«أعتذر عن الفظاظة البادية مني، فقد خرَّبَت الحرب عقلي تمامًا، ولكني فقط سعيد لوجودي هنا الآن. بعض الأشخاص الأعزاء، الذين كانوا يومًا أعزاءً على قلبي، طلبوا مني البقاء حيًّا مهما كلفني الأمر. ولأني مدين لهم بحياتي، أُبقي على وعدي لهم، فهي، حياتي، لم تعُد ملكي لأتخلى عنها».
‒ «آنتون»، أحد الناجين في اللعبة.
تبدأ الحرب، أيُّ حرب في أيِّ مكان في العالم، ولا تبدو لها نهاية. تستمر أسابيع وأشهرًا وسنوات. تطِنُّ رؤوس قادة العالم، مداولات ومفاوضات تُرسَل وتُستقبل، تتحول الحرب إلى رمز، مسألة سياسية، مجموعة تقارير في جدول أعمال الأمم المتحدة. تنتهي الحرب، أيُّ حرب، فيعود الجنود من ميدان المعركة، بعضهم منتشٍ يحكي عن بطولته، وبعضهم مصدوم لا يقوى على قصِّ أيٍّ مما رآه.
يؤرخ العالم، كلٌّ من زاويته، وكلٌّ على طريقته، مذكرات منشورة، أفلام وأغنيات، وألعاب فيديو حتى، كلها من منظور المنتصر والمهزوم. أما هؤلاء الذين لم ينتموا إلى أي جانب ولم يَعبَؤوا بما يجري، المدنيون العالقون في منتصف حرب طاحنة بين جبهتين، فقط لأن الصدفة حاصرتهم في المكان الخاطئ وفي اللحظة الخاطئة، هؤلاء تحديدًا هم من اختارت لعبة This War Of Mine الانحياز إليهم.
هذه الحرب حربي
مزيج من درجات الأسود والرمادي يعكس الخراب المسيطر على المدينة، جدران متهدمة ومبانٍ متآكلة الأسقف، وإعلان مُبهَم في افتتاحية اللعبة عن بداية الحرب لسبب غير معلوم، وأنت في المنتصف.
تتيح لك اللعبة أن تختبر معاناة مجموعة من المدنيين المحاصَرِين في مدينة خرَّبتها الحرب. مهمتك الوحيدة هي تأمين بقائهم على قيد الحياة. هدفك هنا ليس أن تنتصر في الحرب، ولكن أن تنجو منها.
لا تخبرك اللعبة كيف تفعلها، لا تقدم لك شرحًا مبسطًا في بدايتها لمساعدتك، لا تمنحك قواعد، عليك أن تكتشف هذا بمفردك، أن تتعلم كيف تدبِّر لأفراد مجموعتك احتياجاتهم الأساسية، كيف تؤمِّن لهم الأطعمة، وكيف تفاضل بينهم وتختار الأنسب للتسلل ليلًا والنبش في الأماكن المهجورة بحثًا عن كل ما هو أساسي، لضمان بقائهم وبقائك أحياء إلى اليوم التالي، وكيف تعيد بناء كل ما كان يومًا من المسلَّمات؛ أسِرَّة للنوم، موقد للطهي، وسائل للحماية.
تترك اللعبة الأمر لغريزتك في البقاء، وهو أمر بديهي، ففي الحروب الحقيقة لا يملك أحد كتيب إرشادات للنجاة، لأننا غير مُبرمَجين على الحروب، لكننا جميعًا مُبرمَجون على البقاء، بدافع غريزي.
البشر طيبون، لكن الحرب ليست كذلك.
«على الجميع اختيار ذكرى واحدة سعيدة. لا يُفترض لها أن تكون جيدة، بل رائعة. عندما تسوء الأمور يمكنك الجلوس قليلًا والبكاء. عندما تتداعى حياتك أغمض عينيك وعُد إلى لحظتك السعيدة. لا أقول إن هذا أمر سهل، ولكن أقول إن عليك أن تحاول».
‒ «ماركو»، أحد الناجين.
يومًا بعد يوم تتعرف إلى أفراد مجموعتك بشكل أكثر وضوحًا، يتحدثون معًا (يظهر الكلام نصًّا على الشاشة في أثناء اللعبة) فتطَّلع على خباياهم: فيمَ يفكرون في اللحظة الحالية، بمَ يشعرون، ماذا يتمنَّون، ماذا ينوون أن يفعلوا بمجرَّد أن تنتهي الحرب؟ يومًا بعد يوم تصبح واحدًا منهم، وتصير الأمور أشد وطأة، لأنهم، مثلما تصنفهم اللعبة، ليسوا أبطالًا بل ناجين، وفي أثناء محاولاتهم هذه للنجاة تختلُّ معاييرهم، ومعاييرك أيضًا.
لماذا تقلق بشأن أمر لا تستطيع تغييره؟
يجعل منك الجوع لصًّا ماهرًا، ترهِب زوجين من العجائز للسطو عليهما تارة، وتسرق بيتًا مهجورًا تارة أخرى، وتُضطر إلى قتل البعض مرة ثالثة. تقتل كي لا تُقتل، فيُثقِلك الذنب، ويُثقِل شخصياتك بدورهم، ذنب يصيب بعضهم بالاكتئاب ويودي بحياة آخرين منتحرين مع مرور الأيام في اللعبة، فهم ليسوا إلا أبرياء خرَّبتهم الحرب ودفعتهم إلى أقصى حدودهم، رغم أنهم في الحقيقة لم يريدوا أكثر من تأمين بقائهم أحياء ليلةً إضافية. البشر طيبون، لكن الحرب ليست كذلك.
يأتي الفزع رفيقًا مخلصًا للقتل، بعكس ألعاب الحروب الأخرى التي يكون القتل فيها مصحوبًا بنشوة انتصار. هنا تقتل لأنك خائف ولأنك جائع، هنا تصاب بندوب لا علاج لها، فالجراح البدنية سهلة المداواة، أما الأصعب فهو مداواة شخص فقد الأمل وقرر الانتحار، أو شخص آخر خرج فجأة ولم يعُد قط لأن السأم أفقده الأمل.
في هذه اللعبة يصعد معنى النجاة إلى مستوى مختلف، أعلى كثيرًا من مجرد النجاة البدنية، ربما هذا هو ما يُكسِب This War of Mine جوهرًا أكثر أصالة من سائر ألعاب الفيديو، لأنها تخبرك بحقيقة الحروب ومدى قبحها، لا تخدعك بكلام حالم عن الحرب التي تجعلك أقوى، بل تخبرك عن الحرب التي تخرِّب النفوس والعقول والقلوب، وهو خراب أكثر ضررًا من مجموعة بيوت مهدَّمة ذات أسقف عارية.
اقرأ أيضًا: لعبة «Inside»: التجوُّل في تجربة سينمائية مختلفة
اركض، اختبئ، اركض، أو مُت
«في تلك الليلة أُصبت بعدة شظايا في فخذي. دخل الجيش إلى المدينة وبدأ في ذبح المدنيين والمتمردين دون تمييز. اضطُررنا إلى الهرب، غير أن إصابتي حالت بيني وبين النهوض من الفراش، لذا مكثت في انتظار الموت.لماذا تقلق بشأن أمر لا تستطيع تغييره؟».
‒ «آريكا»، إحدى الناجيات.
اركض، اختبئ، اركض، أو مُت. الفعل الأخير سيخلو من أي بطولة أو قرارات مصيرية، وهو جزء من سخرية الحروب المُرَّة بتحويلها الموت إلى فعل عشوائي آخَر لا يستحق التوقف أمامه كثيرًا. ربما ستتلقى رصاصة في غفلة لرفضك التخلي عن حفنة من البقول، قد تموت من العطش، وقد تفقد عقلك، ليس في الموت هنا أي نبل أو شجاعة.
عشوائية مثل تلك جعلت الصورة البصرية للعبة اختيارًا موفقًا، شخصيات وأماكن غير مكتملة في تكوينها كأنها مرسومة بالرصاص، وكأن الحرب كلها مجرد خاطر عشوائي مسجَّل في الصفحة الأخيرة لدفتر يوميات أحدهم، عالم كامل مرسوم على الهامش وشخصيات نجح الرسم بالفحم في طمس جزء من ملامحها، ربما هذا هو ما تفعله بنا الحروب في نهاية الأمر.
هكذا يتحرك البشر تحت القصف
ليس في نجاتك أي شجاعة؛ قد ترفض إيواء لاجئ خوفًا من العواقب أو خوفًا من نفاد الطعام، وهو ما يجعلك جبانًا وانهزاميًّا في مرآة نفسك بصورة يصعُب التغافل عنها، فالذاكرة التي تفلتر كل الأحداث تُؤثِر الإبقاء على ذلك النوع من الشوائب، الأمر الذي نجحت تقنية تحريك اللعبة في إبرازه.
حركة الناجين ليست ميكانيكية، على العكس من ذلك تأتي استجابةً لطبيعة كل شخصية وحالتها النفسية. تصاب «كاتيا» بالإجهاد فتجرجر قدميها بتأنٍّ، ويحس «برونو» بذنب يُثقِل جسده ويهوي برأسه مطأطَأً في الأرض كما لو أن خيطًا يجذبه، وهو ما يعوق حركته قليلًا.
ليست أصوات القصف والطائرات وحدها ما قد يثير هلعك، للصمت أيضًا سطوته ووجومه المطبق.
ليست This War of Mine لعبة عن مجموعة من الروبوتات، بل محاكاة للبشر وردود أفعالهم وانفعالاتهم التي تظهر في لغة الجسد، ومحاكاة للحكاية التي تُكتب سطرًا بعد آخر في أثناء عيشنا لها، لهذا السبب لم تصمَّم اللعبة بنهاية واحدة مكتوبة مُسبَقًا، بل نهايات متعددة، تتحدد كلٌّ منها بناء على انحيازاتك الأخلاقية ومعاييرك واختياراتك، بمزيج متوازن من الإنسانية والأنانية.
قد يهمك أيضًا: The End of the World: لعبة لذوي القلوب المنكسرة
هل سمعت هذا؟
«يحاول الجيش زعزعة معنويات المتمردين بالقصف المتواصل، إلا أن المدنيين أمثالنا هم أكثر من يعاني. يعلِّمك الحصار المستمر تخمين موقع سقوط قذيفة الهاون من خلال الصوت الذي تُحدِثه. لم أفِّكر في ذلك من قبل، لكنَّ يومًا مصيريًّا كان من شأنه تغيير كل شيء».
‒ «زلاتا»، أحد الناجين.
هل جربت من قبل إغلاق عينيك، ثم مع نهاية اليوم حاولت سرد أحداثه كما سمِعَتها أذناك، لا كما رأيتَها؟
إنها تجربة ستعايشها بقوة هنا، فبعيدًا عن اختيار الموسيقى وإيقاعها، قد يكون شريط الصوت هو أفضل ما في This War Of Mine، بتصميم يُغفل تمامًا دقات الساعة (لأن الأيام تتشابه والزمن يفقد معناه) ويلتقط حتى صرير خشب الباب (لأن ما وراءه قد ينقذ حياتك).
تسرد عليك اللعبة من خلال أذنيك قصة سماعية أكثر التباسًا مما تحكيه الصورة. تخبرك بماهية الحرب، تجعلك أكثر حساسية تجاه المجال المحيط، تتعرف على الخطر بمجرد سماعه، ليست أصوات القصف والطائرات وحدها ما قد يثير هلعك، للصمت أيضًا سطوته ووجومه المطبق.
في عالم واقعي لا تسمع فيه كل الاستغاثات التي تُقال بوضوح وبنبرة زاعقة، تنبهك اللعبة لاستغاثات أخرى، خطوات أقدام مثقلة، نفس لاهث أو متقطع، قد تكون استغاثات غير مسموعة، لكنها تجد طريقها لصَمِّ الآذان.
هذه الحرب غير مسلية
استغرق تصميم اللعبة عامين من مطوِّريها، لا لإتقان التصميم أو إضافة أكواد، بل لمحاولة إظهار الوجه الحقيقي للحرب.
فكما ينبش أبطال اللعبة في الأماكن المهجورة بحثًا عن الطعام والإمدادات داخل This War of Mine، تَطلَّب الأمر من المصممين النبش في ذاكرة عديد ممن عايشوا حروبًا في الواقع، التفتيش في ذكرياتهم والاستماع إلى حكاياتهم، هؤلاء شهدوا كل شيء واختبروا الوجه المفزع للحرب. هؤلاء تحديدًا هم من حاولت اللعبة نقل تجربتهم الذاتية.
قد تصيبك التجربة بالملل، قد تثير انقباضك، قد تجبرك اللعبة على اختبار أيام لا يحدث فيها شيء سوى محادثات مستمرة بين أفراد مجموعتك، محادثات لا يبدو في ظاهرها أنها تدفع المسارات إلى الأمام، إلا أنها تُحدِث فارقًا في الحالة المعنوية لمجموعتك.
ربما هي ليست حتى لعبة للتسلية، لكنها تجربة معايشة لواقع يختبره ملايين في عالمنا، لعبة عن الأصوات المكتومة تحت الأنقاض، حكايات عن أسماء يختزلها عالمنا، وبشر يحولهم الإعلام إلى مجموعة من الأرقام في شريط إخباري يمر في أسفل الشاشة.
ليست This War of Mine من الألعاب التي تنتهي بعودة الأبطال إلى بيوتهم، بل هي لعبة عن البيت بكل الخراب الذي أصبح عليه، وبالشكل الذي يجعل من الوجود فيه كابوسًا مفزعًا، ينتهي بمجرد خروجك من اللعبة، ولكنه يحاصر ملايين غيرك.