إذا كان فيلم «طوفان في بلاد البعث»، الذي أخرجه السوري الراحل عمر أميرالاي عام 2003، أحد أبرز الأفلام التي استطاعت أن تقتحم معالم الدولة السورية العميقة وتقتفي آثار سياسات حزب البعث في سوريا، فإن العديد من الأفلام الوثائقية السورية أُنتجت عقب الحراك السوري، وما اندلع على إثره من حرب طاحنة أدت إلى موت مئات الآلاف من السوريين.
رصدت تلك الأفلام معالم سوريا ما بعد الحرب، وألقت الضوء على أطراف الصراع، وأبانت هامشًا كبيرًا من الواقع السوري الذي غاب عن كثيرين، فضلًا عن اجتيازها كثيرًا من القيود التي فُرضت على هذه الصناعة في سوريا، وإعلانها انتهاء حكاية أن «ما خفي كان أعظم».
لكن الثمن كان غاليًا وخلَّف ضحايا عدة، على رأسهم المخرج السوري باسل شحادة، أحد أوائل من لقوا حتفهم في سبيل نقل الحقيقة.
سوريا: ما بين عهدين
يؤكد المخرج السينمائي السوري دلير يوسف، الذي أخرج عدة أفلام منها «أمراء النحل» و«منفى» و«بانياس» و«البدايات» و«حبل الغسيل»، أن الحال اختلف جدًّا ما بين عهد ما قبل الحراك المعارض وبعده.
جلبت الأفلام السورية بعد الحرب اهتمام العالم، لرغبته في فهم ما يجري في سوريا.
يوضح يوسف أن السينما السورية وقعت طويلًا تحت سيطرة المؤسسة العامة للسينما التابعة للدولة، قبل أن يفجر حراك السوريين طاقات كبيرة لدى فئة من المخرجين، فخرجوا عن الأُطر وكسروا عدة قواعد عقيمة متبعة، وعرضوا عديدًا من التجارب التي أثرت المكتبة السورية السينمائية، وخاضت التجربة في مهرجانات دولية أمام جمهور مختلف، ما أسفر عن ولادة موجة جديدة من السينما السورية.
قد يهمك أيضًا: هل جسدت الرواية في سوريا آلام الحرب؟
أفلام: توثيق الحدث السوري
يعتقد المخرج السوري الشاب عادل شخيص، الذي أسهم بعديد من الأفلام والتقارير عن الحراك السوري، أن الأفلام الوثائقية السورية التي قُدمت خلال السنوات الماضية حاولت أن تبحث في الواقع المأساوي للشعب.
يروي شخيص لـ«منشور» أن كثيرًا من هذه الأفلام صُورت على يد شباب سوريين نشطوا في مجال الإعلام بعد نشوب الحرب الأهلية، يحاولون توثيق معاناة الشعب وتقديمها إلى العالم بأدوات بسيطة لم تسمح الظروف باستخدام غيرها، إلا أنها استطاعت رغم كل شيء أن تقدم الواقع دون تزوير أو رتوش.
يرى دلير يوسف أن أفلام الحرب بمختلف أنواعها جلبت اهتمام العالم بسبب رغبته في فهم ما يجري في سوريا، مؤكدًا أن دولًا عدة عرضت الأفلام السورية للمرة الأولى في تاريخها، ما يدل على أن السينما السورية كانت سببًا رئيسيًّا في إخبار العالم بالقضية السورية وتفاصيلها.
أفلام وثائقية مضللة يدعمها المال
يوضح دلير يوسف لـ«منشور» أن الجهات الرسمية لم تقدم سينما حقيقية خلال الصراع السوري، ويتهم الجهات التابعة للنظام بتسويق بروباغندا القتل لتصور القاتل كشخص بريء، كما حدث في أفلام المخرج السوري نجدة إسماعيل أنزور، أو فيلم «حلمهم المسروق» الذي أنتجته قناة «الميادين» الداعمة للحكومة، والذي يتحدث بالتباس شديد عن الحراك ومجرياته، ويحاول بث «الشيطنة» في كثير من تفاصيله.
قد يهمك أيضًا: بشار الأسد: من طبيب خجول إلى ديكتاتور وحشي
يشير شخيص إلى أن أكثر ما يمكن ملاحظته في أفلام الجهات الداعمة للنظام، والتي اعتمدت على الصبغة الروائية، هو الدعم الهائل الذي قُدم إليها، وهو ما كان ينقص أفلام الحراك السوري، التي تُركت دون دعم تعتمد على الوسائل البدائية في عالم صناعة السينما.
رأي دون «آخَر»
لا يعتقد دلير أنه يمكن تكوين صورة كاملة من الأفلام الوثائقية السورية الحالية، معللًا ذلك بأنه خلال صناعته لفيلمي «بانياس» و«البدايات»، اللذين يناقشان مجريات الأحداث في سوريا، كان جميع المتحدثين من الطرف المعارض للنظام، أو «الطرف الضحية» كما يسميه، لكنه كان يتمنى أن يجتمع بالطرف الآخر، مقاتلون ارتكبوا مجازر، أمهات المقاتلين الذين ماتوا في المعارك، إلخ.
يتمتم يوسف: «هذا حلم وردي يصعب تحقيقه في سوريا في ظل واقع منقسم».
محاولات استحقت التكريم
يرى عادل شخيص أن هناك عديدًا من الأفلام السورية التي نقلت الواقع بحذافيره إلى العالم، ما جعلها أهلًا لنَيل الجوائز العالمية، موضحًا أن صانعيها وأبطالها يستحقون التكريم، لأنهم عاشوا تحت القصف والموت لينقلوا الواقع في سوريا دون مواربة أو مصالح سياسية، بل كان هدفهم نقل معاناة الإنسان السوري أولًا وأخيرًا.
سينما بملامح و«دماء» كثيرة
قلة كَمِّ الأفلام السورية ترجع لعدم حرية العمل في هذا المجال قبل الحراك.
من خلال تجربته التي انطلقت مع بداية الحرب السورية، يوضح المخرج الشاب جان مطر لـ«منشور» أن حركة السينما بعد الحراك أصبحت أكثر حرية، إذ رسمت لها الثورة وما بعدها من أحداث زوايا كثيرة تناولها المخرجون، منهم من عمل على الفيلم التسجيلي أو الدرامي، فصار الحراك وأحداثه محور الإنتاج السينمائي السوري.
يرى مطر، صاحب فيلمي «صرخة لاجئ» «والصعود»، أن صانعي الأفلام السورية، خصوصًا من عمل منهم في الداخل، كانوا أبطالًا بحق، وسقط كثير منهم في سبيل تقديم صورة واضحة عن حقيقة ما يحصل في سوريا.
باسل شحادة على سبيل المثال لا الحصر، بحسب مطر، كان من أوائل المخرجين الذين حملوا كاميراتهم، وخرج كي يقدم الحقيقة إلى لعالم، وهو ما كان سبب قتله بعد ذلك، فمن يحمل الحقيقة في مثل هذه الظروف «إنما يحمل دمه على كتفه ممَثلًا في الكاميرا، التي تصور وتحصي كل شيء».
اقرأ أيضًا: الجمال المزعج والمأساة الفنية: كيف تؤثر فينا الصورة؟
سوريا: قضايا كثيرة ينقصها الدعم
لا يعتقد المخرج السوري الشاب علاء خويلد، صاحب الفيلم التسجيلي «رمق من تراب»، أن ضعف السينما السورية قبل الحراك وبعده يُرد إلى قلة الأفكار، في حين أن سوريا كانت وما زالت تزخر بالقضايا والمشكلات التي تحتاج إلى النقاش.
يعيد خويلد قلة كَمِّ الأفلام المنتَجة في سوريا إلى أسباب أولها حرية العمل في هذا المجال داخل البلد قبل الثورة، وقلة الدعم غير المشروط، فالأعمال والأفكار المبدعة بحاجة دومًا إلى دعم كبير، لا يتأثر بما يريده الممِّول ولا يتبع جهة معينة.
يوضح خويلد لـ«منشور» أن هذه الأسباب كانت العائق الأكبر في وجه السينما السورية، لكنها كانت في الوقت نفسه ذات تأثير إيجابي، إذ ساعدت الشباب على اتباع سياسة الدعم الذاتي في إنتاج ما يريدون، دون أن يشترط عليهم أحد ما يقدمونه، ما جعل كثيرًا من أفلام ما بعد الثورة تصل بسهولة إلى المواطن السوري والعالم، وتُرشَّح لجوائز عالمية، على غرار أفلام الأخوين ملص، وغيرهم أصحاب الأفلام التسجيلية والوثائقية.
في المقابل، يرى المخرج السوري الشاب أن غياب الأسماء السينمائية والتمثيلية الكبيرة عن دعم الحراك السينمائي بعد الثورة أثر بشكل كبير في عملية صناعة وتقديم الأفلام: «هناك أعمال سينمائية ودرامية كبيرة قدمتها جهات قوية سياسيًّا، وناقشت ما حدث في سوريا من وجهة نظر مغايرة للواقع، وهو ما لم يكن بالإمكان تقديمه في كثير من الأعمال التي صنعها شباب حاولوا فعل شيء لأجل حراك شعبهم، وتصوير مأساة القرن الواحد والعشرين بكل واقعية، وبعيدًا عن تزوير للحقائق أو تهويل ما فيها».
الإبداع موجود بين الشباب في سوريا، لكنه يحتاج إلى دعم كبير كي يصبح ملموسًا في مجال السينما، وتتأثر به أعمال ربما تصير شاهدة على هذه الفترة الحرجة والمفصلية من تاريخ البلاد.