الطرب الينبعاوي: لنصفِّق معًا على إيقاع التراث المشترك

شريف حسن
نشر في 2017/09/28

الموسيقى لا تعترف بالحدود، تُبحر عبر الزمن والمكان، تؤثر في الثقافات وتتأثر بها، تختلط بالمكان وكأنها مولدة فيه، وتغير لونها وجلدها، لكنها تحافظ على قيمتها الفنية، حتى لا تعرف أين وُلدت. ومع كل رحلة للبشر إلى مكان جديد، تنتقل معهم موسيقاهم. وكما انتشر الإسلام بالتجارة في بعض الأماكن، انتشرت الموسيقى بالتجارة، وبالاختلاط بين أجناس البشر المتباينة وموسيقاهم المتباينة أيضًا.

البحر، أحد أهم الوسائل في تبادل الثقافات واختلاطها بعضها ببعض، يُبحر الناس للتجارة والصيد، وفي عرض البحر تصبح الموسيقى والغناء وسيلة الترفيه الوحيدة على السفينة، وتتغطى فكرة الترفيه لتصبح وسيلة تشجيع وتحميس العاملين، فيظهر لنا النهام في الخليج العربي، وأغاني الصيادين والسمسمية في مصر، والإيقاعات الإفريقية في سواحل القارة.

على ساحل البحر الأحمر، خصوصًا مدينة ينبُع السعودية، نجد الفن البحري الينبعاوي الذي يشمل فنون عديدة، مثل «العجل» و«السمسمية» و«الخبيتي»، وعلى رأسها نجد فن الطرب الينبعاوي، وهو فن نتج عن امتزاج الإيقاعات الخليجية بالأغاني المصرية والشامية عن طريق رحلات البحر الأحمر، وتظهر فيه أيضا السمسمية وشكل التخت القديم بصحبة الآلات الإيقاعية الخليجية.

بعيدًا عن كيف بدأ هذا الشكل في الظهور، وهو تاريخ يرجع إلى زمن بعيد، نحن أمام فن له مكانة مهمة في التراث السعودي، ويوضح أن الموسيقى لا تقف عند مكان معين، أو تمنعها الحدود من التجنيس والتغيير في شكلها، لينتج لك فن جديد له خصوصيته المتفردة، ونجد أيضًا فيه الموال والتبحيرة، يعني التبحير والغناء من نفس المقام.

نجد فكرة اللعب على التراث المشترك موجودة بقوة في الطرب الينبعاوي، مما يدل على قوة الاشتباك وقِدَمه.

انتشر الطرب الينبعاوي في أرجاء السعودية وحاز مكانة مهمة لما يحمله من بهجة وإيقاع راقص، وكلمات معروفة مسبقًا ومحبوبة، لكنه كان جذابًا كذلك لغير أبناء الخليج، خصوصًا عند سماعهم أغانيَ مشهورة في شكل جديد وبإيقاع مختلف عن المعروف لهم.

اقرأ أيضًا: ليست أغانٍ، ليست أناشيد.. تسمع شيلات؟

دور «يا نحيل القوام» وتبحيرة «أحبابنا وادعونا لركبهم راحوا» لعبد الحكيم رويسي

تسمع أغاني أم كلثوم، المشهور منها مثل «على بلد المحبوب» أو غير المشهور كدور «العزول فايق ورايق» تلحين الشيخ زكريا أحمد، ونرى محمد عبد الوهاب حاضرًا بأغنية مثل «مين عذبك»، أو تسمع ألحانه في «نور العيون يا شاغلني»، التي لحنها لمحمد أمين.

تسمع تنويعات على نفس مذهب «لمَّا أنت ناوي»، وهنا يظهر تساؤل: هل «لما أنت ناوي تغيب على طول» لها أصل تراثي؟ ربما يؤكد ذلك أن كاتب الأغنية لمحمد عبد الوهاب هو أبو بثينة، أشهر زجالي مصر في عشرينيات وثلاثينيات القرن الماضي. نجد فكرة اللعب على التراث المشترك موجودة بقوة في الطرب الينبعاوي، مما يدل على قوة الاشتباك وقِدمه، فنجد «حير الأفكار»، وهي على نفس مذهب موشح «حير الأفكار بدري»، ونجد تشابكًا أيضًا مع أغنية التراث «عم يا جمال»، ومع «عطشان يا صبايا»

ومن سوريا، هناك فريد الأطرش وأغنيته «هلت ليالي»، ويظهر صباح فخري بقوة مع التراث الشامي والحلبي في أغانٍ كثيرة، مثل «آه يا حلو يا مسلينى» وموشح «يا نحيف القوام» و«يا قمري البان» و«أشوف القمر تخطر على بالي»، وكذلك الأدوار القديمة مثل «جددي يا نفس حظك» من ألحان عبده الحامولي، ومن التراث العراقي أغنية «يا أم العباية».

قد يهمك أيضًا: كيف طوَّر التضاد بين الأخوين دوخي موسيقى الكويت؟

في مدينة حضرموت، نجد في الفن الحضرمي أغاني مثل «إنت عمري» بإيقاعات يمينية (دربوكة).

قدم أهل ينبع الطرب بطريقتهم الخاصة، وبجانب الأغاني المشهورة، قدموا أغاني من تراثهم، وهو الشكل الموسيقي الذي تأثر به بليغ حمدي، فقدم لسميرة سعيد أغنية من الفلكلور الينبعاوي هي «يا ليلة الأنس».

دور «يا ليلة الأنس» الينبعاوي

أصوات كثيرة حملت هذا التراث على أكتافها من أجل الحفاظ على هذا الشكل الغنائي، ومن أكثرهم مساهمةً في الطرب الينبعاوي عائلة حسن عبد الرحيم بطيش، وعائلة علي الرويسي.

لم يقف هذا الشكل الغنائي عند ينبع، أو يُحصَر في السعودية فقط، بل هو موجود أيضًا في الضفة المقابلة، في مدن البحر الأحمر وعلى رأسها الغردقة، فنجد هناك السمسمية والطرب الينبعاوي لكن مع اختلاف بسيط في الإيقاع. مثل أغنية «والله لاهشه يالعصفور» على نفس مذهب أغنية طروب، وكذلك قدمت مدن القناة نفس الشكل بغناء الموشحات والأدوار القديمة على السمسمية.

قد يعجبك أيضًا: هل كان الترفيه سببًا في انهيار الحضارات؟

من مصر إلى اليمن، وبالتحديد في مدينة حضرموت، فهناك نجد الفن الحضرمي، ونجد فيه أغانيَ مثل «أنت عمري» بإيقاعات يمينية (دربوكَّة). ومن اليمن إلى العراق، ومن حضرموت إلى البصرة وفن الخشابة البصرية، الذي يقدم الأغاني اللبنانية والمصرية بشكل عراقي شعبي، بالإيقاعات القوية الخاصة به، بجانب شكل التخت الشرقي، مثل أغنية نجاة الصغيرة «أما براوة»، وموسيقى أغنية «ست الحبايب»، وأغاني برهوم حاكيني وأم كلثوم، وغيرها.

جزء من أغنية أم كلثوم «أنت عمري» على الدربوكَّة بطريقة حضرموت

تُصبَغ الأغاني بالمكان عن طريق الإيقاعات الموسيقية، وتتحول إلى شكل شعبي يخص كل منطقة وحدها، رغم الحفاظ على الكلمات واللحن، وفي كل مكان نجد التصفيق أمرًا مهمًّا بجانب الإيقاع.

يتضح أن الاشتباك مع الثقافات الأخرى ودمجها في ثقافتك، مع الحفاظ على هُويتك، يُنتج أشكالًا مهمة وجديدة مثل الطرب الينبعاوي، الذي رغم قِدمه لا يزال شكلًا خاصًّا بأهل ينبع، ورغم وجوده في أماكن كثيرة، لا يزال كل مكان يحافظ على خصوصيته الفنية.

مواضيع مشابهة