تُفتح ستارة المسرح على فرقة موسيقية، فيما «المغني» يجلس «مقرفصًا» في وضع غير مألوفٍ بالنسبة إلى صورة المسرح والغناء في مصر لكن مع «المونولج» تخف القواعد الصارمة قليلًا. الموسيقى تبدأ والمغني الذي نكتشف أنه إسماعيل يس ينتفض واقفًا ليقول «الفقر جميل وأنا إنسان طول عمري الفقر مهنيني.. اللهم افقرني كمان اللهم اغني عدويني»، ويرد عليه الكورال «اللهم آمين واجعلنا عدوين»، إذ أنه ليست أغنية عادية، بكلماتها الكوميدية التي كتبها فتحي قورة ولحنها الرشيق لمنير مراد.
المونولوج «الفكاهي» من أدوات النقد اللاذع للأوضاع الاجتماعية والاقتصادية والسياسية في العالم العربي، فكيف بدأ، ومتى ازدهر، ومن أبرز من قدموه، وهل تطور شكله أم اختفى؟
يوضح الدكتور زين نصار، أستاذ النقد الموسيقي بأكاديمية الفنون، خلال حديثه لـ«منشور» أن كلمة المونولوج -بمعناها الحرفي- هو حوار النفس مع ذاتها، وقد بدأ في مصر كغناءٍ غير كوميدي، ومنه ما غنته أم كلثوم «إن كنت أصالح وأنسى الأسية»، كما غنّى عبدالوهاب «في الليل لما خلي».
المونولوج الفكاهي والطقطوقة
المونولوج وحدة شعرية لحنية متماسكة، لا يحتوي على مذهب يتكرر بعد الكوبليهات، إنما هو بناء متصل ببداية ونهاية.
أول من غنى هذا القالب في العالم العربي كان سيد درويش، في مونولوج «والله تستاهل يا قلبي»، عام 1920، ولكن في فترة الأربعينيات ازدهر شكل جديد من الغناء أطلق عليه «المونولوج الفكاهي»، ومع الوقت نُسيت كلمة «الفكاهي»، وأصبح يطلق عليه «المونولوج».
«المونولوج الفكاهي» في قالبه الموسيقي لا يشابه «المونولج التقليدي»، بل هو أقرب إلى قالب «الطقطوقة» فيما يتعلق البناء اللحني والشعري، لأنه يتكون من مذهب (جملة أو أكثر يبدأ بها الأغنية وتتكرر)، وكوبليهات (مقاطع غنائية)، ويتكرر المذهب بعد كل كوبليه؛ بحسب ما ذكر الناقد الموسيقي، الدكتور أسامة عفيفي لـ«منشور»، فهو يشير إلى أن المونولوج التقليدي وحدة شعرية لحنية واحدة متماسكة، لا يحتوي على مذهب يتكرر بعد الكوبليهات، إنما هو بناء متصل له نقطة بداية ونهاية، لا تستطيع الحكم عليه إلا بعد انتهائه، ولذلك فإن «المونولوج الفكاهي» هو أقرب في البناء إلى الطقطوقة.
بدأ يختفي المونولوج تدريجيًّا، ولكن بقي «المونولوج الفكاهي»، الذي كانت أفضل فتراته في الأربعينيات والخمسينيات من القرن العشرين، على يد إسماعيل يس ومحمود شكوكو، وثريا حلمي، عندما كانوا يقدمون نقدًا لاذعًا لأوضاعٍ اجتماعية واقتصادية، في مصر، بالاستعانة بكتابٍ موهوبين من أمثال أبو السعود الإبياري، وبديع خيري، وفتحي قورة، بحسب زين نصار.
اقرأ أيضًا: ليست أغانٍ، ليست أناشيد.. تسمع شيلات؟
وراء كل مونولوج ناجح كاتب موهوب
ربما كان من أهم أسباب ازدهار المونولوج في الأربعينيات كما ذُكر، وجود كتاب موهوبين، ملمين بقضايا وطنهم، أبرزهم كان بديع خيري، أحد آباء الكوميديا العربية، فهو مؤسس واحدة من أهم المدارس -إن لم تكن أهمها- في القرن العشرين، وهي مدرسة نجيب الريحاني، وبجانب كتابته للمسرح كان بارعًا أيضًا في كتابة الزجل، وهو ما ساعده في كتابة مونولوجات، وضمن من غنوا له كان سيد درويش، وفاطمة قدري، وغيرهما- بحسب المؤرخ الفني نبيل حنفي محمود.
كذلك كان أبوالسعود الإبياري، الذي كتب الزجل منذ طفولته، وكان تلميذًا في مدرسة بديع خيري، وهو أكثر من كتب لإسماعيل يس (سينما، ومونولوجات). وكذلك فتحي قورة، الذي برع في الكتابة لإسماعيل يس وشكوكو وثريا حلمي، وكانت أغانيه العاطفية تمتاز أيضا بحس خفيف- بحسب نبيل حنفي محمود.
الفن ينقد المجتمع المصري والسياسة في سوريا والعراق
اتسمت الكثير من مونولوجات شكوكو ومحمود يس وثريا حلمي بإبراز التناقض الاجتماعي والظلم الطبقي، ضمن ماغنى اسماعيل يس «البنك الأهلي»، كما غنى شكوكو «تاكل ولا تنام خفيف»، وغنت ثريا حلمي «إدي العيش لخبازه».
لكن المونولوجات تطرقت أيضًا إلى الشأن السياسي بشكلٍ لاذعٍ في سوريا والعراق. ويشير أسامة عفيفي إلى أن المونولوج كان مزدهرًا في العراق خلال نفس الفترة، على يد رائده هناك، عزيز علي، الذي اتسم غناؤه بطابعٍ سياسيٍ هجائيٍ محرّض على الثورة ضد الاحتلال الإنجليزي والأوضاع السياسية هناك، بجانب انتقاده للأوضاع الاجتماعية والاقتصادية، مشيرًا إلى أنه كان يكتب كلمات مونولوجاته، ومن أبرزها «حبسونه، برنادوت، الطاوة محروكة... وغيرها».
قد يعجبك أيضًا: رحلة في حياة وفن ناظم الغزالي
وفي سوريا برز سلامة الأغواني، ككاتب ومونولوجست، اتسمت مونولوجاته بلغةٍ هجائيةٍ ناقدةٍ للأوضاع السياسية والاجتماعية، خلال أربعينيات القرن العشرين، ومن بين أعماله «نحنا الشوفيرية، قولوا الله يعدلها، فيه غلطة في هالحياة ... وغيرها».
ليست كل الفكاهة مونولج
ظهرت أجيالٌ جديدةٌ من مُحترفي المونولوج في العالم العربي بعد ذلك، ففي مصر ظهر سيد الملاح، وأحمد غانم، ثم حمادة سلطان ومن بعده ماجد القلعي ومحمود عزب، وبرز في سوريا رفيق السبيعي، وفؤاد الشريف في اليمن، وفاضل رشيد في العراق، وأحمد العامر، ومحمد الويس ومحمد السليم في الكويت.
صعود ظاهرة أبو الليف واختفائها السريع، يدلل على أن هذا الفن لا يمكن أن يعود تيارًا له نجومه.
كما ظهرت أنماط من الغناء الاستعراضي الفكاهي، كالتي قدمها ثلاثي أضواء المسرح في مصر «سمير غانم، جورج سيدهم، الضيف أحمد»، ومن بعدهم فرقة «الفور إم»، بقيادة عزت أبوعوف، لكنها ليست مونولوجات، كما يرى زين نصار، مشيرًا إلى أن أغاني الثلاثي أو الفور إم أو ما شابههم، خفيفة وطريفة ولكنها لا تقدم معالجة لأوضاع اجتماعية كما المونولوج، بالإضافة إلى أنها تقوم على الأداء الجماعي وليس الفردي، الذي يتسم به المونولوج.
قد يهمك أيضًا: حسين الإمام: ثِقَل لا يمكن وزنه
ويرى نصار أن فترة منتصف السبعينيات كانت بداية انحدار الأغنية العربية على كل مستواها، بما فيها المونولوج، عندما تحول الأمر إلى إسفاف ومجرد محاولات للمزاح وتقديم كلمات مخجلة، بدعوى الفن.
أبو الليف: أخر العنقود
آخر محاولات تقديم مونولوجات في العالم العربي، كانت على يد المصري «نادر أبوالليف»، وقال إن التوصيف الأمثل له، هو أنه مونولوجست، يحاول إحياء هذا الفن الذي تراجع ثم اندثر، مشيرًا إلى أن أغنيات مثل «أنا مش خرونج أنا كينج كونج» و«آه م الستات دولا مجانين»، تعتبر مونولوجات فكاهية، تحاكي ما كان يقدمه إسماعيل يس، موضحًا أن أغنية «أنا مش خرونج»، يلوم بها شاب حبيبته بسبب سوء استخدامها للإنترنت خصوصا الفيس بوك حيث تتحدث مع شباب غيره، وأغنية «آه م الستات» وإن أغضبت بعض السيدات لانتقادها فئة كبيرة منهن، إلا أنها أعجبت الكثيرات.
إن صعود ظاهرة أبو الليف واختفائها السريع، يدلل على أن هذا الفن لا يمكن أن يعود «تيارًا» له نجومه حتى مع المحاولات التي تدخل ضمن البرامج التلفزيونية كما يقدمها أحمد أمين في برنامج البلاتوه، وأكرم حسني مع شخصية «أبو حفيظة».
ربما تكون لندرة المواهب القادرة على صناعتها، ربما لعزوف الجمهور، وربما لكثافة السخرية كسِمَةٍ مميزة لكل شيء اليوم جعلت منه فنًا لا يستطيع الصمود، باعتباره «يريد بيع الماء في حارة السقايين».