بأمر «Peaky Blinders»: لا أحد يعود من الحرب

لقطة من مسلسل «Peaky Blinders» - الصورة: Caryn Mandabach Productions

إسراء فاروق الجزار
نشر في 2017/12/19

هذا الموضوع ضمن هاجس شهر ديسمبر «كيف تشكِّلنا الحرب؟». اقرأ موضوعات أخرى ضمن الهاجس من هنا، وشارك في الكتابة من هنا.


يعرِّف علماء الاجتماع التغيُّر بأنه عملية دائمة وطبيعية، والتغيُّر الاجتماعي بأنه تغيير البِنَى الاجتماعية بالتأثير فيها جزئيًّا أو كليًّا خلال فترة من الزمن، ينتج عنها تغيرات في الوظائف والأدوار والقِيم والتقاليد السائدة. لكن ماذا عن الهدم المفاجئ لتلك البِنى، والقطيعة الحادة مع امتدادها؟

في المسلسل البريطاني «Peaky Blinders»، المأخوذ عن قصة عصابة حقيقية في مدينة برمنغهام الإنجليزية، تعاود عائلة «بيكي بلايندرز» الظهور بعد أن عاد رجالها الثلاث من الحرب في فرنسا، وتدور الأحداث بدايةً من عام 1919 بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى.

«ما الذي يجمع شيوعي ومدير رهانات معًا؟»

إعلان مسلسل «Peaky Blinders»

سؤال ساخر يطرحه «فريدي» الشيوعي على «توماس شيلبي» بطل المسلسل، شخصيتان يُناصِبا بعضهما العداء، أحدهما شيوعي يحلم بالثورة العمالية ويحرِّض عمال المصانع على الإضراب، لكن في ذات اللحظة يدخل رجل مذعورًا إلى البار، يكسر كل شيء صائحًا: «سيقتلونني»، فيمسك الاثنان بالرجل تلقائيًّا ويطرحانه أرضًا حتى يهدأ: «لقد عدت إلى الوطن يا داني، عدنا جميعًا إلى إنجلترا، لم تعد في فرنسا. لست قذيفة مدفعية، أنت رجل. لست متفجرة، أنت إنسان»، هنا نجد الشيء الذي يجمع شيوعيًّا بمدير رهانات ورجل عامل: الحرب.

يصعب على الجسد الذي تأهب للموت مرة أن لا يظل في حالة تأهب دائمة.

الميراث المتعارف عليه للناجين هو اضطراب ما بعد الصدمة (PTSD). الحرب، إذ تتوقف وتتفتت وتتناثر في ذوات من مرّت خلالهم، تحتل الذاكرة والوعي وتترسب على زجاج النافذة التي يرون بها العالم، مسببةً اضطرابات مزاج عنيفة وتخبُّط في رؤية العالم والذات.

عقولنا التي لم تصمم لفهم الموت تعجز عن تمرير أحداث هددت وجودنا الشخصي ووضعتنا أمام حدث فنائنا، فنضطرب وننفصل عن أنفسنا وعن المحيط، كأنما منذ اللحظة التي تصدق فيها أنك على وشك الزوال يصبح كل الوقت وقتًا إضافيًّا لنهاية تمت بالفعل. صراع مع التكيف يتجلي في كوابيس وأحلام اليقطة، وصراع مع الذاكرة بتجنُّب الحديث والتفكير والاقتراب من مكان الشيء المريع الذي حدث.

ولأنه يصعب على الجسد الذي تأهب للموت مرة أن لا يظل في حالة تأهب دائمة، فالخوف وصعوبات النوم ونوبات الغضب والسلوك العدواني والتدميري الذاتي وصعوبة المحافظة على العلاقات الشخصية والشعور بالانفصال وانعدام الرغبة، كل ذلك جميعًا أعراض تلازم الفرد حتى تلتصق به ويعجز عن تعريف نفسه بمعزل عنها.

«اعتدت مشاهدة موت الرجال، لا الأحصنة»

الحقيقة التي لطالما أقرّتها الأحداث هي أن أحدًا لا يعود من الحرب. الحرب تنتهي في الخارج فقط، أما الصدمة فهي الخط الرئيسي في تكوين الشخصيات، مخاوفهم وشجاعتهم ورهاناتهم ابنة هذه التجربة ورهينتها، حتى تكتشف أخيرًا أنها أعادت تشكيلهم بالكامل.

ما نراه من الحرب في مسلسل «Peaky Blinders» هو ما تركته، أعراض ما بعد الصدمة واضطراب التكيف مع الحياة مرةً ثانية بعد هول انتهائها.

في المسلسل، لا نرى من الحرب ذاتها سوى شبح ذكرى في نفق ضيق رطب في فرنسا خلال الحرب، يُحاصَر فيه معظم رجال المسلسل المحوريين. يتقدم «داني» في الحفر لمواجهة هجمة الألمان المحتملة، بينما يزحف وراءه توماس وأخواه و«فريدي ثورن».

تمر لحظات من الترقب والنقر، ثم ينفجر من الجانب الآخر جنود العدو بأسلحة بيضاء وأعيرة نارية، يصيبونهم جميعهم ويحولون أجسادهم إلى مزيج من الطين والدماء.

لكن ما نراه من الحرب هو ما تركته، أعراض ما بعد الصدمة واضطراب التكيُّف مع الحياة مرةً ثانية بعد هول انتهائها مرة. نرى توماس شيلبي، الشيوعي السابق قبل الحرب، يتحول إلى رئيس عصابة «بيكي بلايندرز»، يعتمد على الكحول والحشيش كل ليلة كي يتمكن النوم ومراوغة كابوس واحد متكرر في النفق، ثم يستيقظ فرعًا ليحدق إلى جدار غرفته محاولًا التخلص من صوت الحفر حتى تشرق الشمس.

فريدي، الشيوعي الحالم، يصبح نبيًّا متنبئًا بالثورة الشيوعية، محرضًا على الإضرابات العمالية، ويتمسك بتحدٍّ عنيد مع توماس شيلبي صديق طفولته باعتباره عدو الثورة الرأسمالي. «آرثر»، الأخ الأكبر، يتهاوى ويترك قيادة العائلة لتوماس الأصغر، بعدما بَهَت إلى شخص انهزامي يمر بنوبات اكتئاب متتالية ويسعي بدأب إلى الانتحار.

داني، الحفّار المقاتل، يوصي بأن يُدفَن في مكان لا طين فيه، بعد أن فقد نصف عقله في طين النفق الفرنسي، حتى قتل شخصًا اعترضه في أثناء تخبطه هَلوعًا في شوارع المدينة في إحدى نوبات فزعه. خرجوا جميعًا من النفق أحياء، لكن لم يخرج أيًّا منهم بكامله.

«هل هذه حرب أخرى تسعى إليها يا تومي؟»

لقطة من مسلسل «Peaky Blinders» - الصورة: Caryn Mandabach Productions

في البدء كان أدرينالين المغامرة، ثم إدمان العنف واستسهاله، وتعويضه في سياقات أخرى غير ساحة المعركة.

اعتمادًا على رصيد شرف العسكرية، ولأن الحرب تجد طريقها للاستمرار داخل أصحابها، يختار توماس منذ الحلقة الأولى الدخول في حرب مفتوحة مع الجميع.

يجد أسلحة عسكرية وطنية مصادَفةً فيقرر المجازفة بحياته ويرفض أن يسلمها إلى الحكومة دون مقابل. يقرر التوسع في أعماله على حساب القِسمة الطبيعة لشبكة مصالح العصابات في إنجلترا، فيكتسب عداوة عصابات تفوقه قوةً ونفوذًا، ويضطره ضعف موقفه إلى دخول سلسلة تحالفات ضدية تنهار بشكل دوري.

في البدء كان أدرينالين المغامرة، ثم إدمان العنف واستسهاله، وتعويضه في سياقات أخرى غير ساحة المعركة.

«حرب من أجل السلام؟ هذا مضحك»

يبدأ الموسم الرابع بالعائلة/العصابة مفككةً ومنهارةً بعد مرور باقي أفرادها بتجربة الاقتراب من الموت، بعد أن أُوقِف حكم الإعدام بالضبط قبل تنفيذه في حقهم. يمر عام وهم معلقون في الفراغ، مقيدون بالخوف من الموت، عالقون عند اللحظة التي التف حبل المشنقة حول رقابهم.

وبينما نشاهد أبطال المسلسل يحاولون استعادة حياتهم وأعمالهم، نرى كيف أن الزمن لا يكمل من نقطة انتهائه بالضبط، وكيف أنهم خرجوا من الموت الوشيك ناقصين أجزاءً منهم ومكتسبين أجزاءً أخرى. خرجوا «آخرين».

يعلَق توماس في دائرة من الرثاء والجنس والويسكي والمخدرات، بينما يفر أخواه إلى الريف في محاولة للهروب من أنفسهم، وتصاب العمة «بولي» بالهلاوس وإدمان المهدئات. في عصابة «Peaky Blinders»، تبدو الأمور ليست قاتمة بما يكفي، إلى أن تصل إلى العائلة رسائل تهديد من مافيا إيطالية، ويبدؤون بقتل «جون»، شقيق توماس الأصغر، في اليوم الذي يليه.

نعود ونحاول الامتزاج، أما الحرب، فلا تنتهي.

مواضيع مشابهة