لفترة طويلة اعتُبِر فيلم «When Marnie Was There»، (عام 2014) نهاية الأفلام التي تحمل اسم «غيبلى» كاستوديو صانع. فقد صدر الفيلم دون أن يحمل اسم أيٍّ من المخرجَيْن اليابانيين الأبرز: «هاياو ميازاكي» أو«إيساكو تاكاهاتا».
يجب أن ننتبه إلى أن ستوديو «غيبلي» لم ينشأ من فراغ. فموجة الأفلام التي تنتمي إلى عالم الأنيمي في اليابان تتصاعد منذ أواخر ستينيات القرن العشرين، ولم يوقفها أحداث جسام مرت على اليابان.
هل انتهت مملكة الحلم والجنون حقًّا بوفاة أحد مؤسسيها؟ فوفاة تاكاهاتا بسرطان الرئة، عن 82 عامًا، في إبريل 2018، رسم النهاية بأوضح بمعانيها.
بين «ميازاكي» الذي ينفصل ويرجع إلى «غيبلي» دون أسباب واضحة، و«تاكاهاتا» الصخرة الراسخة للاستوديو، كان «توشيو سوزوكي» هو الذي يضم مجهودات العملاقَيْن لأكثر من عقدين من الزمن، بحصيلة نحو 20 فيلمًا طويلًا و16 قصيرًا وعدد من الإعلانات ومتحف للرسوم المتحركة.
مقبرة اليراعات والفيلم الأخير
في اليابان، «تاكاهاتا» أكثر تأثيرًا من «ميازاكي». فأول فيلم رسوم متحركة له في «غيبلي»، هو «Grave of the Fireflies» الذي يُعرض في التلفزيون الياباني كل عام بمناسبة انتهاء الحرب العالمية الثانية، وهو جزء من مقررات دراسية على الطلاب اليابانيين.
في البداية، كان حلم «تاكاهاتا» أن يصنع فيلمًا وثائقيًّا عن القنوات والمجاري المائية في بلدة «يانغاوا»، مسقط رأسه، فأقرضه «ميازاكي» نصف أرباح نجاح فيلم «Nausicaä Valley of the Wind»، وأمهله سنة لإتمام هذا العمل. لكن السنة امتدت إلى ثلاث سنوات، وأخيرًا ظهر الفيلم الوثائقي بعنوان «The Story of Yanagawa's Canals». خلال إنتاج هذا العمل، تأسس استوديو «غيبلي» عام 1985، وصنع «ميازاكي» فيلمه الثاني «Castle in the Sky» الذي سيُعرف بأنه أول أفلام الاستوديو. يقول «ميازاكي» إنه لو لم يتأخر تاكاهاتا كل هذا الوقت، ما أنشأنا استوديو غيبلي.
الفيلم الوثائقي الذي تبلغ مدته نحو ثلاث ساعات، حقق نجاحًا كبيرًا، ويعُرض في التلفزيون الياباني عدة مرات في العام منذ صدوره، وأخيرا ظهرت منه نسخة «DVD» عام 2003، وما زالت تحقق نجاحًا كبيرًا. وبالرغم من أن حصيلة «تاكاهاتا» في «غيبلي» خمسة أفلام طويلة فقط (لا نحسب الفيلم الوثائقي)، فإن فيلمه الأخير يعد الأطول إنتاجيًّا (من قبل 2008 حتى صدوره في 2013)، والأكثر تكلفة (خمسة بلايين ين ياباني، ما يساوي 50 مليون دولار).
حكاية فيلم «The Tale of the Princess Kaguya» مأخوذة من أقدم قصة في الفلكلور الياباني، المعروفة باسم «The Tale of the Bamboo Cutter».
صنع «تاكاهاتا» من فيلمه الأخير «The Tale of the Princess Kaguya» تحفة فنية رائعة. كان العاملون في الفيلم يعرفون قبل صدوره أنه آخر أفلام «تاكاهاتا». ففي المؤتمرات الصحفية قبل العرض، عندما يسألهم الصحفيون: لماذا هو آخر فيلم له؟ لا يردون، لكنك إذا شاهدت الفيلم ستعرف.
يحكي الفيلم قصة الأميرة «كاغويا» التي يجدها قاطع بامبو في ساق إحدى زهور شجرة الخيرزان، فيأخذها إلى زوجته ليريبيها في منزله، وتنمو بسرعة عجيبة. بعد عثور الأب الفقير على كنز، يقرر أن ينتقل إلى العاصمة ليكمل تربيتها كأميرة، وتستمر حياة الطفلة الى مرحلة المراهقة، ويتقدم لها خُطَّاب من الأمراء والنبلاء، فترفض. وعندما يتقدم لها إمبراطور البلاد، تكتشف أنها ابنة القمر، وحان وقت العودة إليه، لتعود في طقوس يابانية رائعة.
الفيلم مليء بالتقاليد والثقافة اليابانية المدهشة، والرسوم بسيطة ومريحة وتناسب القصة بشكل رائع.
حكاية الأميرة كاغويا التي يعني اسمها «الأميرة المشرقة من جذع الخيزران»، بشكل ما حكاية «تاكاهاتا» ورحلة حياته حتى موته في 2018. قصة الفيلم مأخوذة من أقدم قصة في الفلكلور الياباني، ومعروفة باسم «The Tale of the Bamboo Cutter».
لكن المتابعين للأنيمي الياباني واستوديو «غيبلي»، يقدِّرون فيلم «ميازاكي» الذي صدر في نفس السنه. «ميازاكي» ابن مهندس ومصمم طائرات، لذلك نشأ على حب رسم نماذج الطائرات، وعاصر صراع القوى العظمى في الحرب العالمية الثانية لصناعة الطائرات الحربية، وكان يشغله كثيرًا التوفيق بين الفن والطيران من جهة، وخدمة المجهود الحربي من جهة أخرى، فوجد ضالته في سيرة المهندس الياباني «Jiro Horikoshi»، مصمم «الطائرة ماتشوبيشي صفر» (Mitsubishi Zero fighter) التي كانت فخر الصناعة اليابانية وقت الحرب.
يحكي الفيلم حكاية الفتى «جيرو» الذي عانى من الزلازل التي دمرت اليابان، وكيف يتعافى الشعب منها، مسلطًا الضوء على تخرجه في كلية الهندسة، والتحاقه بمصنع طائرات، والتجارب الأولى لصناعة طائرة يابانية، وإرساله في بعثاث إلى الخارج، إضافة إلى قصة حبه وزواجه (الفيلم يتتبع رحلة كفاحه في الطيران، لكن الجانب الحياتي نابع من خيال المؤلف).
عندما تشاهد الفيلم لا تصدق أنه فيلم من الأساس. فهو ليس مجرد سيرة حياة المهندس، بل سيرة حياة اليابان كلها، بكل التفاصيل والاحلام، التى تحقق منها ولم يتحقق. ولو شاهدت الفيلم، وراودك شعور بأنها سيرة حياة «ميازاكي» نفسه، فلن تكون مخطئًا.
اقرأ أيضًا: الفن ينجو من الدمار: المانغا والأنيمي بعد القصف النووي
لا يمكننا أن نتجاهل فيلم «The Red Turtle». فهو أحد أفلام «غيبلي» الرائعة، التي أسهم «تاكاهاتا» فيها. ففي إحدى زيارات منتِج أوروبي للأستوديو في اليابان عام 2008، سألوه عن المخرج الذي صنع فيلمًا قصيرًا بعنوان «Father and Daughter»، وعندما عثروا عليه، عهدوا إليه بهذا الفيلم الذي صدر عام 2016، وحقق نجاحًا كبيرًا.
هذا الفيلم بالذات لا يشبه أي فيلم من إنتاج «غيبلي». فهو صامت، ومن دون حوار، فقط موسيقى ساحرة. يحكي عن رجل وجد نفسه في جزيرة منعزلة، ليتحاور مع الطبيعة التي تجسدت في أنثى تزوجها، وكوَّن معها أسرة. قصة بسيطة جدًّا، ورسوم أكثر بساطة، ورغم ذلك لا تشعر بأي ملل من متابعتها، وتستغرق في أفراح الرجل وأحزانه ومخاوفه، دون كلمة واحدة.
ماذا سيحدث في المستقبل؟
حتى لو أسس «ميازاكي» و«تاكاهاتا» استوديو «غيبلي» لتحقيق أحلامهما وطموحاتهما في عالم الرسوم المتحركة، فالنجاحات المتتالية، وتقدير أعمالهما، ستفرض عليهم مسؤولية تجاه هذا الكيان. الأستوديو بدأ في قبو أسفل إحدى البنايات، وانتقل إلى عدة مقرات، وصولًا إلى مقرهم الأخير، إضافة إلى المتحف وكمية الألعاب المستوحاة من أفلامهم التي لاقت رواجًا كبيرًا.
لماذا لم يفكر المخرجان في مدير تنفيذي أو خليفة لهما يكمل مسيرة الشركة؟ الحقيقة أنهما لم يبحثا عنه، بل وجداه بالفعل. ففي يناير 1987، التحق «Yoshifumi Kondō» بالعمل في «غيبلي». «كوندو» عمل مع «ميازاكي» قبل ذلك في مسلسل تلفزيوني رسوم متحركة بعنوان «Sherlock Hound»، وانتقل إلى العمل معهم من «Nippon Animation». وأظهر موهبة كبيرة لدرجة أنهما منحاه مسؤولية إخراج فيلم من «غيبلي» بعنوان «Whisper of the Heart» عام 1995، وهو أول فيلم في غيبلي يفلت من بين يدي «ميازاكي» و«تاكاهاتا»، ووضعا في «كوندو» آمالًا كبيرة، ليكون المدير التنفيذي للشركة ويكمل مسيرتها.
لكن الموت خطفة في يناير 1998 عن 47 عامًا، ما سبَّب لهما صدمة قويه، ليعلن «ميازاكي»، لأول مرة، اعتزاله وانفصاله عن «غيبلي». من وقتها لم يفكر المخرجان اليابانيان في هذه المسألة مرة أخرى قط.
اقرأ أيضًا: ساتوشي كون: 10 سنوات تكفي لتقديم كنوز «الأنيمي» للعالم
بعد عودة «ميازاكي» من اعتزاله، بدأ يفكر في بناء «متحف غيبلي» (Ghibli museum). صمَّم المتحف بالكامل وكأنه يصمم فيلمًا جديدًا، وقد بدأ البناء في عام 2000، وكان افتتاحه في 2001. لكنهم في الاستديو كانوا يريدون مهندسًا يستطيع أن ينفذ رؤيتهم وتصميمات «ميازاكي»، فتقدم «جيرو ميازاكي» للعمل. جيرو ابن ميازاكي ظل بعيدًا عن صناعة الأنيمي حتى ذلك الوقت لعدة أسباب، منها شهرة اسم والده، فاختار مجال الهندسة المدنية.
منذ تلك اللحظة تورط جيرو في عالم الرسوم المتحركة الياباني. حاول أكثر من مرة، ورفض والده دخوله غيبلي، حتى رأى إحدى لوحاته، فوافق أخيرًا، وأخرج «Gorō Miyazaki» فيلمين فقط في غيبلي: الأول بعنوان «Tales from Earthsea» في 2006، والثاني «From Up on Poppy Hill» في 2011.
يأمل كثيرون في أن يكون جيرو المدير التنفيذي، ويتولى شؤون غيبلي بعد ذلك. لكن ما زالت الأمور كما هي، وهو يعمل على مسلسل كارتوني ينتجه عدد كبير من شركات الإنتاج، من ضمنهم غيبلي. هل تأسيس استوديو «بونوك»، على يد عضو سابق من استوديو غيبلي، والذي أخذ معه معظم طاقم العمل القديم، سيجعله يحاول أن يحتل مكانة هذا الاستوديو العظيم الذي أنتج لنا روائع في عالم الرسوم المتحركة اليابانية؟ لا أحد يعرف. لكن بموت «تاكاهاتا» فقدت أفلام الرسوم المتحركة طعمًا لن نتذوقه إلا في تعاون ميازاكي وسوزوكي وتاكاهاتا.