هل تعرف ما الذي ينتظرك بعد الموت؟ حتى لا تذهب بخيالك بعيدًا، لا نريد الخوض في الإجابات الدينية أو الفلسفية، ولنكتفِ بالفن، تحديدا المسلسلات التلفزيونية.
السؤال مفتتحٌ لعالم من الخيال يمكن أن يذهب فيه العقل كما يحب، دون محاذير أو ضوابط. فابتداءً، الحرية الدرامية هنا هي ما حرَّك صُناع الأعمال التلفزيونية التي تتناول تصورات مختلفة لحياة هذا العالم الغامض، وتفاصيله، لمحاولة خلق حالة سرد بصرية في «عالم ما بعد الموت»، أو كما يطيب لنا في الثقافة العربية أن نسميها: الآخرة.
«The Good Place»: الجحيم هو الآخَر
تتسم أحداث المسلسل ونكاته بالذكاء، عبر نقاش معضلات أخلاقية تدور في فلك الثواب والعقاب، وإن كان هذا المكان جيدًا، فما هو المكان السيئ؟
يحكي مسلسل «The Good Place» الكوميدي عن أربعة أشخاص يفيقون بعد موتهم في «المكان الجيد» تحت رعاية المعماري/المَلاك «مايكل»، لكن إحدى الشخصيات تعرف أن خطأً ما حدث، وأنها تنتمي إلى «المكان السيئ».
عُرض الموسم الأول من المسلسل في 2016، وحاز إطراءً نقديًّا وجماهيريًّا ضمن له الاستمرار لموسم ثالث في 2019.
الآخرة هنا تمتاز بالكمال، منزلك كما تحلم، سيكون لك «توأم روح» تعشقه ويعشقك، والأهم أن القهوة لا تنسكب من حواف الكوب الورقي.
لوهلة تشعر أن المكان تقليدي للغاية ولا يختلف عن الحياة كما نعرفها، وهو ما يفسره مايكل بأنه صمم كل شيء ليراه البشر مألوفًا. كل شيء يراعي قدرات البشر البسيطة، حتى الملاك والشيطان يظهران على هيئة إنسانية.
بهذه الخفة يتجنب المسلسل الإجابة عن الأسئلة الكبرى، ويبقى عالمه أقرب إلى مكان سحري تستطيع به الطيران، وشرب الحليب المخفوق من بركة الحديقة، لكن هذا السحر يبدأ في الزوال عندما يكتشف أحدهم أنه دخيل، وتبدأ عناصر المكان في الانهدام.
تتسم أحداث المسلسل ونكاته بالذكاء، عبر نقاش معضلات أخلاقية تدور في فلك الثواب والعقاب، وإن كان هذا المكان جيدًا، فما هو المكان السيئ؟ بينما اتسعت رقعة العالم بصريًّا ليمتد ويشمل «مكانًا متوسطًا» و«محطة قطار»، ويصوِّر نظرة داخلية لحياة بيروقراطية يعيشها الملائكة والشياطين.
«مايكل شور» مبتكر المسلسل يذكر أنه استلهم كثيرًا من عناصر مسرحية «No Exit» لجان بول سارتر في صياغة عمله الكوميدي.
اقرأ أيضًا: بعد عمر طويل: ماذا سترى عند الموت؟
«Black Mirror»: الجنة على الأرض
المكان الافتراضي في «San Junipero» يضم من اقتربوا من الموت ليجربوا النعيم، قبل أن يقرروا البقاء فيه إلى الأبد.
لا جدال في القول إن مسلسل «Black Mirror» يأتي في طليعة أعمال الخيال العلمي لجيل بأكمله، وقد قدَّم المسلسل أطروحته للحياة بعد الموت بشكل يتلاءم مع فرادة قصصه وسيناريوهاته، التي تتمحور حول التكنولوجيا وآثارها الجانبية.
في حلقة «San Junipero»، الحائزة على جائزة «إيمي» لأفضل فيلم تلفزيوني عام 2016، يمنح المسلسل نظرةً على نعيم يصنعه البشر عبر نقل الوعي إلى «ملفات ارتباط» (Cookies)، تلج إلى شبكة تقدم محاكاةً لمرحلة زمنية في حياة البشرية كثمانينيات القرن العشرين وتسعينياته.
الملفت أن هذا المكان الافتراضي يضم من اقتربوا من الموت أيضًا، وهذا الطرح جديد بأن تجرب النعيم قبل أن تقرر البقاء فيه إلى الأبد.
تركز الحلقة على هذه الرؤية من عدة نواحٍ، في ظل قصة رومانسية تجمع شابتين، في نقاش عن الحب والالتزام ومعنى الحياة.
ليس لهذا العالم ملامح إضافية، بل هو محاكاة لحقب الحضارة البشرية والرائج في كلٍّ منها. واستخدام أغنية «Heaven is a Place on Earth» في مطلع الحلقة كان مثاليًّا، وهكذا تتالت الانتقالات في ما يقارب ثيمة السفر عبر الزمن دون أن يكون الأمر كذلك.
قد يهمك أيضًا: أين الجنة؟ ربما تفصلك عنها 5 خطوات وحسب
«The Leftovers»: آخرة من دون حساب لأجل الخلاص
كلا العملين السابقين ينهل من مرجعيات فنية أو عموم التجربة الإنسانية، مع تفسير صلب تقدمه حبكة العمل. فالعالم مألوف، وليس غريبًا. عالم حالم، لكن الشخصية تدركه وتعي ما حولها، فقد تقبلت فكرة وجودها الحالي وفنائها السابق، لكن هناك تيارًا آخر لا يحفل بالتفسيرات، ويَحبِك مفردات عالمه بما يتماشى مع الرؤية الفنية.
مسلسل «The Leftovers» نأى بنفسه عن التفسيرات، وبعد ثلاث رحلات لـ«كيفين» إلى الضفة الأخرى بعد تجارب شارف بها على الموت، كان يعود إلى ذات المكان: الفندق.
تنساب الموسيقى الكلاسيكية خلال المَشاهد، ويضطلع كيفين في كل مرة بدور حسب الزي الذي يختاره من الخزانة، رئيس، أو قاتل مأجور. كل مرة مهمة مختلفة قد تقتصر على الغناء أو تفجير قنبلة نووية. في كل مرة هناك قاعدة وحيدة جانبية لا تتسق مع غيرها، تضفي مزيدًا من الغرابة خلال سعي الشخصية إلى الخلاص.
يُحسَب للنص والأداء العالي إقناعنا بما يحدث، فكل شيء يبدو منطقيًّا وفقًا للقاعدة الجانبية: لا تشرب الماء، أو لا تنظر إلى المرآة.
نلاحظ وجود كثير من عناصر وثيمات من أفلام «ستانلي كيوبريك» في ما يقدمه المسلسل على أنه الآخرة: التفجير النووي، واقتحام حفلات خاصة، والفندق. هذا يعود بنا إلى قابلية الإنتاج التلفزيوني في ذروته إلى الاحتفاء بالفن، فهو يعيد قولبة الكلاسيكيات، ويمرر أكثر من إشارة مرجعية بعد هضم نتاج سينمائي ومسرحي، وإحالته إلى شرط ظرفي في الثقافة الشعبية تلفزيونيًّا.
قد يعجبك أيضًا: الموت: الاقتراب من المنابع المقدسة
«Twin Peaks»: ديفيد لينش.. دائمًا
تنفتح بوابة على عالم ما بعد الموت، ويستعرض المسلسل النعيم والفرار من الجحيم، ثم تضحية الملاك بنفسه في سبيل الإنسان.
في المسلسل، يوضح القزم للعميل الفيدرالي «دايل كوبر» أن القاعة الحمراء تقع في بُعد آخر، وأنها أشبه بقاعة انتظار قبل دخول «الهوة المظلمة» حيث تجتمع الأرواح الشريرة. ينتظر كوبر 25 عامًا في القاعة، ثم يعود إلى «الحياة» بجسد آخر وعقل طفل، باحثًا عن الشيطان الذي استحل جسده.
هذا بالطبع أحد تفسيرات «Twin Peaks» التي تحتمل الخطأ أكثر من الصواب، لكن رؤية المخرج ديفيد لينش لعالم ما بعد الموت شملت عملاقًا وقزمًا وظلالًا، وتعددت رموزها ودلالاتها، لكنها تجتمع على أن هذا المكان يمنحك الحقيقة: هل كنت شخصًا جيدًا أم سيئًا.
في الحلقة الثامنة من الموسم الثالث، تنفتح البوابة على عالم ما بعد الموت بفعل بشري أرضي عقب تجربة نووية، في لوحة مشهدية يقدمها لينش على امتداد 26 دقيقة دون حوار، تستعرض النعيم والفرار من الجحيم، ثم تضحية الملاك بنفسه في سبيل الإنسان، مشاهد هادئة ومرعبة بالأبيض والأسود.
تتشابه عناصر من الأعمال السابقة في ما بينها، مثل وجود القرين الذي يحتل جسد الشخصية في كلٍّ من «The Leftovers» و«Twin Peaks»، لكن أسباب هذا التوظيف تختلف وتتنوع في ظل ازدياد وتيرة الأعمال التي تستقصي محاولات البشر لتصور ما بعد الموت على اختلاف النوع الدرامي، فهناك الكوميديا والرعب والخيال المحض مثل «The O.A» و «American Gods»، بينما يقترب موعد عرض مسلسل «Miracle Workers» الكوميدي من بطولة «ستيف بوشيمي» و«دانيال رادكليف»، الذي يتحدث عن محاولة ملاك إقناع الإله بعدم تدمير الأرض.