك الصورة كثيرًا للتعبير عن ضرورة تنفيذ أمر ما سريعًا».
تقول رانيا إن الصورة أثارت فضولها حين أمرتها والدتها بحذفها من على حسابها لأنها «لا تليق»، فاستغربت وبحثت عن الفيلم وشاهدته، وفهمت لماذا رفضت أمها وجودها على حسابها، إذ كان المشهد من فيلم «الزوجة الثانية» المعروض عام 1967، وفي الكوميك كان يظهر صلاح مصنور وسناء جميل، فقد كانت الزوجة الأولى ترغب في أن يبيت الزوج ليلته لديها رغم أنها ليلة زفاف ضرتها.
قد يعجبك أيضًا: فلسفة النكتة: كيف يضحك السعوديون؟
كوميكس: انتصار على الوسائل التقليدية
غطى فن الكوميكس بعض الشيء على الكاريكاتير، ويمكننا باختصار القول إن الكوميكس كاريكاتير الجيل الحالي.
بالعودة إلى السؤال: هل هذا تراث الأجيال الجديدة؟ وهل هذه طريقتهم في تداول ما هو قديم وآنٍ أيضًا من الأعمال الفنية؟ خصوصًا أن ساحات السوشيال ميديا باتت عبارة عن ألبوم مصوَّر ممتد، هذه جملة وصورة لكريم عبد العزيز من عمل ما، ترد عليه ماري منيب بلازمة من لازماتها الشهيرة، وهذه جملة ضاحكة لعمرو عبد الجليل، تقابلها أخرى لإسماعيل ياسين.
نحن أمام وسيلة تخلصت من كل أعباء الوسائل التقليدية الهادفة إلى تثقيف الأجيال الجديدة بطرق قد تبدو أكثر مللًا، والمنادية أيضًا بتعريف المراهقين والأطفال بتاريخهم الفني.
الناقد الفني رامي عبد الرازق يقول إن فن الكوميكس يتميز بالتكثيف ويجمع بين أكثر من نوع فني، وهذه ميزة مهمة. ومع أنه خفيف، ففيه عمق وخيال واسع، وهذا سر انتشاره. لكنه لا ينفي مع ذلك أن بعض الكوميكس أصبح يتجه إلى الابتذال من أجل الإضحاك، لكن الكوميكس كفن بريء من هذا.
يوضح عبد الرازق لـ«منشور» أن الكوميكس يزيد من فضول مستخدميه من الشباب لمشاهدة الأعمال التي تتمحور حولها الصور الأشهر، فاللقطة اللافتة الثابتة مع العبارة القوية تقودهم في بعض الأوقات إلى مشاهدة باقي العمل، والتعرف إلى شخصياته.
لكنه ما زال يعيب على منتجي هذا الفن افتقارهم للعمق، ويلفت النظر إلى نقطة أخرى، هي أن فن الكوميكس غطى بعض الشيء على الكاريكاتير: «الكوميكس مزيج من الصور والكوميديا، وله الغلبة والانتشار لأن مادته خصبة من رسم وكارتون وفوتوغرافيا، ومصادره متنوعة مثل البرامج والخطب السياسية، وحتى المواقف العابرة، وجمهوره من الفئة الأكبر عددًا، أي الشباب والمراهقون. يمكننا باختصار القول إن الكوميكس كاريكاتير الجيل الحالي، إن صح التعبير».
هذا الفن دائم التطور، الذي يؤرخ بشكل غير معتاد لكثير من الأعمال، قد يصلح في حد ذاته تراثًا، بعيدًا عن كونه يشتغل على التراث الفني التقليدي، بحسب ما تؤمن به الدكتورة غادة جبارة، العميدة السابقة للمعهد العالي للسينما في مصر، وتؤكده بقولها إن الكوميكس يُسهم بالفعل في التعريف بكلاسيكيات الفن.
لكنها مع ذلك تلفت إلى أن الكوميكس، بالرغم من محاسنه في إعطاء تعريف بسيط ومبدئي للأجيال الجديدة عن بعض الأعمال الفنية القوية، وحتى دفعهم إلى مشاهدة أعمال فنية رفيعة ومهمة لمعرفة مصدر الإفيهات وفهمها، فإنه لا يمكن إخفاء مساوئه. الكوميكس، في رأيها، أسهم في تدني ذوق بعض الشباب والمراهقين وتقليص الحس الفني لديهم، فصاروا يتبادلون الصور كنكتة لا أكثر.