هذا الموضوع ضمن هاجس «المغامرة». اقرأ موضوعات أخرى ضمن الهاجس من هنا، وشارك في الكتابة من هنا.
بعض أفلام السينما ينجح فقط لأنه يخطف المُشاهد من واقعه ويهرِّبه عبر شاشة سحرية، ليعيش مغامرة ينفصل بها تمامًا عن الواقع بكل مشاكله وهمومه، يتنفس في رحاب تلك المغامرة ويعيش عوالم لم تخطر له من قبل، ثم (كحال كل شيء) تأتي النهاية فيسترد وعيه وواقعه ويبتلعه زحام الحياة، وتمر الأيام والسنوات وتبقى تلك التجربة أو المغامرة ذات لذة يستشعرها كلما شاهد الفيلم أو لمح مشهدًا منه.
هذا هو الحال مع أفلام، أو بالأحرى قصص ومغامرات، «ويس آندرسون» الساحرة والملونة على شاشة السينما، فهو أستاذ حكي المغامرات ذات الألوان المختلفة، ولو شاهدت أي فيلم له ستجد مجموعة من الألوان تغلب على الأحداث.
صحيحٌ أن معظم ألوانه تشبه ستايل «Retro» (قديم) أو ألوان موضة ستينيات وسبعينيات القرن الماضي، لكنه يختار بعناية مجموعة ألوان كل فيلم على حدة، لتصبح كل مغامرة ذات ألوان مختلفة تمامًا.
لون أبيض مُرقّط ببقعة سوداء
لا يمكنك فهم عمل فني بصورة كاملة دون التعرف إلى الفنان ذاته، فلو لم نعرف حجم المعاناة والمأساة التي عاشتها «فريدا كاهلو»، لم نكن لنقف مشدوهين أمام أعمالها الفنية المرسومة وهي على فراش المرض، ولم نكن لندرك هذا العمق الذي يحمله العمل الفني بالأساس، وكذا الحال مع مبدعين مثل المخرج الأمريكي ويس آندرسون.
وُلد ويس آندرسون في 1 مايو 1969 في مدينة هيوستن، في عائلة متوسطة الحال لديها ثلاثة أبناء هو الأوسط. أخوه الأصغر «إريك» مصمم ديكورات أفلامه، بينما يعمل أخوه الأكبر «ميل» طبيبًا، ووالدهم في مجال الدعاية والإعلان ولديه شركة علاقات عامة، أما الأم فكانت عالمة آثار ثم اتجهت إلى مجال سمسرة العقارات.
لم يعانِ ويس آندرسون الفقر أو ضيق اليد على الإطلاق، فوظيفة والده ووالدته تعكس يُسر حالهما بشكل واضح. درس في مدارس خاصة، وكانت بدايته يغلفها اللون الأبيض الناصع، لولا بقعة سوداء كبيرة أصابت طفولته وأثرت فيع كثيرًا في ما بعد: طلاق والديه.
خلال دراسة ويس في المدرسة الثانوية، بدأ كتابة المسرحيات وإخراجها على مسرح المدرسة، ثم تخصص في دراسة الفلسفة في جامعة تكساس، وهناك قابل الممثل «أوين ويلسون» وصارا صديقين مقربين منذ ذلك الحين.
جذب فيلم «Bottle Rocket» عددًا محدودًا من الجمهور، كان بينهم المخرج «مارتن سكورسيزي».
في عام 1994، أخرج ويس فيلمًا قصيرًا مدته 13 دقيقة مع أوين ويلسون بعنوان «Bottle Rocket»، ومثل فيه «لوك ويلسون»، وجذب الفيلم انتباه أحد المنتجين، وعن طريقه دخل الفيلم مهرجان «Sundance» السينمائي الدولي بحثًا عن تمويل لنسخة طويلة.
لا تعرف الكثير عن مهرجانات السينما الدولية؟ هذا هو دليلك السهل إليها |
أحمر قانٍ
أول مغامرة طويلة استطاع ويس آندرسون تقديمها كانت حين نفذ مع الأخوين ويلسون نسخة روائية طويلة من فيلمه القصير في 1996.
يحكي الفيلم قصة ثلاثة أصدقاء يخططون لسرقة بمساعدة جارتهم، ويبدأ بقصة رئيسية، ثم يتفرع كعادة آندرسون إلى قصص صغيرة، فنجد قصة الحب بين أحد الأصدقاء وجارتهم، ثم قصة أخرى بعد إتمام عملية السرقة.
يتميز فيلما «Rushmore» و«Bottle Rocket» بروح المغامرة، لكن أكثر ما يلفت النظر غرابة شخصياتهما، كلهم غرباء الأطوار.
جذب الفيلم عددًا محدودًا من الجمهور، لكن كان بينهم المخرج مارتن سكورسيزي، الذي أعلن إعجابه بالفيلم وطراز تقديمه وإخراجه، وكذلك بمخرجه الشاب الذي اختار الألوان بعناية ليكون اللون الرئيسي في الفيلم الأحمر القاني، ثم تنبثق منه مجموعة محدودة من الألوان تزيد جمال الأحمر، وهو طراز اختيار ويس آندرسون للألوان، الذي استمر معه لاحقًا في كل أفلامه.
وفي 1998، قدم آندرسون فيلمًا روائيًّا بميزانية 10 ملايين دولار بعنوان «Rushmore»، وشارك في التأليف صديقه أوين ويلسون، وشارك في التمثيل أخوه لوك، وكان الفيلم بداية قوية لويس، وبدأت بصماته وشخصيته في الظهور.
يحكي الفيلم عن «ماكس فيشر»، مراهق محبوب لكنه كسول، يدرس في مدرسة خاصة ويهتم بالمسرح لكنه لا يهتم بالدراسة. تتغير حياته حين تنضم المعلمة «روزماري» إلى المدرسة فيتعلق بها ويقع في حبها، ثم يكتشف أن هناك رجلًا آخر هو المليونير «هيرمان بلوم»، الذي يحاول لفت نظر المعلمة بدوره.
قدّم الفيلمان روح المغامرة في قصتهما الرئيسية، لكن أكثر ما يلفت النظر في الشخصيات هي الغرابة، فلن تجد شخصية تقليدية أو معتادة، بل دومًا غريبو أطوار يفعلون ما لا تتوقعه.
اقرأ أيضًا: سينما باراديسو الجديدة: ما يُفقد من الذكريات ليبقى في الذاكرة
أصفر كناري ومسطردة
استخدم آندرسون الأصفر بلون المسطردة في فيلمه «Fantastic Mr. Fox»، الذي جمع بين الأصفر ودرجات البيج المختلفة.
دخل ويس مرحلة النضوج السينمائي والتفنن في تنسيق الديكورات والمَشاهد واللعب بالألوان بشكل تناغمي مبهر، وبدا ذلك واضحًا في أفلامه. ففي 2001، قدم «The Royal Tenenbaums»، بمشاركة صديق عمره أوين ويلسون في الكتابة.
يحكي الفيلم عن ثلاثة إخوة غريبي الأطوار، وهي السمة التي استمرت مع آندرسون في اختياره لشخصيات أبطاله لاحقًا.
تبدأ المغامرة بأسرة مفككة من أب وأم منفصلين وثلاثة أبناء عباقرة، الأب رجل ناجح كان يعمل محاميًا، وكان متزوجًا من عالمة آثار وأنجب منها أبناءه الثلاثة: الأكبر مستشار ناجح لمشاكل الأطفال، والثاني لاعب تنس فاز ببطولة أمريكا ثلاث مرات، والثالثة ابنة بالتبني، وفازت بأكبر منحة للتأليف المسرحي وهي في المدرسة الثانوية.
تفككت الأسرة بعد رحيل الأب فجأة، لكنه يعود بعد 20 عامًا، وتبدأ المغامرة حين يُعلن أنه سيموت خلال ستة أسابيع، ويطلب من أسرته مسامحته والتواصل معه من جديد.
غلب على الفيلم اللون الأصفر الكناري بشكل واضح جدًّا، واستخدم ويس كذلك درجات من الأخضر والبني وألوانًا أخرى تُضفي الراحة والتناسق على كادرات الفيلم، وظهر جليًّا استخدام المَشاهد المضبوطه بالملليمتر، فوجه البطل أو البطلة يتوسط الكادر في أكثر من مشهد، حتى يكاد ينقسم نصفين متساويين تمامًا لو قطعت الكادر من المنتصف، وهو الأسلوب الذي استخدمه آندرسون في عديد من أفلامه بعد ذلك.
استخدم ويس الأصفر مرةً ثانية لكن بلون المسطردة في فيلمه «Fantastic Mr. Fox» عام 2009، وزاد عليه درجات البيج المختلفة.
الفيلم رسوم متحركة بتقنية «stop motion»، ويدور حول ثعلب يهوى المغامرات ومطاردة الدجاج وسرقته، ثم يُقبض عليه مع زوجته خلال محاولة سرقة إحدى المزارع، فيَعِدُ زوجته بأن يتوقف عن السرقة ويبحث عن وظيفة أخرى. وبعد عامين، ينتقل وعائلته للإقامة بالقرب من منشأة يديرها ثلاثة مزارعين أشرار يحاولون التخلص من عائلة الثعلب، فيقرر التصدي لهم.
نافس الفيلم على أوسكار 2010 لأفضل فيلم رسوم متحركة، لكنه خسر أمام «Up».
قد يهمك أيضًا: السينما الروسية: مخرجون أعادوا تعريف «الأفلام»
أزرق وتركواز
لم يكن «The Life Aquatic with Steve Zissou» أول تعاون بين ويس آندرسون وصديقه أوين ويلسون و«بيل موراي»، فقد عمل الأخير مع ويس في معظم أفلامه، وكذلك الحال بالنسبة إلى أوين وأخيه لوك.
في 2004، قدم آندرسون مغامرة جديدة خيالية زرقاء تحت البحار مع عالِم المحيطات «ستيف زيسو» وطاقمه، وبالطبع غني عن الذكر أن شخصيات زيسو والطاقم كانت غريبة، لكنهم غريبو الأطوار بشكل مثير.
تبدأ المغامرة بأن يقرر ستيف زيسو البحث عن سمكة القرش الأسطورية للانتقام منها بعد أن قتلت شريكه، فيقود طاقمه الذي يتضمن زوجته السابقة وصحفيًّا ورجلًا قد يكون ابنه.
حرص آندرسون في هذا الفيلم على استمرار بصمته في الإخراج، فكانت الكادرات التي تتسم بالسيمترية واضحة وبارزة، خصوصًا في الغواصة، حيث يجتمع أفراد الطاقم لينظروا مباشرةً إلى عدسة الكاميرا، وهو أحد أساليب ويس التي باتت متكررة في أفلامه أيضًا.
تلى ذلك فيلم آخر جمع الأزرق والأحمر بشكل متناسق للغاية هو «The Darjeeling Limited»، الذي يحكي مغامرة ثلاثة إخوة يتوفى والدهم ويتركهم مكتئبين، فيقررون أخذ جولة بالقطار حول الهند للتغلب على حزنهم، ونشاهد معهم مدنًا هندية مختلفة، ونتعرف عبر الجولة على مشاكل كل واحد منهم بالتفصيل.
أخضر زرعي
نجاحًا كبيرًا حققه ويس آندرسون بفيلمه «Moonrise Kingdom»، الذي عُرض في افتتاح مهرجان كان السينمائي في 2012.
هذه المرة بطل الأحداث هو الجزيرة التي تقع فيها المغامرة، وقرر آندرسون أن اللون الأخضر الزرعي والبيج الترابي سيسيطران على مشاهد الفيلم كافة.
يحكي الفيلم قصة حب بين صبي وفتاة في عام 1960، يعيشان على جزيرة قرب سواحل نيو إنجلاند، وحين يتفقا على الهرب سرًّا، تبدأ المغامرة والمطاردة وتنقلب الجزيرة رأسًا على عقب.
استقبل النُقاد الفيلم بإشادة كبيرة، وحقق نجاحًا تجاريًّا ملحوظًا، ورُشِّح لجائزة أوسكار أفضل سيناريو أصلي.
أحمر زهري وأرجواني
بطل أحداث فيلم «فندق بودابست» هو الفندق، حيث تدور كل مغامرات السيد «جوستاف» وصديقه «زيرو مصطفى».
كان فيلم «The Grand Budapest Hotel» الأنجح والأكبر فنيًّا في رصيد ويس آندرسون، وهو آخر فيلم له، ورُشِّح لتسعة جوائز أوسكار حصد منها أربعة.
سيطر اللون الأحمر الأرجواني أو البنفسجي على كثير من كادرات الفيلم، بالإضافة إلي الأحمر الزهري وألوان أخرى منبثقة من نفس درجات الأحمر، ليظهر الفيلم بشكل متناغم، حتى أن بعض النقاد قالوا إن كادرات ويس آندرسون مريحة للعين من حيث السيمترية والألوان، فقد ظهر كمهندس ديكور سينمائي محترف وكاتب سيناريو بارع، فضلًا عن كونه مخرج المغامرات الفنية.
مرة أخرى، بطل الأحداث هو فندق بودابست، حيث تدور كل مغامرات السيد «جوستاف» وصديقه «زيرو مصطفى».
جمع الفيلم عددًا ضخمًا من النجوم، مثل «رالف فاينس» و«إدوارد نورتون» و«أدريان برودي» و«تيلدا سوينتون»، وغيرهم من النجوم الذين باتوا يتمنون العمل مع مخرج متميز مثل آندرسون.
ويس آندرسون: ألوان مزركشة بالتفاصيل
لم ولن يتوقف آندرسون بالتأكيد، فهو يستعد لعرض فيلمه الجديد «Isle of dogs»، الذي استخدم فيه مرةً أخرى تقنية «stop motion»، وكعادته كتب السيناريو.
بصماته المميزة في أفلامه جعلته مخرجًا ذا رؤية مميزة، وربما ينال الأوسكار خلال عام أو اثنين، فمعظم قصصه تبدو كأنها قصص مرسومة، فقد تبدأ القصة وتنتهي دون تحقيق هدف البطل أو هدف القصة الرئيسية، لكن تفاصيل الرحلة ستخلق نشوة المغامرة.
حرص ويس آندرسون كثيرًا على استخدام الفلسفة التي درسها في أفلامه، فبينما تتبع قصة الفيلم الرئيسية، ستجد قصصًا فرعية تتدلى من ذلك الخط الرئيسي، قصص تُضفي رونقًا خاصًّا على الحكاية بأكملها. ثم تقابل ذروة الأحداث، فتتشابك جميع الخيوط مع بعضها بعضًا، وبعد ذلك تتفكك مرةً أخرى وتنتهي المغامرة بكل سلاسة، بعد أن أَسَرتك تمامًا شخصياته الفريدة غريبة الأطوار. وتبقى المغامرة جوهر العمل بأكمله، لكن متعة المغامرة تكمُن في التفاصيل التي يهتم بها آندرسون بشكل يفوق التصور، لتجعله «المخرج المغامر» بالأساس.