تكتظ المُخيَّلة العربية الشعبية بعديد من الصور النمطية عن شكل اليهودي الإسرائيلي، فتتعامل معه بصورة تهوِّل من شأنه أحيانًا وتحطُّ منه في أحيان أخرى، لكن أحدًا من هؤلاء الذين «تحداهم يهودي» مجهول الهوية على مواقع التواصل الاجتماعي لم يتعامل غالبًا مع يهودي إسرائيلي في الواقع.
في الوقت ذاته، يجاور مليون وثمانمئة ألف عربي فلسطيني اليهود داخل الأراضي المحتلة، يحملون هُويَّات إسرائيلية زرقاء، ويردد أطفالهم النشيد الوطني الإسرائيلي، ويتفاعل أغلبهم مع الإسرائيليين تجاريًّا واجتماعيًّا، وفنيًّا في بعض الحالات، فكيف أثر هذا الاندماج على التعاون الفني؟ وبماذا يخبرنا هذا التعاون عن علاقة العرب بالإسرائيليين؟
المغني الفلسطيني الذي ساعده فنان إسرائيلي
في أواخر تسعينيات القرن الماضي، وجدت ثقافة الهيب هوب طريقها إلى الشرق الأوسط، في المغرب ومصر ولبنان، وكذلك إسرائيل.
«سبليمنال» هو أحد رواد الراب العبري ذوو الثقل في إسرائيل، وربطته علاقة صداقة بالفلسطيني تامر نفار، إذ قدمه سبليمنال حين كان عمره 19 عامًا إلى الجمهور الإسرائيلي لأول مرة في نوادي تل أبيب، كعضو في العائلة الفنية التي كوَّنها.
لم يجد نفار، الشاب الفلسطيني الذي كان قد بدأ أولى خطواته في عالم الهيب هوب، أن تعاونًا فنيًّا كهذا مع سبليمنال يضعه في تناقض مع البيئة التي جاء منها، أو الأفكار التي يحاول التعبير عنها، فعدم وجود تجمعات عربية للهيب هوب دفعه إلى الانخراط في التجمعات الإسرائيلية، التي يُعتبر أفرادها بمثابة أقران وشركاء في ثقافة آخذة في التنامي.
فرقة الراب «دام»، التي أسسها تامر وأخوه سهيل وصديقهما محمود في ما بعد، أنتجت عدة إصدارات باللغتين العربية والعبرية أثارت صخبًا في الأوساط الإسرائيلية، مثل أغنية «مين إرهابي» التي تتهم إسرائيل مباشرةً باغتصاب حق الفلسطينيين، و«مجرمون أبرياء» بالتعاون مع المغني الإسرائيلي اليساري «أفيف جيفين»، الذي يقول في أحد مقاطع الأغنية: «احتللنا أرض الشعب الذي نخافه الآن، لأن الشعور بالخوف أفضل من الشعور بالذنب».
تركت توجهات تامر نفار السياسية علامة أوضح في أغنياته من توجهاته الاجتماعية.
أخذت صداقة نفار وسبليمنال في التدهور، فالأخير توجهاته يمينية، ويرى أحقية إسرائيل في الدفاع عن نفسها أمام «الهجمات العربية الإرهابية»، وهو ما لم يتماشى مع موقف تامر نفار التحرري والهجومي على إسرائيل، وشيئًا فشيئًا صارت صداقتهما عداءً.
اليوم، وبعد مرور نحو 17 عامًا على بدء التعاون الفني بين تامر نفار مع فنانين من أقصى اليمين وأقصى اليسار الإسرائيلي، لا يزال مغني الراب الشاب يشارك في مهرجانات موسيقى إسرائيلية، كما قام ببطولة فيلم «مفرق 48»، الذي شاركه في كتابته وأخرجه إسرائيليون، وموَّلته الحكومة الإسرائيلية.
كانت مسيرة تامر نفار وفرقة «دام» متنوعة على مستوى الكلمات والموضوعات التي تناولتها، إذ تعاطت مع مواضيع اجتماعية، مثل المكانة التي تحظى بها المرأة في المجتمع العربي وحياة الشباب والحب والمخدرات إلا أن توجهات الفرقة السياسية والوطنية تركت علامة أوضح، وأغنياتها المتمردة هي التي أحدثت صخبًا، ويمكن القول إنها ساعدت في انتشار الفرقة في الأوساط العربية والإسرائيلية.
اقرأ أيضًا: صوت فرقة الراب الفلسطينية «دام» يزعج إسرائيل
فلسطيني وإسرائيلي يدخنان الأرجيلة في القدس
على أحد المقاهي التقليدية في مدينة القدس، قد ترى عابد حتحوت من فرقة الهارد روك الفلسطينية «خلص باند»، يدخن الأرجيلة مع كوبي فرحي من فرقة الميتال الإسرائيلية «أورفاند لاند».
يعتبر كوبي فرحي نفسه محظوظًا بالصداقة التي تجمعه مع الفلسطيني حتحوت.
الصداقة التي تربط حتحوت وفرحي كانت مثل موسيقاهما، الموسيقى من أجل الموسيقى، وخلق الجمل الموسيقية من أجل المتعة. احتوت الموسيقى بالطبع على رسائل داخلية، مثل السلام والتناغم، لكن لم تضع الفرقتان على كاهليهما عبء حلِّ مشكلة الصراع العربي الفلسطيني، ولا هدف التغيير السياسي بمعناه الواسع.
يرى عابد حتحوت أن ولادته في تلك البقعة من العالم، وفي هذا الوقت الذي يشهد الصراع العربي الإسرائيلي، لا يجب أن تضعه في موقف سياسي كما يتوقع منه بعض الناس، فهو في النهاية فنان، وظيفته خلق الجمل الموسيقية لا القرارات السياسية.
أما كوبي فيعتبر نفسه محظوظًا بصداقة وحياة كهذه، في بلد يريده «حلمًا»، يشترك الجميع في العيش فيه لكونهم بشرًا قبل أي اعتبارات سياسية أو اجتماعية أخرى.
ذلك الخوف المتأصِّل في نفوس أعداء إسرائيل
الخوف لدى الفنانين العرب من التعاون الفني بين عرب وإسرائيليين، حتى وإن كانت رسالته السلام أو دعم الحقوق الفلسطينية، مبني بصورة أساسية على عدم الرغبة في إظهار إسرائيل أمام المجتمع الدولي كدولة متسامحة عادلة، تقبل الآخر وتحتضن الفلسطينيين الذين يعيشون داخلها، وتعاملهم بنفس القدر من المساواة كما تعامل مواطنيها اليهود.
قد يعجبك أيضًا: تأملات يهودية عربية: صراع الهوية بين الدين والعرق
الخوف يأتي كذلك من غَضِّ الطرف عن الانتهاكات الإنسانية في حق مواطني إسرائيل العرب، منذ بداية الاحتلال حتى الآن، عن طريق التهجير وهدم البيوت وسَنِّ قوانين تحرم الفلسطينيين من البناء، ناهيك بجرائم الحرب وحصار غزة، أو نظام الفصل العنصري والجدار العازل بين الضفة الغربية وإسرائيل.
أفضل طرق المقاومة هي التطبيع
«ليس هناك أي تبرير منطقي لاتخاذ الجهل سياسةً، أو استعماله سلاحًا في الصراع. الأفضل والأذكى مِن لعن إسرائيل هو التعاون مع قطاعاتها التي تدافع عن الحقوق المدنية وحقوق الإنسان، وتُعاِرض سياسة الاستيطان، وتخاطر باتخاذ موقف ضد الاحتلال العسكري، وتؤمن بالتعايش والمساواة».
هكذا رأى المفكر والأكاديمي الفلسطيني الأمريكي الراحل إدوارد سعيد مسألة التطبيع. ورغم أنه كان صاحب مواقف حاسمة من القضية الفلسطينية وأحد أهم الداعمين والمروجين لها على المستويين الدولي والأكاديمي، إلا أن ذلك لم يمنعه من الدعوة إلى مشاركة الأفراد الإسرائيليين الداعمين للحقوق الفلسطينية، بينما أكد مقاطعة المؤسسات الحكومية الصهيونية.
ولم تمنع سعيد مواقفه من الاحتلال من تأسيس «أوركسترا الديوان الشرقي الغربي» مع الموسيقي الإسرائيلي «دانييل برنباوم» في عام 1999.
التواصل الفني ليس حاجة حياتية لا يمكن الاستغناء عنها، مثل المحاكم والمستشفيات.
عرَّفت حملة مقاطعة إسرائيل وتطبيق العقوبات عليها «BDS»، التي استطاعت تكوين أرضية دولية وأكاديمية واسعة، التطبيع بأنه أي مشاركة في مشروع أو مبادرة أو نشاط محلي أو دولي، يكون مخصصًا للجمع بين إسرائيليين وفلسطينيين، أو عرب وإسرائيليين، أفرادًا أو مؤسسات، ولا يدعو إلى إنهاء أو مقاومة الاحتلال وكل أشكال الظلم والتمييز تجاه جميع الفلسطينيين.
إلا أن وضع عرب 48 مختلف بسبب احتكاكهم المباشر مع الإسرائيليين، لذا أعلنت الحركة أن «النضال المشترك مع القوى الإسرائيلية المعادية للصهيونية ضد الاحتلال والأبارتايد (الفصل العنصري) ليس تطبيعًا»، وأكدت أن على فلسطينيي 48 الامتناع عن تمثيل المؤسسات الحكومية أو الوفود الرسمية، أو المشاركة في أي أنشطة إسرائيلية ذات طابع دولي، لكنها لم تعلن صراحةً موقفها من التعاون الفني مع إسرائيليين على المستوى الفردي.
قد يهمك أيضًا: المتعاطفون مع الفلسطينيين مُدانون في هوليوود
لكن الناشطة والمدونة الفلسطينية بدور حسن، التي تعيش في مدينة القدس المحتلة، ترى هذا النوع من التعاون الفني تطبيعًا: «نحن لا نتحدث عن أفراد، بل عن أشخاص تابعين بامتيازاتهم لمنظومة احتلال، حتى لو كانوا محسوبين على ما يسمى باليسار».
توضح بدور لـ«منشور» أن «هناك أشكالًا من التواصل مع الإسرائيليين مفروضة علينا كفلسطينيين، مثل الالتحاق بالجامعات، والتعامل مع المستشفيات والدوائر الرسمية والمحاكم وغيرها. هذه أمور لا نستطيع تجنبها في الوقت الحالي، لأننا لم نتمكن من خلق بدائل فلسطينية مستقلة، ولأنها حاجات حياتية ضرورية، أما ما يتعلق بالتواصل الفني فليس حاجة حياتية لا يمكن الاستغناء عنها، والفنانون الفلسطينيون الذين يقومون بهذه المشاريع يدركون ذلك».
انسلاخ من الهوية؟ وجهة نظر مختلفة؟
يمكن ذكر العديد من الفنانين الفلسطينيين الذين شاركوا إسرائيليين أعمالًا فنية، سواءً عن طريق العمل معهم، أو بالغناء على مسارح وأماكن عرض إسرائيلية، مثل محمد المغربي، وسامح زقوت المعروف بـ«ساز»، وميساء ضو، ورشا النحاس، ودلال أبو آمنة، وآخرين لم يمنعهم تعاونهم ذلك من المطالبة بالحقوق الفلسطينية ومهاجمة الاحتلال.
هل تعطينا تجارب التعاون الفني مثالًا عن تطبيع شريحة من الجيل الثالث الفلسطيني وانسلاخها من هويتها، حتى ولو عن حسن نية؟ أم تطرح وجهة نظر لخلق مفاهيم جديدة للتعامل مع القضية الفلسطينية من خلالها؟