ثَمَّة تغير كبير طرأ على معالم الكتابة الإبداعية في سوريا بعد بداية الحرب المستمرة منذ ست سنوات، حين صارت آفاق الكتابة أكثر سعةً وألمًا، إذ يمكن اعتبار ما أنتجه الأدباء السوريون خلال الأعوام الأخيرة حول الحرب في بلادهم غزيرًا إذا ما بالسنوات التي سبقتها، إذ حُكِم الإبداع السوري داخل سوريا بقيود الرقابة والموافقات الأمنية، وحُكِم خارجها بقيود الخوف من الملاحقة الأمنية ومنع التداول والاستبعاد خارج البلد الأم.
أيضًا لا يمكن القول حتمًا إن عملًا من تلك الأعمال استطاع أن يكون بحجم المأساة، لكن في المقابل يمكن الوقوف عند زاوية متابعة تلك الأعمال والقول بأنها استطاعت مجتمعةً أن تشخِّص المأساة إلى حد بعيد، فمنها ما رسم الواقع بحذافيره، ومنها ما أسقطه في خيال إبداعي يحاكي المأساة بتجردٍ من تفاصيلها المؤلمة، فضلًا عن حكايات أخرى كانت ترسم الحياة السورية الماضية التي كانت سببًا رئيسيًّا في ما آلت إليه الأوضاع خلال السنوات الستة الأخيرة.
ما قبل الفاجعة
كانت رواية «القوقعة» الأولى التي تقول بصوت عالٍ إن الحكام في سوريا مجموعة من القتلة المتآمرين الساديين.
لا يمكن القول بأن الأقلام السورية كانت راكدة في زمن الخوف، المخاطر موجودة، والتعسف في رد الفعل على الإبداع حاضر، إلا أن كل ذلك لم يمنع أسماء بعينها من طرح أنفسها كناقدة للسياسة الداخلية في البلاد، والحالة المرعبة التي كانت تعيشها في ظل حكم شمولي قمعي.
عندما صدرت «مديح الكراهية» لخالد خليفة، خارج سوريا بطبيعة الحال، كانت الرواية الأولى التي تسلط الضوء على مرحلة سوداء من تاريخ سوريا القمعي في ثمانينيات القرن العشرين، ضاربةً بعرض الحائط حالة الخوف التي كانت تسيطر على كُتَّاب الأدب السوري، لتأتي بعدها رواية «القوقعة: يوميات متلصص» لمصطفى خليفة، التي صدرت خارج سوريا كذلك.
كانت «القوقعة» من الروايات السورية الأولى التي وجهت ضربتها الازدواجية إلى طرفي المعادلة القمعية، فكانت أول الأعمال الأدبية التي تُظهر بسيف نقدها ما كان يجري في سوريا من قمع وقتل واعتقال تعسفي داخل السجون.
كذلك، كانت الرواية صفعة على وجوه النائمين تحت ظلال الخوف، عندما قالت بصوت عالٍ، مُنع في سوريا، إن الحكم الحالي وما سبقه من سنوات قاسية ليس إلا مجموعة من القتلة الذين يأتمرون بأمر قتلة أعلى منهم، وينفذون رغباتهم السادية إشباعًا لهوس بالقتل دون سبب.
قد يعجبك أيضًا: السعودية تصادر الكتب في الرياض وتعرض أفلامها في هوليوود
بداية الانفجار
هناك في البدايات، أي بدايات الفاجعة السورية، كانت الروائية السورية مها حسن تُعِد «طبول الحب»، التي تحكي عن واقع سوريا الذي حاولت أن تعيشه بكتابتها، راسمةً في نَصِّها الأول صورة واقعية لسوريا حاولت أن تغوص فيها في الوضع المؤلم للبلاد وواقع الشباب وأحلامهم.
وإذا كانت مها قد دقت طبول الحُب في الحرب، فإن خالد خليفة عاد مرة أخرى بعمله الجديد «لا سكاكين في مطابخ هذه المدينة»، الرواية التي جاءت في عام 2013 بعد عامين من بداية الأحداث في سوريا، لتحكي سيرة طويلة لعائلة تعيش في هذا البلد مُذ سيطر عليه نظام البعث، محاولةً رسم الحالة التي وصلت إليها الأسر السورية في ظل الحياة تحت وطأة أشد الأنظمة القمعية في العالم.
إسقاط على الواقع
كان الإسقاط على واقع البلاد الفكرة الرئيسية التي حملتها رواية «القنفذ» للسوري إسلام أبو شكير، حين حاول أن يغوص في نوازع الديكتاتور الصغير، يروي بلسانه حكاية الليلة الأولى بعد موت والده، وما كان يدور في خُلده من أحداث دراماتيكية رسمت تفاصيل ما أوصل سوريا إلى تلك النهاية المؤلمة.
لم يكن أبو شكير وحده من اهتم بالإسقاط على الواقع، بل فعلت كذلك الكتابة ابتسام إبراهيم تريسي في روايتها «لمار»، التي حاكت فيها حياة عائلة رأس النظام السوري منذ البداية حين كانت في الجبال، قبل أن تنزل إلى المدينة وتتطور الأحداث ويصبح أحد أفرادها ضابطًا ثم رئيسًا للبلاد، في صورة مشابهة لما حدث مع عائلة الأسد في سوريا.
في رواية «الموت عمل شاق» يصير الموت وجعًا لا يصيب الميت فحسب، بل من حوله ممَّن يسعون إلى دفنه.
كانت روايات عبد الله مكسور الثلاثة «أيام في بابا عمرو» و«عائد إلى حلب» و«طريق الآلام» أحد أهم السلسلات التوثيقية التي أصدرها كاتب واحد عن الفاجعة السورية، فالقارئ للأحداث وتتابعها في الروايات الثلاثة سيجد أن المكسور عايش فيها تفاصيل الحدث السوري كاملًا، عبر سرد مفصل ومُعاش من المكسور ذاته في تلك الروايات، بما يشبه السيرة الذاتية له في أيام الحدث السوري.
بالعودة إلى فكرة التوثيق، يمكن القول إن الروائية سمر يزبك كانت من أوائل من وثَّق الأحداث في سوريا في كتابها السيري «تقاطع نيران: من يوميات الانتفاضة السورية»، الذي جسدت فيه حياتها كمثقفة سورية عاشت الصراع منذ البداية.
قد يهمك أيضًا: كيف يُقمَع الإبداع في العالم العربي؟
الموت كرواية
يقدم لنا الروائي خالد خليفة، في عمل جديد له خلال أعوام المأساة، عذابات الموت التي زادت بفعل الحرب في رواية «الموت عمل شاق»، حين يصير الموت وجعًا لا يصيب الميت فحسب، بل من حوله ممَّن يسعون إلى دفنه، وما صاحب ذلك من مصاعب نتيجة انقسام الأرض السورية وعدم القدرة على الوصول إلى مكان الدفن الخاص بالعائلة، إذ انفرط العقد السوري إلى المناطقية التي لا يمكن تجاوزها إلا عبر حواجز متعددة.
تلتقي سوسن جميل حسن مع خليفة في روايتها «قميص الليل»، عن طريق قصة ذاك الميت المجنون الذي لا يعرفون له أرضًا ولا دينًا، وينتهي الأمر بالخلاف على مكان دفنه، ممَّا يرسم خيوطًا طائفية حاولت الكاتبة السورية نقدها من خلال روايتها، التي انحازت إلى الألم رغم كل شيء.
اقرأ أيضًا: من أدب السجون إلى تاريخ النفط: تعرف على عبدالرحمن مُنيف
هايبرثيميسيا الماضي
تمكنت الرواية السورية من رسم الألم بكل تفاصيله، وجسدت واقع السوريين المأساوي بطرق شتى.
لا يكتب إبراهيم الجبين في روايته «عين الشرق» عن المأساة السورية بسنواتها الستة فحسب، بل يعود بذاكرته التي ترفض النسيان إلى سنوات طويلة، مصورًا تاريخ سوريا عبر شخوص تحكي أزمنة متراكمة لدمشق، أو «عين الشرق» كما سماها الرومان، محاولًا القول بأن ما يجري في سوريا ليس وليد لحظة، بل بسبب تراكمات كثيرة أدت إلى الانفجار الكبير.
لعل الجبين يريد أن يقول في روايته إن هذه المدينة والبلاد التي حولها طالما مرت بالظروف ذاتها، لكنها ظلت عينًا للشرق ومكانًا أساسيًّا لك ما يدور فيه، فالبطل هو دمشق، والفاجعة ليست وليدة اليوم بل وليدة سنوات طويلة، لكنها لا يمكن أن تهزم هذه المدينة التي صمدت في وجه التاريخ، ومرت عليها آلاف العوائل التي حكمتها ظلمًا، وماتت بجريرة ظلمها دون أن تفنى المدينة العريقة.
لا يمكن إحصاء ما كتبه الروائيون السوريون عن مأساة بلادهم، إلا أنه يمكن القول إن الرواية السورية استطاعت رسم الألم بكل تفاصيله، وجسدت واقع السوريين المأساوي بطرق شتى، ونجحت في أن تخرج من سباتها الطويل إلى مجاراة الحدث السوري المؤلم، والتغلب على ظروف المنع والقمع بقائمة تطول من الأعمال التي كانت على قدر الفاجعة.