يُقصَد بأن الفن فعل سياسي حينما توجد في العمل الفني النية لتوجيه الجماهير في اتجاه معين، أو التلاعب بها لإقناعها باتخاذ قرارات تهدف إلى خدمة مصالح بعينها. وهو ما يعارضه بعض الفلاسفة، إذ يرونها وظيفة الدعاية، أو ما يطلق عليه بعضهم «البروباغندا».
يُعرِّف كل من «غارث غويت» و«فيكتوريا أودونيل»، في كتابهما «البروباغندا والإقناع»، البروباغندا بأنها المحاولة المتعمَّدة والممنهَجة لتشكيل الإدراك والتلاعب به وتوجيه السلوك نحو تحقيق استجابة معينة لتحقيق أهداف منشودة.
فعلى سبيل المثال، نجد ملصق دعاية حملة «!We Can Do It» الأمريكية التي انطلقت في أثناء فترة الحرب العالمية الثانية، بواسطة «جاي هوارد ميلر»، عام 1943: يُظهِر الملصق امرأة عاملة قوية تُدعى «روزي». ويزعم بعض المفكرين والفنانين، ومنهم الفنان «جوين سيميل» أن الهدف الأساسي من الملصق، ومن الحملة ككل، لم يكن الترويج للصورة الإيجابية للمرأة العاملة، إذ كان هناك عدد من النساء يعملن بالفعل خارج المنزل بسبب الحاجة إلى زيادة دخل الأسرة في ذلك الوقت.
ولكن الهدف الحقيقي من وراء الملصق، وهو ما تعاونت لأجله حينئذٍ شركة «ويستنغهاوس»، مع لجنة تنسيق الإنتاج الحربي، أن يصبح العمل في المصانع، ولا سيما مصانع الإنتاج الحربي، مقبولًا بشكل أكبر لدى النساء بدلًا من اكتفائهن بالعمل في المنازل، أو في الأعمال المكتبية.
من خلال طرح الأسئلة والإجابة عنها، يختلف فهم العالم باختلاف التجارب التي يمر بها كل شخص، وباختلاف قدرة كل شخص على التخيل.
ويقول جوين سيميل: «لم يطلب الملصق من النساء إعادة النظر في مكانتهن في المجتمع. فما هذا سوى تفسير حديث لصورة الملصق، ولكن ما حدث هو أن روزي أرادت إشراك النساء في الجوانب الأقل وهجًا من صناعة الحرب».
على عكس البروباغندا التي لا تثمر أفكارًا ملهمة، ينبغي للفن ألا يحاول بيع الأفكار للمتلقين، بل عليه أن يدعوهم ويحثهم على التفكير في الأسئلة التي يثيرها، سواء بشكل ضمني أو صريح، حول فهمهم للعالم المحيط بهم، وفهمهم لأنفسهم، إضافة إلى ذلك ينبغي للفن أيضًا إشراكهم في عملية طرح الأسئلة نفسها.
من خلال طرح الأسئلة والإجابة عنها، تختلف عمليات فهم العالم باختلاف التجارب التي يمر بها كل شخص، وكذلك باختلاف قدرة كل شخص على التخيل. وبحسب الفيلسوف الفرنسي «جاك رانسيير»، في كتابه «The Emancipated Spectator» (المُشاهد المتحرر)، فإن تلك الطريقة هي بالفعل «وسيلة لتغيير العالم وإعادة تشكيله».
فالفنان ليس الفاعل الوحيد من خلال تقديم أعماله الفنية، إذ إن المتلقي الفني، سواء كان مُشاهِدًا أو مستمعًا أو قارئًا، يمر بعملية مشاهدة واختيار ومقارنة وتفسير لما يُقدَّم إليه من خلال هذا العمل. فهو يربط ما يمر به في هذه التجربة الفنية بكل أنواع معارفه المختلفة التي يمتلكها بالفعل، وهكذا يخلق المتلقي تجربة مختلفة جديدة كل مرة. يمكننا أن نقول إن هذه التجربة الغارقة في الفردية تبنى علاقة بين الفنان والمتلقي من خلال الوسيط (العمل الفني)، وهي علاقة يكون فيها الطرفان على نفس القدر من القوة، فالفنان يمتلك قوة الأداء والمتلقي يمتلك قوة التفسير.
هل يمكن اعتبار الفن سياسيًّا دون أن يستهدف الفنان ذلك؟
ما هي السلطة التي يتمتع بها الفن على الصعيد الاجتماعي؟
ردًّا على دعاية الحرب العالمية الثانية، مثل ملصق «!We Can Do It»، حاول بعض الفنانين تجنب استغلال السياسة للفن، ما دفع رسامين مثل «جاكسون بولوك»، إلى تطوير أعمالهم، ووضع أسس المدرسة التعبيرية التجريدية، آملين بذلك في تقديم فن قائم بذاته، يعتمد على حرية التعبير عن الذات والغريزة بمعزل عن الأيديولوجيات ونوايا التلاعب.
على الرغم من ذلك، نجد أنه في ذروة الحرب الباردة كانت المدرسة التعبيرية التجريدية قد استُغِلَّت من برنامج الدعاية الحكومية. إذ أظهرت بعض التحقيقات أن معظم المعارض الدولية التي عملت على نشر فكر المدرسة التعبيرية التجريدية، وخصوصًا تلك التي نظمها متحف نيويورك للفن الحديث (MoMA) في أواخر أربعينيات القرن العشرين وخمسينياته، جرى تمويلها سرًّا من وكالة الاستخبارات الأمريكية بهدف الترويج لصورة «أمريكا الحرة» بفنها الحر المعاصر كبديل عن للفنون الهابطة (kitsch) التي روجت لها الشيوعية السوفييتية.
اقرأ أيضًا: البروباغندا: أعظم مغامرات دعائية في التاريخ
يمكن أن يأخذنا هذا المثال إلى سؤال آخر أكثر أهمية حول ماهية الفن في المجتمع، فما هو دور الفن؟ أو بمعنى آخر: ما هي السلطة التي يتمتع بها الفن على الصعيد الاجتماعي؟
بدايةً، نحن بحاجة إلى إلقاء نظرة على كيفية عمل السلطة في المجتمع. وفقًا للفيلسوف الفرنسي «ميشيل فوكو»، تعمل السلطة من خلال المؤسسات والخطابات. إذ يعتقد فوكو بأن المجتمعات يشكلها أولئك الذين يشغلون الأدوار التى صُمِّمَت لهم من خلال الخطابات العامة. هذه الخطابات تحدد، بل وتقصر كل شيء، بناءً على «المعرفة» أو «الحقيقة» التي وصلت إليها المجالات ذات الصلة بهذا الشيء. والجدير بالذكر أن معارف تلك المجالات وحقائقها تعمل على تحقيقها أو إثباتها المؤسسات الاجتماعية التي تسهِّل عمل السلطة.
فعلى سبيل المثال، يعتمد اتخاذ قرار بشأن الصحة العقلية لشخص ما على المعرفة/السلطة المعمول بها في هذا الوقت في مجالات الطب والقانون والتعليم، وما إلى ذلك. تعتمد هذه المعرفة على عدد من الأبحاث والنقاشات المجتمعية التي تثبت صحتها مؤسسات الدولة الطبية والتعليمية والصحفية.
المثير للاهتمام أن تلك العلاقات لا يقتصر أثرها على إنتاج مواطنين منسحقين أمام تلك الخطابات ومتماهين مع أدوارها فحسب، إذ إن هؤلاء المواطنين/المنتجات يساعدون كذلك في إعادة إنتاج هذه الخطابات والأدوار، وبذلك لا تنحصر السلطة في شخص الحاكم فقط، بل إن دمها يتفرَّق في كل مكان، بما في ذلك المواطنون/المنتجات أنفسهم. تتكون تلك العلاقات، كما يرى فوكو، في شكل معين يشبه النظام، إذ ينتج هذا النظام خطابات بعينها، وينتج أيضًا أدوارًا لترويجها، ما يضمن إعادة إنتاج نفس علاقات القوة. ويطلق فوكو على هذا النظام اسم «The Biopower»، أو (السلطة على الحياة).
هل هناك أمل في أن يقاوم الفن؟
وفقًا لهذا الطرح، يصبح من الصعب جدًّا، بل من المستحيل، أن يتمكن الفن، أو أي شيء آخر، من الخروج عن سيطرة هذا النظام المهيمن على شتى مجالات حياتنا ومناحيها. هل يمكننا إذًا الجزم بأن الجدل قد حُسِمَ، وأن سبل استقلالية الفن قد تقطَّعت؟ هل يستسلم الفن والفنانون؟ لا يبدو الأمر كذلك، إذ إن بعض الفنانين قد أنتجوا ما أطلقوا عليه «دليل المستخدِم للمطالبة بالمستحيل»، والذي يعتقد صانعوه أنه يقدم مساحة للتمرد ضد الخطابات المسيطرة، فهم يؤمنون بقدرة الفن على تقديم خطاب موازٍ لهذا النظام/السلطة، ومن هذا المنطلق يمكن النظر لكل عمل فني باعتباره تدبيرًا جديدًا غير مريح لأولئك الذين يروجون للخطابات المنتشرة. بل ويمكن القول إن الفن في هذا الصدد قد يخلق الفرصة لخلخلة تلك الخطابات.
قد يهمك أيضًا: مرآة التاريخ: 3 أعمال فنية تخلِّد الوجود الإنساني
أترككم مع جزء من كتيب «دليل المستخدم للمطالبة بالمستحيل»:
«إن كنت معارضًا لمنطق تحول الفن أو التعليم إلى سوق، فإنك بذلك تعارض نفسك التي لم تستطع الإفلات من هذا المنطق: فأنت لست الفنان أو الطالب أو العامل الذي يحتاج إلى رأس المال، ما يعني أنك بدأت بالفعل في إلغاء نفسك». «إن حقيقة أنني ألتهم نفسي لا تعكس سوى أنني موجود»، هكذا أعلن المانيفستو الملحق بمجموعة رسومات «رودشنكو» «أسود على أسود» في عام 1919.
«هذا الإلغاء الذاتي، أو رفض ذلك الجزء في هويتك المُعرَّفة أساسًا برأس المال، يدل على التعبير بشكل مختلف، والتصرف بطرق قد لا يكون لها اسم بعد. لكن دون هويتك أنت حر، ما تفعله يصبح أكثر أهمية من هويتك، وما تفعله يمكن أن يكون أي شيء. قد تتفاجأ بقدرة الفن الذي يُنسَى اسمه، على أن يتسلل إلى أماكن غير متوقعة. فالانتقال إلى أنواع أخرى من الفعل أو طرق أخرى للحكي يعني الانزلاق جزئيًّا على الأقل من صفحات تاريخ الفن ومؤسساته، ولكنك بذلك لن تكون أول شبح يطارد مدرسة الفن».