هل تعرف حميد الشاعري؟ لقد بدأ كل شيء قبل التسعينيات، قبل ظهور أغنية «اخترناك» وحادثة الأقصر وحرب الخليج، قبل أن يعرف حسام حسني أن «كل البنات بتحبه».
قبل كل هذا، البداية كانت في الثمانينيات، حينما اغتيل الرئيس المصري محمد أنور السادات، ونزح المصريون إلى الخليج والعراق وليبيا من أجل تجميع «تحويشة العمر»، وشراء فيديو وكاسيت وإيداع الباقي في شركات توظيف الأموال التي ذاع صيتها وتهافت عليها جميع الناس. حينما ارتدى المصريون ثلاث ساعات وقمصان كثيرة فوق بعضها هربًا من جمارك بورسعيد، وطمعًا في جنيهات قليلة من الرزق.
الوضع العام كان «سيزيفيًّا» للغاية، مرحلة انتقالية، من اشتراكية عبد الناصر ومحاولات ديمقراطية السادات، إلى رأسمالية مبارك. ولكن قبل ذلك كان هناك فترة إحكام السيطرة وتهيئة الأجواء والقوانين.
الحياة الفنية لم تكن أقل في السيزيفية والتخبط: السينما لم تكن كما كانت في الستينيات والسبعينيات، انتشار الفيديو جعل المنتِج يهدف إلى الربح، ويعلم أن الفيلم حتى لو كان سيئًا، فهناك فرصة لتسويقه. محاولات محمد خان وعاطف الطيب وخيري بشارة، وحتى رأفت الميهي، كانت حاضرة، ولكن الجو العام كان غير جيد.
الساحة الغنائية هي الأخرى لم تختلف: موت عبد الحليم وأم كلثوم جعل الساحة فارغة تقريبًا حتى مع وجود مطربين أصواتهم جيدة، لكن لم يستطع أحد أن يملأ فراغ حليم و«الست».
في تلك الفترة كان أغلب الناس يميلون إلى التحرر، فمنهم من رأى أنه يجب أن نتطور ولا نعيش نبكي على الأطلال، ومنهم من عاش يبكي الأطلال ويبحث عن «زمن الفن الجميل»، في وردة وسيد مكاوي ونجاة، إذ أرادوا منهم أن يعوضوهم عن فقدان عبد الحليم وأم كلثوم، أو كما قال الصحفى الراحل هانى درويش:
«خريطة خَلَت فجأة من أسماء العظام في عالم الطرب التقليدي بموت الأُسطوات حليم وثومة، وإن ظل المزاج السمعي لأجيالهما يبحث عن روائح الزمن الجميل كما يحب مهاويس نوستالجياته».
لكن هذا لم يجعل راغبي التجديد في الموسيقى ييأسون، فقد أيقنوا أن الزمن تغير، وعملوا على خلق شيء مختلف، مثل فرقة «المصريين» بقيادة هاني شنودة، و«الأصدقاء» بقيادة عمار الشريعي، و«طيبة» لحسين ومودي الإمام.
هذه الفِرَق انفرط عقدها بعد فترة، فظلت الموسيقى في مرحلة حائرة. لكنها تغيرت تمامًا في أوائل الثمانينيات، حينما صعد الشاب القادم من صحراء ليبيا على المسرح حاملًا جيتارًا إسبانيًّا: كان هذا حميد الشاعري.
حميد: النشأة والبدايات
«عيونها»، أول ألبومات حميد، حمل ختم فرقة «المزداوية»، وهو من أطلق عليها هذا الاسم نسبة إلى الفنان الليبي ناصر المزداوي.
لن تجد في نشأة الشاعري شيئًا مختلفًا: حياة طبيعية لطفل من أب ليبي وأم مصرية، نشأ في ليبيا محبًّا للفن والموسيقى، فساعدته أمه على تنمية مواهبه وأهدته آلتي «أورغ» و«إكسيليفون»، لكنها لم تعش طويلًا لترى نتاج ابنها.
لم يفقد ذلك الحب للموسيقى حتى حينما أرسله والده إلى لندن لدراسة الطيران، فاستفاد من وقته هناك ونفذ عدة تسجيلات لبشائر أعماله الموسيقية، التي صقلها بعدما انضم إلى فرقة الإذاعة الليبية كعازف أورغ، ثم أسس فريق «أبناء إفريقيا» مع عدد من الملحنين، من ضمنهم وحيد حمدي الذي يعد سبب بدايته الموسيقية في مصر، فقد أرسل تسجيلات لندن إلى هاني ثابت صاحب شركة «سونار»، الذي تحمَّس بشدة للعمل مع حميد، وأنتج له ألبومًا.
أول ألبوم أصدره حميد كان «عيونها» عام 1983، صدر حاملًا ختم فرقة «المزداوية» بقيادة حميد الشاعري، وبمشاركة صديقه وحيد حمدي. أطلق عليها حميد هذا الاسم نسبة إلى الفنان الليبي ناصر المزداوي.
فشل الألبوم فشلًا ذريعًا لدرجة أن عدد النسخ التي أُعيدت إلى الشركة فاق النسخ المطروحة أصلًا، فقد أعيدت كل النسخ، القانونية والمزورة.
يئس حميد وقرر العودة إلى دراسته وإكمال الطريق الذي رسمه له والده، لكن شركة «سونار» لم تتوقف عن دعمه، وأنتجت له ألبومًا ثانيًا تعاون فيه مع فرقة يحيى خليل. كان هذا الألبوم بداية نجاح حميد موسيقيًّا، وأدى إلى ترسيخ حقبة موسيقية سيكون هو رائدها دون شك.
أكمل حميد الشاعري طريق النجاح، فحققت ألبوماته التالية نجاحًا كبيرًا أدى إلى إبداع موسيقَى خفيفة أعجبت الجميع، إضافة إلى الثنائيات التي نفذها في الألبومات التالية مع عدد كبير من فناني تلك الفترة، مثل علاء عبد الخالق وحنان، وصولًا إلى محمد منير، الذي تعاون معه في أغنية «أكيد» في ألبوم حمل الاسم نفسه.
لم يكن هذا أول تعاون بين حميد ومنير، إذ التقيا معًا في أغنية «الطريق» ضمن ألبوم «اتكلمي» الذي صدر عام 1984.
الأب الروحي للتوزيع الموسيقي
مفتاح النجاح في الثمانينيات حتى منتصف التسعينيات كان حميد، وأي مطرب شاب يُكتب له النجاح يكون حميد السبب.
قبل حميد الشاعري كان مجال التوزيع الموسيقي يحفل بأسماء مهمة، مثل علي إسماعيل وأندريا رايدر ورؤوف ذهني وغيرهم. لكن تأثير حميد كان كبيرًا، وبسببه عُرِفَت أهمية الموزع الموسيقي. قدم الشاعري توزيعات مبتكرة، ومزج بين الموسيقى الشرقية والغربية في وقت كان مستمعو فِرَق الروك الغربية يتضاعف.
عمل حميد على إدخال حالة هارمونية أكثر منها طربية، وفي سبيل ذلك استخدم آلات مختلفة بشكل جديد، مثل الأورغ والساكسفون، واعتمد على التصفيق والإيقاعات المختلفة لتحقيق الانسجام، أو «الحالة» كما كان يُطلَق على نسبة كبيرة من أغاني تلك الفترة. الأغنية كانت حالة خاصة تذوب وسط إيقاعاتها التي وضعها حميد.
حميد الشاعري صانع النجوم
كان الشاعري مفتاح النجاح في الثمانينيات وحتى منتصف التسعينيات، وأي مطرب شاب يُكتب له النجاح يكون حميد سببًا، سواء بالغناء أو بالتوزيع أو بالتلحين.
محمد منير، علاء عبد الخالق، منى عبد الغني، حنان، محمد فؤاد، مصطفى قمر، هشام عباس، خالد عجاج، أنوشكا، سيمون، إيهاب توفيق، حكيم، محمد محيي، أحمد منيب.
القائمة تطول لمطربين عمل معهم الشاعري، واسمه ختم على أعمالهم، ليحققوا نجاحًا تخطى حدود بلادهم، ويحصدوا جوائز بسببه، مثل حنان التي حصلت على «أفضل مغنية بوب عربية» من فرنسا بسبب أغنية «بسمة»، التي وزعها حميد.
عمرو دياب أيضًا تعاون طويلًا مع حميد، بداية من ألبوم «ميال» عام 1988، مرورًا بألبومات «شوقنا» و«متخافيش» و«أيامنا»، ثم «ويلوموني»، وصولًا إلى «نور العين»، تلك الأغنية التي مزج فيها بين الدفوف وصراخ الغيتار الإسباني، ليحقق الألبوم نجاحًا ويحصد عمرو دياب جائزة «World Music Award».
اسم حميد الشاعري كان تذكرة عبور إلى النجاح والشهرة في تلك الفترة، حين عمل مع جميع المطربين تقريبًا.
صناعة الكاسيت والفيديو كليب
رغم أن «لولاكي» لعلي حميدة لم تكن أفضل ألحان حميد، ورغم عشوائيتها كأغنية من حيث الألحان والكلمات، فإنها أحدثت ثورة في عالم شرائط الكاسيت. وبسبب الأغنية صار حميدة أول مطرب يبيع مليون نسخة من شريط.
توطدت العلاقة أكثر مع الفيديو كليبات التي كان حميد يظهر فيها مع مطربين آخرين، مثل مصطفى قمر وهشام عباس وسيمون. نفذ الشاعري مقاطع فيديو خفيفة ومتحركة، بدلًا من وقوف المغني أمام العازفين.
منذ عام 1991 لم يتوقف حميد الشاعري، وظل يلحن ويتعاون مع مطربين، لدرجة أن أعماله كانت تُنسَب إلى آخرين. لكنه اختفى تدريجيًّا من الساحة، ليترك المجال لآخرين مهَّد لهم النجاح، أو تأثرو به.
هذا الموضوع اقترحه أحد قُراء «منشور» وعمل مع محرري الموقع على تطويره، وأنت كذلك يمكنك المشاركة بأفكارك معنا عبر هذه الصفحة.