«الأدب يمتصُّ القارئ ويسحبه ليُسكِنه في روح شخص آخر»، هكذا كتبت الروائية «باربرا كينغسولفر» في أحد أعمالها. وليست هذه وجهة نظر كينغسولفر وحدها، بل هي الأساس الذي يستند إليه بعض النقاشات حول قيمة مختلف الآداب والفنون، وقدرتها على أن تغرس في النفوس القدرة على «التقمُّص العاطفي» والشعور بالآخرين والتعاطف معهم.
الفن تهذيب وإصلاح
في مقال بعنوان «هل الفن والأدب يغذيان التعاطف؟» نُشر على موقع «The Conversation»، يناقش أستاذ علم النفس في جامعة ملبورن، «نيك هاسلم»، عددًا من الآراء والدراسات التي توصلت إلى نتائج مثيرة للاهتمام في ما يتعلق بحب الآداب والفنون وتأثيرها على تحسين قدرة التقمص العاطفي لدى الأشخاص.
يقول أنصار هذه الرؤية إن قراءة الأعمال الأدبية ومشاهدة أفلام السينما ذات القيمة الفنية والاستماع إلى الموسيقى الجميلة يهذِّب الروح والمشاعر، ويستفزُّ ذلك الجانب الإنساني العطوف من شخصية الإنسان، ويجعله أكثر قدرة على الشعور بالآخرين والإحساس بآلامهم وأفراحهم.
ورغم أن القول بأن الفنون تدعم القدرة على التعاطف مع الآخرين وتجعل الإنسان أكثر وعيًا بمن حوله وتقبُّلًا لهم لا يزال مثارًا للجدل، فالحقيقة التي تَخطَّت مرحلة الجدل وأصبحت شبه مؤكَّدة، حسب مقال هاسلم، هي أن الأشخاص الذين لديهم قدرة هائلة على التعاطف، لديهم أيضًا تفضيلات ثقافية وأدبية مميزة على غيرهم.
اقرأ أيضًا: ما الذي يحدد تعاطف العرب السياسي؟
ذوقك الفني يحدد تعاطفك
أجرى مجموعة من علماء النفس في جامعة كامبريدج أبحاثًا توصلت إلى أنه يمكن تصنيف اهتمامات وتفضيلات البشر على نطاق يتكون من خمسة أبعاد:
البُعد الأول أطلقوا عليه البُعد «المظلم»، ويشمل الأشخاص الذين يستمتعون بالأنواع الأدبية القوية والانفعالية وأفلام الرعب والأدب الجنسي وموسيقى «الميتال». والبُعد الثاني يُطلَق عليه «الإثارة»، ويضم الأشخاص الذين يحبون أفلام الإثارة وأدب المغامرات والخيال العلمي. والبُعد الثالث هو «الذهني» أو «العقلاني»، ويشمل أولئك الذين يحبون مشاهدة الأخبار والأفلام الوثائقية والبرامج التعليمية والأعمال غير القصصية.
أما الأشخاص ذوو حس التعاطف العالي، فيرى الباحثون أن تفضيلاتهم الفنية غالبًا ما تنتمي إلى البُعدين الرابع والخامس: «الجماعي» و«الجمالي». ويركز البُعد «الجماعي» على الأشخاص والعلاقات، فترى من ينتمون إليه يفضلون برامج اللقاءات الشخصية وأفلام الدراما والأفلام الرومانسية وموسيقى «البوب»، أما من ينتمون إلى البُعد الأخير، «الجمالي»، فيكونون أشخاصًا رفيعي الثقافة، يفضِّلون الموسيقى الكلاسيكية وبرامج الفن والتاريخ والأفلام على أنواع الفنون الأخرى.
التعاطف يجعل بعض المشاعر السلبية سيئًا، ولكنه يجعل البعض الآخر ممتعًا.
ولعل هذا يكشف الشخصية المزدوجة للتعاطف في رأي الكاتب، فهي من ناحية تجعل الأشخاص مهتمين بأحداث الحياة اليومية والعلاقات الاجتماعية، ومن ناحية أخرى تجذبهم إلى عالم الخيال، وتشجعهم على الانخراط في تجارب وعوالم تختلف عن تجاربهم وحياتهم الشخصية.
وقد تَوَصَّلت دراسات إلى أن الأشخاص الذين لديهم القدرة على التعاطف مع الآخرين ينفرون من أفلام العنف والرعب، ربما لأنهم يشعرون بالألم الذي يشعر به ضحايا هذه الأفلام. لكن هذا لا يعني أنهم ينفرون من كل المشاعر السلبية، فقد وجدت دراسة أخرى أن هؤلاء الأشخاص يستمتعون بالمشاعر السلبية التي تبثها الموسيقى الكئيبة، ومن ثَمَّ فإن التعاطف يجعل بعض المشاعر السلبية سيئًا، ولكنه، للمفارقة، يجعل البعض الآخر ممتعًا.
أيهما يأتي أولًا: الفن الجميل أم الحِسُّ المُرهف؟
لكنَّ هذه الدراسات لا تجيب عن التساؤل الأهم: هل حب الآداب والفنون هو ما يحفز التعاطف، أم أن الآداب والفنون تروق فقط للأرواح مرهفة الحس القادرة على التعاطف؟ أم إن الأمرين يحدثان معًا؟
يرى الكاتب أن العلاقة قد تكون متبادَلة، فقراءة الأعمال الأدبية ومشاهدة الأفلام التي لا تتضمن مطاردات بالسيارات تُغذِّي قدرة الإنسان على الشعور بالآخرين، وفي الوقت نفسه قد يكون الأشخاص ذوو القدرة الكبيرة على الشعور بالآخرين ينجذبون إلى هذه الأنواع من الفنون، حتى إذا كان ذلك الانجذاب لا يؤدِّي بالضرورة إلى شحذ هذه القدرة أو زيادتها.
الروايات تسهِّل التعاطف، لأنها تحُثُّ القارئ على الغوص في أعماق الشخصيات.
في عام 2013، أجرى عالِمَا النفس «إيفان كيد» و«إيمانويل كاستانو» خمس تجارب لاختبار ما إذا كانت قراءة الروايات الأدبية تعزز القدرة على التقمص العاطفي، واستخدم العالِمان أحد الاختبارات الخاصة بـ«نظرية العقل» (القدرة على تحديد وفهم الحالة الذهنية للآخرين، التي تُعَدُّ أساس التعاطف) لقياس مستوى القدرة على التضامن.
في الدراسات التي أجراها كيد وكاستانو، كان أداء الأشخاص المشاركين في التجربة الذين قرؤوا لتوِّهم روايات أدبية، أفضل على المقاييس التي تحسب التعاطف، لكن الباحثان يشيران إلى أن عنصر القصة لا يستطيع بمفرده تفسير هذه الظاهرة، لأن التجربة كانت مقصورة على الأعمال الأدبية لا الأدب الجماهيري أو القصص عمومًا.
الروايات تساعدك في فهم الآخرين
يرى كيد وكاستانو أن الروايات الأدبية تسهِّل التعاطف، عن طريق حثِّ القارئ على ارتداء عباءة المؤلف والغوص في أعماق الشخصيات في محاولة لفهم الحياة الذهنية لها، ويشيران إلى أن للروايات الأدبية قدرةً فريدة على تعزيز إمكانية محاكاة الفروق الدقيقة في تجارب الآخرين. ويؤكِّد بعض الأدلة هذا الرأي، إذ إن شبكات الدماغ المشتركة في عملية فهم الآخرين تنشط بقوة عندما يقرأ الأشخاص التصوير الأدبي لأناس آخرين.
قد يهمك أيضًا: أفلام عربية مقتبسة من روايات عالمية
القدرة العالية على التعاطف لا تعني بالضرورة تحسينًا للسلوك.
وعلى الرغم من أن تأثير قراءة الأدب على التعاطف قد يستمر لفترة قصيرة، فإن الباحثين يفترضون أنه قد يبني قدرةً دائمة على التعاطف لدى القراء النهمين والشغوفين بالقراءة. وتَوَصَّلت دراسات مختلفة إلى كثير من الأدلة تشير إلى أن الأشخاص الذين يقرؤون مزيدًا من الأعمال الأدبية يكون أداؤهم أفضل في اختبارات «نظرية العقل»، فقد تعمل قراءة الروايات الأدبية على تدريب الشبكات العصبية، التي تمثِّل أساس التقمُّص العاطفي، بحيث يظل تأثيرها مستمرًّا.
باب النقاش لم يغلَق بعد
ويظل تساؤل «هل تجعل قراءة الأعمال الأدبية وحب الفنون من الإنسان شخصًا أفضل؟» مثار جدل ونقاش، خصوصًا أن عديدًا من التجارب والدراسات التي أجريت للتأكد من نتائج الدراسات السابقة لم ينجح في التوصل إلى نفس النتائج.
ويشير الكاتب إلى أن القدرة العالية على التعاطف لا تعني بالضرورة تحسينًا للسلوك، بل قد تؤدي إلى نتائج عكسية، لأن تبنِّي منظور الآخرين في موقف تنافسي قد يدفع البعض إلى الحَيْد عن الطريق القويم وإتيان أفعال غير أخلاقية، ويسري الأمر كذلك على تَبَنِّي منظور مَن نراهم تهديدًا لنا، فهذا يجعل نظرتنا إليهم سلبية أكثر.
وهكذا، فليس من الحكمة أن نتوقع أن يكون محبو الأدب والفنون أشخاصًا أكثر لُطفًا وطيبة، إنهم فقط أفضل من غيرهم في فهم تعقيدات التجارب التي مرَّ بها الآخرون.