هذا الموضوع ضمن ملف «الثورة والثوار». لقراءة موضوعات أخرى في الملف اضغط هنا.
هل شاهدت فيديو أغنية «هواجيس» للمخرج والمنتج السعودي ماجد العيسى من قبل؟ ربما يبدو محتواه الثوري صادمًا بالنسبة للثقافة العربية، لكنك ربما لم تنظر عن قُرب.
يُظهر الفيديو نساءً سعوديات يلبسن النقاب ويرقصن ويلعبن كرة السلة أو يركبن دراجات نارية، بينما يغنين كلمات مثل «جعل الرجاجيل للماحي، حطوا بنا أمراض نفسية»، أي «اللهم اخفِ الرجال، فقد سببوا لنا الأمراض النفسية»، في اعتراض صارخ على سلطة الذكور المفروضة على النساء في السعودية وغيرها من دول الخليج والعالم العربي.
قوة الشخصية ليست ظاهرة جديدة على المطربات العرب.
تعتقد الصحفية أروى حيدر، في مقال كتبته لموقع «BBC» بمناسبة يوم المرأة العالمي، أن الموسيقى العربية لا تخلو الآن ولم تخلُ قبلًا من أصوات نسوية متمردة. وإذا كانت الصورة النمطية عن المرأة العربية تجسيدًا للخضوع والانصياع، فإن بعض الفنانات العرب يحطمن هذا القالب بموسيقاهن.
أطلق يديَّا: تاريخ تمرد الأغنية النسائية
أول النساء اللاتي تناولت حيدر سيرتهن كانت ياسمين حمدان، المغنية والمؤلفة اللبنانية المعروفة نسبيًّا للشباب العربي.
تقول حمدان لحيدر إن قوة الشخصية ليست ظاهرة جديدة على المطربات العرب، فقد استمعت هي نفسها في طفولتها إلى عدد كبير من المغنيات اللاتي كُنَّ قويات الشخصية.
بشكل تلقائي، ستكون أيقونة الغناء العربي أم كلثوم أول من يخطر على البال من هاته النساء. تربَّت «كوكب الشرق» في أسرة متدينة، وكان أبوها إمام مسجد يتكسَّب من الغناء في أفراح القرية. درست أم كلثوم بطريقة تقليدية في الكُتَّاب (مكان لتحفيظ القرآن في الريف المصري)، ثم انتقلت إلى القاهرة وبدأت الغناء على مسرح «البوسفور»، حين بدأ نجمها بالبزوغ لتتحول بالتدريج إلى ما صارت عليه فيما بعد.
إذا اعتقدت في غياب أي صلة بين «الست» وياسمين حمدان، فعليك أن تفكر مجددًا. صارت أم كلثوم نجمة قومية، ولم يقتصر مشوارها الفني على الغناء، بل مثَّلت في عدة أفلام، وأثبتت ذكاءً نادرًا في النواحي التجارية المتعلقة بفنها.
تنقل حيدر عن حمدان قولها إن «الوحدة العربية تجسدت في صوت أم كلثوم»، فقد غنت بصوت المشاعر الوطنية الفياضة عند الناس في فترة حكم جمال عبد الناصر.
أنا ما عندي حل: ما يربط ياسمين حمدان بأسمهان
ﻻ يبدو أن الذكاء والموهبة والشخصية القوية قد انتهت عند زمن أم كلثوم، وإذا اعتقدت في غياب أي صلة تربط «الست» بياسمين حمدان، التي غنت موسيقى «البوب» الإلكترونية على مسارح بيروت أواخر التسعينيات، فعليك أن تفكر مجددًا.
تعتقد حيدر أن قوة التعبير الموسيقي وصلابة الشخصية تجمع المرأتين، وتنقل عن حمدان قولها إن «النساء العرب كُنَّ دائمًا نشطات في حقل الثقافة، وقد عملن منذ العشرينيات كمنتجات أفلام، كما اشتغلن مغنيات وراقصات ومصممات رقص (Choreographer) وكُتَّابًا لفترة أطول كثيرًا».
بالإضافة إلى أم كلثوم، ترى حيدر أن أسماء مثل ليلى مراد وأسمهان وغيرهما تشكِّل الجذور العميقة للأصوات النسوية الحادة في الموسيقى العربية اليوم، فلا تزال أغانيهن تحظى بشعبية كبيرة، وتُعدُّ من الكلاسيكيات التي تعيد فنانات شابات مستقلات غناءها باستمرار، ويتردد صداها في برامج اكتشاف المواهب مثل «Arab Idol» و«The Voice»، كما أعادت حمدان إحياء مجموعة منها في ألبومها «يا ناس»، الصادر عام 2013.
تحكي المغنية اللبنانية أن سماعها أغنية أسمهان «يا حبيبي تعال الحقني» في ملهى ليلي ببيروت في الرابعة صباحًا كان يشبه تجربة دينية عميقة، كانت «بديعة وبليغة وعاطفية، كما كانت معقدة وحداثية بالنظر إلى وقت إنتاجها».
تركز حمدان في موسيقاها على الصوت النسائي، وتخبر حيدر أن شخصيات أغنياتها تجمع الكثير من التناقضات. تقول ضاحكةً: «أحب التعبير عن ذوقي الذي يميل إلى غياب الكمال. الشخصيات التي أغني بصوتها قوية ومهزوزة في آن واحد، وأرى هذا جميلًا».
كان اختيار ياسمين حمدان أن تغني «البوب» بالعربية أواخر التسعينات قرارًا ثوريًّا بالنسبة لجيلها، الذي لم يبحث عادةً عن هذه المساحة الأصيلة للتعبير، واكتفى بتبنٍّ كامل للصيغ الشرقية التقليدية، أما هي، وغيرها من الفنانات المشابهات، فتجاوز تمردهن الغناء والكلمات، وامتد إلى المظهر وطبيعة الجمهور.
أنا أحرار مايخافوش: آمال المثلوثي تصل إلى العالمية
ذات يوم، وقفت آمال المثلوثي تغني أمام جمهور من المتظاهرين التونسيين خلال انتفاضة 2011. وصل صوتها إلى معظم أنحاء الوطن العربي عبر وسائل التواصل الاجتماعي، ولُقِّبت بـ«صوت الثورة التونسية»، كما تحولت أغنيتها «كلمتي حرة» إلى أنشودة للثوار، وانتهى بها المطاف تغنيها في حفل جائزة نوبل للسلام عام 2015.
عندما تغني امرأة بالعربية تفشل في الانتشار، إلا إذا وظَّفت صوتها في سياق غرائبي أو مع موسيقى راقصة.
تعيش المثلوثي حاليًا في مدينة نيويورك، وتؤكد لأروى حيدر أن مشكلة المغنيات العرب ليست في الكَمِّ، بل إن «الصعوبة الحقيقية تواجه هؤلاء اللاتي يحاولن إنتاج فن مستقل ومختلف».
تسعى المغنية التونسية في ألبومها الثاني «إنسان»، الذي صدر أخيرًا، إلى التأمل في تناقضات المجتمع العربي/الإسلامي المعاصر، والبحث عن طريقة للتواصل مع التراث وإضفاء لمسة شخصية عليه.
لدى آمال حضور عاصف على المسرح حين تغني، وهو ما يفسر شكواها من أن «العالم العربي يتمسك بمعايير صارمة للغناء الجيد». تؤكد أن هذا أمر حسن، لكن الموسيقى الرائجة تسلك منهجًا تقليديًّا للغاية، وهو ما يصعِّب على الفنانات التمرد على قالب الرصانة والهدوء المميز لها. ورغم ذلك، تشير المثلوثي إلى تأثرها بأصوات كلاسيكية كثيرة، على رأسها فيروز والشيخ إمام.
عندما تغني امرأة باللغة العربية فإنها تفشل في الانتشار، إلا إذا وظَّفت صوتها في سياق غرائبي أو مع موسيقى راقصة. هذا ما تراه آمال المثلوثي، بينما تعتقد أنه «يجب علينا كعرب أن نجعل تعبيرنا الفني بصوتنا الخاص».
أنا مش بغني: مريم صالح تكسر النمط
من أجل كسب استقلالهن وتحقيق اتصال بجذورهن، مع الحفاظ على صوت شخصي، تلجأ كثير من الفنانات العرب إلى التغريد خارج السرب، وفقًا لحيدر، ولهذا يزدحم مسرح الموسيقى العربية المستقلة بصور وأصوات مناقضة للـ«بوب» العربي المنمَّق والقابل للاستهلاك.
إحدى هؤلاء هي مريم صالح، المغنية والملحنة المصرية، التي قالت لأروى حيدر إن مجرد وجودها كامرأة في مجال الموسيقى العربية المستقلة يمنحها شعورًا بالقوة، لأنه مجال يعاني فقرًا في الإمكانيات مثل المسارح وشركات الإنتاج.
تختلف صالح مع حمدان في إعجابها بأم كلثوم، إذ ترى أن الأخيرة كانت موهبة موسيقية وتجارية حقيقية، لكنها أساءت الاختيار بانحيازها إلى السلطة.
تعتقد مريم أن صوت أم كلثوم، واختيارها لأغنياتها وإخراجها لها، بالإضافة إلى تحالفاتها الفنية، كل ذلك كان من أجل هدف واحد: تحويلها إلى أيقونة ومؤسسة، أما فنانات اليوم فهن مستقلات بحق، كما أنهن يؤلفن وينتجن أغانيهن، وتستعين صالح بـكاميليا جبران مثالًا على ذلك.
تقدِّم مريم صالح موسيقى تدمج فيها كلماتها الخاصة بشعر عربي قديم ومعاصر، كما في أغنية «طول الطريق»، لأنها تنجذب إلى «الكلمات التي تعبر دون موارَبة عن مشاعرنا العادية، كلمات تشبه الألغاز؛ تحمل سخرية بقدرٍ ما، لكنها تلمس جوانب شديدة الشخصية من حياتنا».
إنني أعطيتُ ما استبقيت شيئا: فهل تسمع الموسيقى المستقلة؟
«سهَّلت وسائل الاتصال الرقمية انتشار الموسيقى العربية المستقلة كثيرًا، لكنها رغم ذلك لا تَلقى اهتمامًا من وسائل الإعلام».
تقول هذا سارة المنياوي، التي أسست شركة «سمسارة»، وهي مؤسسَّة لإدارة الأعمال والعلاقات العامة تتعامل مع الفنانين المستقلين.
تؤكد المنياوي لحيدر أن الإعلام الجماهيري لا يلتفت إلى الموسيقى العربية المستقلة، أو أي موسيقى أخرى بلغة غير الإنجليزية، إلا ربما في سياق سياسي أحيانًا، ويستوي في ذلك الفنانون من الرجال والنساء، ولهذا يروِّج المغنون والمغنيات المستقلون لأعمالهم عبر الإنترنت، الذي يسمح بخروج نساء مستقلات ذوات أصوات قوية للتعبير عن واقعهن وأحلامهن بوضوح ودون تجمُّل.
ربما تغير الزمن الذي سمح لأسمهان وليلى مراد وغيرهما بالانتشار، لكن لو عاشت إحداهما بيننا الآن، هل كانت لتختار أن تغني مع ماجدة الرومي أو أصالة؟ أم تقودها شخصيتها المستقلة إلى التحرُّك بصخب على المسرح إلى جوار ياسمين حمدان؟