قرأت لـ«دان براون» (Dan Brown) العديد من أعماله؛ ابتداءً بـشفرته المثيرة للجدل، التي كانت السبب الرئيس في شهرته، وروايته الأخرى «ملائكة وشياطين»، التي وجدتها أكثر ما قرأت من أعماله إمتاعًا، وأخيرًا تحفته الرائعة «الجحيم»، ويمكن القول إن جميع تلك الروايات تضمنت جوانب محددة ومشتركة.
هذه الجوانب هي:
- توصيف الفنون المعمارية التاريخية واللوحات الفنية والأعمال الأدبية توصيفًا دقيقًا، لا يخلو من إشارات مثيرة للدهشة والغرابة أحيانًا.
- الجانب الفلسفي والعلمي.
- الجانب الخيالي المرتبط دائمًا بحبكة بوليسية أو جريمة مثيرة، تتداخل أحداثها مع شفرات ورموز يصعب تفسيرها، ويبرع «روبرت لانغدون» (Robert Langdon)، الشخصية الخيالية الثابتة في روايات «براون»، وأستاذ الرموز الدينية في جامعة هارفارد، في تفسيرها.
- بعض المعلومات الغريبة والمدهشة التي ينثرها الكاتب في رواياته ويطعمها بها.
ما بين «براون» و«دانتي»
ولعل أكثر ما يشدني شخصيًّا لقراءة روايات «دان براون» هو البعد الفلسفي العلمي، والمعلومات المدهشة التي يذكرها بين الفينة والأخرى، ولذا أردت فيما يلي أن أدون بعض ما أثار دهشتي من ذلك في روايته «الجحيم».
ينطلق «براون» من جحيم «دانتي» ليدل على الحال المزري الذي سيعيشه الإنسان بسبب الانفجار السكاني.
ترتبط الرواية ارتباطًا وثيقًا بقصيدة «الكوميديا الإلهية» (Divine Comedy)، للشاعر الإيطالي «دانتي أليغييري» (Dante Alighieri)، وتعرضها عرضًا شائقًا، وخصوصًا جزء القصيدة الأول المعروف بـ«إنفيرنو» (Inferno) أو «الجحيم».
تبين الرواية مدى الإلهام الذي أوحته «الكوميديا الإلهية» للأعمال الفنية والأدبية اللاحقة، ومدى تأثيرها في نفوس الناس. ولأن «دانتي» شاعر فلورنسي (فلورنسا هي إحدى أهم مدن إيطاليا)؛ فقد أوغل «براون» شرحًا ووصفًا للإبداعات الفنية والمعمارية الفلورنسية، وأضاف إليها توصيف بعض الأعمال المعمارية في إسطنبول لاحقًا؛ مثل آيا صوفيا (Hagia Sophia)، حيث جرت بعض أحداث الجزء الأخير من الرواية.
ينطلق «براون» من جحيم «دانتي» ويتخذ منه معنى رمزيًّا منبثقًا من الجحيم المادي، ليدل على الحال المزري الذي سيعيشه الإنسان بسبب الانفجار السكاني العصي على الضبط، والذي عجزت منظمة الصحة العالمية والدول والمنظمات الأخرى عن الحد منه والتحكم به وكبح جماحه، وهكذا يربط «براون» الجانب الأدبي المرتكز على كوميديا «دانتي»، لينتقل إلى البعد الفلسفي من روايته المتمثل في «الفلسفة ما بعد الإنسانية»؛ وهي فلسفة قائمة على تعديل الإنسان نفسه جينيًّا باستعمال وسائل الهندسة الوراثية وعلم الوراثة؛ كي يصنع من ذاته كائنًا منيعًا ضد الأمراض بل والموت، كما يجعل من ذهنه عقلًا خارق الذكاء والقدرة.
وترتبط هذه الفلسفة بالفكرة الداروينية «البقاء للأقوى»، إذ يُتصور أن تنتج بفضل وسائل التكنولوجيا البيولوجية جيلًا جديدًا من البشر الخارقين، أُطلق عليه اسم «ما بعد البشر».
اقرأ أيضًا: ماذا لو وُجدت أدوية لتقويم أخلاق الناس؟
كيف تصنع «سوبرمان» باستخدام الجينات؟
واستطاع الإنسان في السنوات الماضية أن يطور لقاحات تقيه بعض الأمراض؛ مثل الجدري وشلل الأطفال، لكن هذه المناعة لا تورَّث، والتطور الذي ترتئيه الفلسفة ما بعد الإنسانية هو أن تجعل هذه التطويرات قابلة للتوريث، كما تجعلها أوسع نطاقًا.
بسبب تكلفة التعديلات الجينية الباهظة، سيتفاقم الشرخ الاجتماعي ويظهر نوع جديد من التفرقة، يضاف إلى التمييز العنصري والعرقي والديني.
إنه شيء شبيه بما عُرف لدى النازيين بعلم تحسين النسل، الذي أراد من خلاله هتلر رفع عدد الأشخاص حاملي الصفات الجينية الجيدة، وتخفيض عدد البشر حاملي الصفات الجينية الرديئة، وهو ما أدى بهم إلى تطبيق ممارسات فظيعة كالتعقيم الجماعي.
يسمح الكاتب لخياله بأن يحلق بعيدًا، ليتصور الآثار الاجتماعية لهذه الفلسفة فيما لو طُبِّقت على أرض الواقع، فتمامًا كالعمليات التجميلية ستكون تكلفة التعديل الجيني عالية، بل وسيحتكر أصحاب رؤوس الأموال هذه التكنولوجيا، وهذا لن يسمح إلا لفئة قليلة من البشر بأن يعدلوا صفاتهم الجينية التي ستورث لاحقًا لأبنائهم وأحفادهم.
بناءً على ذلك سيتفاقم الشرخ الاجتماعي، ويظهر نوع جديد من التفرقة يضاف إلى التمييز العنصري والعرقي والديني؛ الأمر الذي سيعزز الطبقية والعبودية والتطهير العرقي، بينما سيكون التحدي الوحيد الذي يقف عائقًا في وجه هذه الرؤية هو الانفجار السكاني السريع والهائل، الذي عجزت جميع الجهود عن الحد منه أو تنظيمه والتحكم فيه.
يبرع «براون» في عرض معضلة الانفجار السكاني في العالم، إذ يولِّد فنه الروائي في نفس القارئ غير المكترث بهذه المشكلة، أو ذاك الذي لم يسبق أن حمل ذهنه همَّ التفكير بهذه القضية، قلقًا حقيقيًّا بشأنها، ولذلك يبدأ الكاتب من خلال شخصية «زوبريست» (Bertrand Zobrist)، العالم المعتنق والمنظِّر للفلسفة ما بعد الإنسانية، في قلب فكرة حُسن المحافظة على النسل البشري وإطالة عمر البشر إلى الفكرة المناقضة لها تمامًا.
وفي إطار ذلك، تحولت جهود الأطباء التي ترمي إلى إطالة أعمار البشر من أمر جيد وحسن ومطلوب، إلى شيء يتناقض مع تقدم البشرية وازدهارها، ومعين للوصول إلى «جحيم» التكدس السكاني، وكذلك تحولت الإبادة الجماعية، التي تعد جريمة من جرائم الإنسانية، إلى أمر مستحسَن إذا تم بشكل جزئي وإنساني، ومعين على تحقيق الأهداف الحميدة للفلسفة ما بعد الإنسانية، وقياسًا على هذا المعيار، تُعدُّ المثلية الجنسية فضيلة، وموقف الكنيسة من تحديد النسل جريمة، وهكذا.
قد يهمك أيضًا: ملف «منشور» عن الهوية الجنسية
FM-2030
خلق خيال «دان براون» شخصية «زوبريست»، وجعلها عالمًا ذكيًّا بارعًا يحاول إنقاذ العالم من مشكلة الانفجار السكاني، مهووسًا بجحيم «دانتي»، الذي أطلق على حالة ذروة المشكلة السكانية اسم الجحيم، حيث يمتلئ العالم بالنفايات والتلوث والأمراض ونقص الغذاء، وهو ما يؤدي إلى انقراض النوع البشري قبل تمكنه من تطبيق أهداف ما بعد الإنسانية.
الفيلسوف الإيراني «فريدون إسفندياري»، الذي غير اسمه لاحقًا إلى FM-2030، هو مؤسس الفلسفة ما بعد الإنسانية.
تعد هذه الشخصية محور الركن الفلسفي لرواية «براون»، فهذا الشخص، بعد ابتكاره وباءً سريع الانتقال يتسبب في العقم الدائم لثلث من يصيبهم من البشر، كحل إنساني بديل عن الإبادة لمشكلة الانفجار السكاني، هذا الشخص نفسه ينتحر، معتبرًا الانتحار عملًا مقدسًا بذات المقياس المذكور، وهو يؤكد أن العالم سيذكره لاحقًا على أنه بطل، استطاع أن يحدد اللحظة التي اختار فيها الجنس البشري البقاء.
كان «زوبريست» يشبِّه العالم بأنه سفينة يتضاعف عدد ركابها، في حين يحاول أحدهم يائسًا أن يصنع قارب نجاة قبل أن تغرق السفينة بسبب الوزن الزائد، مقترحًا إلقاء نصف عدد الركاب في البحر بدلًا من الهلاك الجماعي.
يدهشنا «دان براون» كعادته بسعة اطِّلاعه، فهو يذكر في خضمِّ روايته اسم الفيلسوف الإيراني الما بعد إنساني «فريدون إسفندياري» (Fereidoun M. Esfandiary)، الذي غير اسمه لاحقًا إلى FM-2030، وكتب كتابه «هل أنت ما بعد إنساني؟» ونشره سنة 1989.
تنبأ «إسفندياري» قبل وفاته بعدة نبوءات صادقة؛ مثل عمليات أطفال الأنابيب والعولمة والهندسة الجينية، ويعد هذا الرجل المولود سنة 1930 مؤسس هذه الفلسفة، ولموته وتغيير اسمه تفاصيل شائقة قد نتعرض لها في مقال آخر.
لا شك أن إنفيرنو «براون» تفتح لقارئها أفقًا جديدًا من التفكير، وتثري خزانته الفكرية بأطروحات جديدة لم يسبق لكثير منا أن سمع بها أو اهتم من قبل.
قد يعجبك أيضًا: هل تصنع الجينات شخصياتنا أم نشكلها بأنفسنا؟