«إن البحث وراء الموسيقى اليونانية القديمة أمر لا طائل منه» - «جوزيبي فيردي»
عند البحث في أصول الأدب الغربي لا نجد أمامنا، عادةً، غير الشعر اليوناني القديم: ملحمة «هوميروس» العظيمة، قصائد حب «سافو»، روائع التراجيديا والكوميديا اليونانية. يمكننا أن نحس في كل هذه الألوان الأدبية تقريبًا عقيدة موسيقية، فقد كان الشاعر يقول الشعر، ثم يُلحنه، ويغني قصائده مع مرافقيه من عازفي الآلات الموسيقية المطلوبة. الغناء والموسيقى كانا جزءًا من المشهد. ربما في صدارته.
على الرغم من ثروتنا المعلوماتية، فإن إحساس الموسيقى اليونانية القديمة كان بعيد المنال دومًا. هذا لأن المصطلحات والمفاهيم الموجودة في المصادر القديمة، بالنسبة إلينا، معقدة وغير مألوفة. أما بالنسبة إلى ما استطعنا فهمه، فهو نادر ومجزَّأ. ما كان يمكن إعادة بنائه من الناحية العلمية، يبدو غريبًا على الأذن وغير جذاب على الإطلاق. لذلك، فإن الموسيقى اليونانية كثيرًا ما اعتُبِرَت فنًّا ضائعًا.
أصبح الباحثون الآن في مكان يُمَكِّنهم من إعادة تشييد تصورات أخرى من الوثائق الناجية حول الموسيقى اليونانية، وكيف بدت.
الموسيقى ضرورة
كانت الموسيقى عنصرًا محوريًّا في الحياة اليونانية، كما هي بالنسبة إلينا. لكنهم ربما قد بالغوا بعض الشيء لدرجة أنهم فرضوا ضرورة دراستها وتعلمها على جميع الناس. اعتقد الإغريق أن الموسيقى لديها القدرة على أن تفتن وتأسر من يسمعها. ففي القرن الخامس قبل الميلاد، كان لموسيقى المسرح الأثيني عشرات الآلاف من المستمعين. وأما كبار الممثلين، فكانوا يُعامَلون مثل نجوم «البوب»: حتى إنه قيل إن العازف «برومونوس» مثل «إلفيس بريسلي» تمامًا، يُمتع الجمهور بتعابير وجهه وتحركات جسمه ورقصاته.
عادةً ما تُدرس إيقاعات الشعر الإغريقي المعقدة من حيث وزن الألحان، وكذلك من خلال أساس خطوات الرقص، بالنسبة إلى ارتفاع أقدام الراقصين ونزولها. هناك علامات وُجِدت على الحجارة وأوراق البردي، والتي ساعدت في تخيل كيفية رقص تلك الإيقاعات المعقدة.
كانت العناصر الأساسية للموسيقى الإغريقية، مثل كل الموسيقى، هي الصوت، الأدوات، الإيقاعات والألحان.
الآلات أمكن معرفتها وتمييزها من اللوحات القديمة والآثار الإغريقية الناجية، حتى إن بعضها في حالة ممتازة. وقد عُثِر على بعض أجزاء متفرقة من مؤلفاتهم الموسيقية. فهي تقوم على أساس سلالم موسيقية من ذات السبعة مقامات المتسلسلة في هبوط، وتشتمل على ألحان غنائية يصاحب إيقاعها أوزان الشعر وقوافيه، والآلات الموسيقية كانت تكرر نفس الميلودية ولا تخرج عن حدودها. وكان يُستخدم نوعان رئيسيان من الآلات، وهما «الناي المزدوج» (Aulos) والفيثارة لمصاحبة الكلمات المُغناة.
لم يقتصر اهتمام الإغريق بالموسيقى عند حد معين، فكان اهتمامهم بالآلات الموسيقية كبيرًا. وكانت تقوم آلاتهم حينها على نفس الأسس التي نعتمدها الآن في آلاتنا، ومن أمثلة تلك الآلات: القرع، والنفخ الذي يُشبه آلة الناي، وكذلك الناي المزدوج، وصولًا به إلى آلة البوق. وكانوا يعتمدون في العزف على الآلات الوترية، على شد الأوتار بأصابعهم أو «المنقر». وربط الإغريق بين المقام الموسيقي والحالة الشعورية، مثلما نربط اليوم بين السلَّمين: الكبير والصغير.
إننا نعلم أن الموسيقى (الغناء والعزف على الآلات والرقص) كانت جزءًا مهمًّا من الحياة اليونانية القديمة، منذ عهد «هوميروس» في القرن الثامن قبل الميلاد، وحتى مئات السنين. كانت الموسيقى تُستخدم في كل جوانب الحياة، بدءًا بالحياة الدينية، فكانت لديهم ابتهالات لـ«ديونيسس» وتهاليل لـ«أبولو»، وترانيم لكل إله من آلهتهم، وفي الترفيه الرسمي وغير الرسمي، وكذلك الحفلات والمناسبات، مثل الزفاف واحتفالات النصر، وأغنيات خاصة بالحب والحزن والموت، وكذلك للعاملين في مختلف المجالات.
اقرأ أيضًا: كيف تتحول من مستمع للموسيقى إلى «مستمتع» بها؟
لكن ماذا عن النغمات، اللحن والتناغم؟
هذا ما يعنيه معظم الناس عندما يدَّعون أن الموسيقى اليونانية القديمة ضاعت. فقد نجت آلاف الكلمات حول نظرية اللحن والتناغم في كتابات مؤلفين قدماء، مثل «أفلاطون» و«أرسطو» و«أريستوكسينوس» و«بطليموس» وغيرهم. لكن القليل جدًّا من التدوينات الموسيقية بقيت. حتى التدوينات الموسيقية التي وُجِدَت لأول مرة في فلورنسا، في منتصف القرن السادس عشر، كانت متفرقة وغير كافية. وهذا الدليل على أن الموسيقى الفعلية للإغريق لم تُعط إحساسًا حقيقيًّا يكافئ ثِقل الثروات الموسيقية التي كُتب عنها في المصادر الأدبية الكلاسيكية.
حتى وقت قريب، ظن كثيرون أننا لا نعرف أي شيء عن الألحان القديمة. لكن أبحاثًا جديدة قد مكنتنا من فك رموز العلامات على الأحجار وورق البردي، والتي تكشف عن بعض الأغاني والألحان القديمة. استطاع الباحثون استخراج الألحان من تلك الآثار بفضل مجموعة شاملة من الجداول التي تعود إلى القرن الخامس الميلادي على يد مؤلفٍ غير معروف يُدعى «آليبيوس» (Alypius). وقد أورد أليبيوس الرموز المُستخدمة في الإشارة إلى الألحان الصوتية والآلاتية، ويوضح بعدها الأساليب التي يمكن أن نفهم بها تلك الرموز.
مؤلف آخر لاحق، هو عالم الرياضيات والفلك «بطليموس»، الذي كتب أيضًا عن الموسيقى في القرن الثاني الميلادي، قدَّم تفاصيل دقيقة للغاية عن ألحان الفيثارة سباعية أو ثمانية الأوتار. وصنع آلة ثمانية الأوتار بجسورٍ متحركة، وقاس تناسب الأوتار من أجل تحديد درجة صوت كل واحد منهما. ونتيجةً لذلك، فإننا قادرون على إعادة بناء آلات وترية وضبطها تمامًا كما كان في الماضي، وإخراج الألحان ذاتها.
قد يهمك أيضًا: لأن اللحن أكثر بلاغة: يا صاحبي، دعك من كلام الأغاني
بعد أن تلاشت علامات الاستفهام حول الموسيقى الإغريقية، يتألق سؤال جديد حول مدى تأثر النصوص الشعرية بها.
ظهرت بقايا من ورق بردي مع تدوينات موسيقية، في وقت مبكر من القرن السادس عشر، وكان «الكاميراتا فلورنسا» (مجموعة من الشعراء والموسيقيين والمثقفين الإنسانيين الإيطاليين المؤثرين في فلورنسا في القرن الـ16 أواخر عصر النهضة) متحمسين للغاية لتجريب موسيقى اليونان القديمة وإعادة اكتشافها. مع ذلك، وجدوا أن تلك التدوينات التي ظهرت عشوائية جدًّا، فلم يستطيعوا تكوين فهم جيد للموسيقى. واتجهوا إلى طريق خاص بهم في الأوبرا و«الأوراتوريو».
خرج مزيد من أوراق البردي للضوء على مدى مئات السنين الماضية، وكذلك نقوش حجرية بتدوينات موسيقية متعددة. وأصبح بإمكاننا من خلالهم أن نعيد بناء أصوات الموسيقى التي كانوا يعزفونها. هناك ما يقرب من 24 لحنًا تعرضوا للنسخ، ويُمكن دمجها مع النصوص التي تُنتج إيقاعًا فطريًّا، فالكلمات الإغريقية تتألف من المقاطع الطويلة والقصيرة.
إن هذه الألحان الوثنية التي يعود تاريخها من القرن الخامس قبل الميلاد حتى القرن الثالث الميلادي، ترتبط بالموسيقى المُغنَّاة في بدايات الموسيقى الغربية، والتي نعرفها الآن باسم «الأنشودات الغريغورية» للقرن التاسع عشر. إن هذه الصلة لم تُثبَت من قبل، ومن شأنه أن يغير من تاريخ الموسيقى. والآن، بعد أن تلاشت علامات الاستفهام حول الموسيقى الإغريقية، يتألق سؤال جديد حول مدى تأثر النصوص الشعرية بها.
أما المقاربة الأحدث لتلك الموسيقى، فكانت من نصيب مشروع بحثي عن الموسيقى اليونانية القديمة، عمل عليه البروفيسور «أرماند دانغور»، الأستاذ المساعد في قسم الموسيقى الكلاسيكية بجامعة أكسفورد، منذ عام 2013. فقد نجح في معرفة أكبر للطريقة التي أنتج بها الإغريق موسيقاهم. لكن الوضع استمر في التغيير لأنه خلال السنوات الماضية، أعيد بناء الناي المزدوج بشكل دقيق على يد خبراء فنيين، مثل «روبن هاول»، وآخرين من المسهمين في مشروع آثار الموسيقى الأوروبية. فقد عزف على تلك الآلات المشيدة عازفون رائعون مثل «بارنابي براون»، و«كالوم أرمسترونغ»، ما منحنا رؤية أكثر دقة لمدى نغمات الموسيقى القديمة، وكذلك نغمات الآلات ذاتها.
قد يعجبك أيضًا: كيف تتعامل أدمغتنا مع الموسيقى؟
أما أقدم وثيقة موسيقية مهمة، والتي عُثِرَ عليها عام 1892، فتحتوي على أجزاء من كورال «أوريستيس» للملحن الدرامي «يوربيديس» لعام 408 قبل الميلاد. ولطالما تسببت تلك الوثيقة في مشكلات تخص ترجمتها، ويرجع ذلك إلى استخدام الملحن لفواصل «ربع-نغمة»، والتي بدا أنها تشير إلى إحساس لحني غريب. فالموسيقى الغربية تستخدم نغمة كاملة أو «نصف- نغمة»، وأي فواصل أصغر من هذه تجعلنا نشعر بخروج عن اللحن المعتاد.
لكن تحليلات «دانغور» لتلك الوثيقة كانت أكثر مرونة، وأدت إلى اكتشافات مذهلة. فبرغم عدم وجود علامات تدل على سرعة إيقاع الموسيقى القديمة، إلا أننا نستطيع أن نستشف وجوب الإسراع أو الإبطاء في الإيقاع بالاعتماد على أوزان الشعر. وقد توَّج دانغور تحليلاته باكتشاف أن أصول الموسيقى الأوروبية من الموسيقى الإغريقية، وليس كما كان يُعتقد من قبل بأن التقاليد الغربية للموسيقى الكلاسيكية بدأت من «الموسيقى الغريغورية» التي ظهرت في القرن التاسع بعد الميلاد.