هذا الموضوع ضمن هاجس «المغامرة». اقرأ موضوعات أخرى ضمن الهاجس من هنا، وشارك في الكتابة من هنا.
العواقب النفسية هي سبب حذرنا، في أغلب الأوقات نميل إلى تكرار أفعال نطمئن إليها، المغامرة كسرٌ لطريقنا الآمن وذهابٌ إلى مناطق لديها القدرة على العصف بكياننا. ومن هذا المنطلق، فالمغامرة هي الموافقة على الالتقاء بالكوابيس وجهًا لوجه.
يبدأ الإنسان حياته بالاعتقاد أنه أمير في العالم، وأسرته وعائلته مجموعة من الملوك العِظام، والعالم الخارجي صغير لا يداني عظمته وعظمة أعمامه وأخواله وأقاربه. يقضي الإنسان سنوات الطفولة متسلحًا بهذا الاعتقاد وعنده تلك الشجاعة، لو أراد أن يكون حاكم هذه الدنيا فلن يوقفه شيء.
بعد الاصطدام بصلابة العالم في مرحلة المراهقة والهزيمة، ينتقل الإنسان إلى مرحلة العقل والنضج، بالتسليم أن لا شيء خارقًا يميزه ويميز أسرته وأعمامه، يجد أن ملايين البشر في الأرض لديهم بالضبط ما عنده، فيطأطئ رأسه حينها ويبدأ في مصاحبة البشر الآخرين ومصادقتهم والاقتراب منهم عقب تبدد أحلامه، وقد أصبح يراها أوهامًا من الطفولة. المغامرة آخر محاولات التحدي لإثبات أن العالم الراحل كان صادقًا، والمشاعر التي احتواها كانت حقًّا.
الملاحم الكبرى في التاريخ والأدب تتبع ذلك الخط الرمزي في تسلسل فصولها. تبدأ الملحمة بوصف العائلة وهي في عزة وفخر، يؤدي إليهم من حولهم مراسم الاحترام، ثم تحل النكبة ويعانون القهر والشتات، بعدها يأتي البطل ليعيد السيادة إلى العائلة، فيغدون ملوكًا على الدنيا كما كانوا بداية الأمر.
في ملحمة كربلاء، يجاهد الحسين بن علي مع إخوته لانتزاع المُلك من الطغاة وتوجيه الحياة إلى سابق عهدها في زمن جدهم النبي محمد. وفي السيرة الهلالية، يواجه أبو زيد وعائلة المصائب في الشتات في تونس بعد أن تركوا الحجاز مكان إمارتهم. وفي ملحمتي «الحرافيش» و«أولاد حارتنا»، كان غرض كل واحد من أبطال نجيب محفوظ تغيير الحارة والوصول إلى حلم الجد المؤسس، عاشور الناجي والجبلاوي وإنفاذ إرادته.
باختصار، هكذا تجري الملاحم، وأشهرها الآن مسلسل «لعبة العروش» وفيلم الكارتون «The Lion King»، مرحلة شتات وامتزاج بالعالم ثم رجوع بالمجد، عودة عالم الأساطير، العالم الأول، عالم الحق، عالم الطفولة.
سنفحص في هذا الموضوع فيلمين يندرجان تحت عنوان أفلام المغامرة النفسية، التحدي الذي يواجهه البطل يتمثل في هجوم الماضي على الذهن، فيتجه الإنسان نحو التيه والهذيان.
8½: «صَبّت عليّ مصائب لو أنها صُبّت على الأيام صرن لياليا»
فيلم «8½» عن داخل الإنسان لا الأوضاع الموجودة في الخارج، والزمن الذاتي البادئ منذ الطفولة، والبيت والمدرسة، لا الزمن المادي والحرب وهزيمة الفاشية.
يدخل «غودو» ليلًا إلى غرفة موظفيه فيجد أحدهم بملابسه الداخلية، يسمع غودو صوتًا في الداخل فيخبره الموظف أنهما ابنتَيْ أخته، يدخل الغرفة التي يأتي منها الصوت فيجد ابنتي أخت الموظف بقميص النوم تقفزان على سرير، ثم تقول إحداهما: «صديقتي تقول إنك لا تستطيع إخراج أفلام رومانسية، هل هذا صحيح؟». يخرج غودو من غرفة الموظفين فيجد مساعده العجوز غاضبًا ويبدأ في الصياح في وجهه دون سبب، يجلس على الأرض ويدع العجوز يفرغ ما في جعبته. ماذا فعل غودو كي يعامله الآخرون بتلك العدوانية؟
يوصف فيلم «8½» للمخرج الإيطالي «فيدريكو فيلليني» بالشاعرية. الشعر هو تجريد العالم من المنظومة المعرفية اليومية التي يستخدمها الناس لوصف جوانب الحياة، هو إظهار العالم دون غطاء، كشيء جديد يراه الإنسان لأول مرة ولا يعرف اسمًا له. تصوير الفيلم لا يدعك وشأنك، يمسك بك ويشدك نحو وجوه تتكلم كثيرًا ثم تختفي من أمامك، كأنك طالب في أول يوم في المدرسة، كل شيء غريب، تهددك غرابته، لذلك أتى وصف النقاد للفيلم بالشاعرية، إلى جانب وجهة النظر الذاتية للأحداث المصنوعة من أحلام يقظة ومشاعر خوف ورعب وذكريات طفولة ورغبات محبوسة في الداخل، تنتظر الزمن المناسب.
الفيلم عن داخل الإنسان لا الأوضاع الموجودة في الخارج، والزمن الذاتي البادئ منذ الطفولة، والبيت والمدرسة، لا الزمن المادي وإيطاليا ما بعد الحرب العالمية الثانية وهزيمة الفاشية.
يدور «ثمانية ونصف» عن مخرج (غودو) في أثناء إعداده لصناعة فيلم ولقائه مع الممثلين والنقاد والمنتج. وقت الفيلم هو المدة الزمنية التي يستغرقها غودو لحزم أمره والاستقرار على رؤية ما سيكون عليه فيلمه. أزمة صناعة الفيلم تتحول إلى أزمة ذاتية يفكر فيها غودو في حياته وزوجته وعشيقته، وفي الدِّين.
في أول الفيلم نرى غودو مريضًا وينصحه الطبيب بالذهاب إلى منتجع صحي للاستجمام، وخلال رحلته لإعداد الفيلم سيقابل الأشخاص المهمين في حياته، سواء في الحقيقة أو في خياله الخاص، كأن إعداد الفيلم هو يوم الحساب الخاص به. يقابل غودو الجميع، يريد أن يعرف أي خطأ ارتكبه؟ أي لعنة رماها أحدهم تمنعه من بدأ فيلمه الجديد؟
الفيلم سوداوي كوميدي، فيلم عن الاكتئاب أو الميلانخوليا، الشعور بالكارثة، بالدوار، الشعور بقلق مبهم، بالهم يَغشَى الإنسان، الشعور بمصيبة تحدث في الداخل، بألم أسنان لا يشعر به سواك، يشبه أفلام «وودي آلن» في تشاؤمه وثرثرته التي لا تنتهي، فيلم وجودي عن الغربة ودخول الإنسان مرحلة النضوج.
في بداية «8½»، يذهب غودو إلى منتجع صحي كل من فيه من كبار السن. هذه البداية كأنها الحل الذي يرفضه البطل، الباب الذي لا يريد دخوله. شعوره بالغربة ناتج من معاملة المحيطين به على أنه شخص كبير ومشهور، من حوله يحتاجون منه كذا وكذا، في الوقت الذي يشعر هو أنه بحاجة إلى الشخص أو المرأة التي يطلب منها هو كذا وكذا وكذا.
أماكن الفيلم واسعة جدًّا، كثير من مَشاهد الفيلم يحدث في الفراغ دون حوائط، كأنها من مُخَيّلة الإنسان التي تفشل في محاكاة الواقع.
الكاميرا في فيلم «8½» مثل طفل صغير يحاول ملاحقة ما يحدث. التصوير يتبع الأحداث أو يتبع الصوت، نجد شخصًا يتكلم فتستدير الكاميرا لنرى من يتحدث.
في مشهد التقاء زوجة غودو بالعشيقة، ستجد المقهى الذي تلتقيان فيه متصلًا بالشارع (كأن المخرج يكره الأفلام ويكره الاستوديوهات، ويريد على الدوام أن يكون في الخارج، في العالم)، والمقهى فيه عشرات الطاولات الخالية، طاولات بمفارش نظيفة وكراسي منظمة بأفضل نظام، الطاولة الوحيدة المشغولة هى طاولة البطل.
أضفى هذا الأسلوب على الفيلم جوًّا ميلودراميًّا كابوسيًّا، كأن الأحداث لا تقصد سوى الإيقاع بالبطل، المقهى موجود ليقع غودو في المأزق وتلتقي زوجته بالعشيقة السرية، يرى غودو ذلك يحدث أمامه ولا يملك سوى الصمت والاعتراف بنجاحهما في إيقاعه في الفخ.
تصوير الفيلم لا يتبع النمط الشارح أو كُلِّي المعرفة أو الرواية الاستذكارية للأحداث، الكاميرا حاضرة كأنها لا تعلم ماذا سيحدث ولم يُطلعها أحد على سيناريو الفيلم، الكاميرا مثل طفل صغير حاضر بجوار البطل يحاول ملاحقة ما يحدث. التصوير يتبع الأحداث أو يتبع الصوت، نجد شخصًا يتكلم فتستدير الكاميرا لنرى من يتحدث، نَجَمَ عن ذلك شعور المُشاهد بمزامنة أحداث الفيلم، بوقوعها الآن، يشعر المُشاهد بالتوتر طول المشهد لأن عينه لم تُحِط بنواحي المَشهد، ربما يظهر شخص من وراء ظهره أو تفوته رؤية شيء مهم، يتوسل المُشاهد للكاميرا والبطل أن يأخذا حذرهما.
من الممكن اعتبار «ثمانية ونصف» أكثر فيلم رومانسي في السينما الواقعية. الأفلام الأخرى تعرض إعجاب البطل بالحبيبة لجمالها أو رقتها أو أي شيء آخر، هذا الفيلم يوضح مكانة المرأة في حياة الرجل. دومًا، وفي أي ظرف، تظهر المرأة كحل لا يأتي، كنهاية سعيدة لا تحدث. غودو يحب حبيبته، ويحب عشيقته، ويحب ويحب في أي مكان يذهب إليه، تأتي في ذهنه عند أحلك الأوقات صورة امرأة يتمناها تنظر إليه وتبتسم.
عرض الفيلم خيال الرجل بأنانيته. في مشهد فنتازي، يتخيل البطل في حلم يقظة أنه عائد إلى المنزل في يوم كأنه يوم الكريسماس والثلوج تتساقط، وفي المنزل كل الفتيات اللاتي أحَبّهن، وقد أحضر لهن الهدايا من الخارج كأنه أب. تساعده اثنتان من الفتيات في خلع عباءته، ثم تُعِد له الفتيات حمامًا وتصببن عليه الماء وهو مستلقٍ في الحوض يدندن أغنية. بعد الحمام، يجلس مع الفتيات إلى المائدة ويجد زوجته تعترف أمامه أنها هي المخطئة، ومن الآن فصاعدًا ستكنس وتمسح وتطبخ كما كانت النساء تفعلن قديمًا.
ينتهي الفيلم بلحظة إلهام للبطل، بلحظة إشراق، بلحظة حقيقة، فبعد كل الإخفاقات يسترد غودو رُوحه مرة أخرى، يسترد شجاعته، يرجع شخصًا خيِّرًا جميلًا، كأن ما حدث هدفه إيقاظه كي لا يستسلم ويهبط إلى عالم الأموات، نشعر بذاتنا فقط عند الفرح العظيم أو الكرب العظيم. بعد مهاجمة القوة المظلمة لغودو، بعد أن ضيّقت عليه الخناق ودفعته نحو الزاوية، يستحضر كل من أحبهم في الحياة لمساعدته، يستحضر غودو الطفل وأباه وأمه وزوجته وعشيقاته ومنتجه وممثليه، يقف وسطهم وينادي ببدء التصوير.
اقرأ أيضًا: 6 أفلام تطرح أسئلة فلسفية غير متوقعة
Vertigo: «تَذكّر إنت مين.. إنت الملك الحقيقي»
«Vertigo» فيلم للمخرج الأمريكي «ألفريد هيتشكوك»، عن زوجة مسكونة بروح امرأة من القرن التاسع عشر. تكرر الزوجة بطريقة لا إرادية ما فعلته المرأة الميتة، تذهب إلى الأماكن التي ذهبت إليها، وتربط شعرها الطريقة نفسها.
ربما يقول أحدهم إن هذا الفيلم عن شخص مريض بالخوف من الأماكن المرتفعة، بالطبع هذا غير صحيح، أي قصة عبارة عن حدث غريب، وبما أن الحدث الأكثر غرابةً هو عودة امرأة من القرن التاسع عشر إلى الحياة في جسد امرأة أخرى، فهذا الحدث هو الأجدر بوصف موضوع القصة.
«Vertigo» أول فيلم يستخدم تأثير «دوللي زوم»، استخدمه ليوضح شعور الضابط «سكوتي» بالدوار في الأماكن المرتفعة. هذا التأثير يحاكي حركة عين الإنسان، عند شعورك بالخطر تقفز عينك إلى مكان الخطر، يُسرع البصر نحو المكان الأحق بالاهتمام. والعكس، عند الفزع ترتد إلى نفسك وتتوقف عن رؤية العالم.
هذه المحاكاة استخدمتها المدرسة الانطباعية عند رسم وجوه الأشخاص، جعلت وجوههم مشوشة غير واضحة. كانت ملاحظة جيدة من المدرسة أن الإنسان لا يرى ملامح الأشخاص بوضوح، خصوصًا لو كان وسط جمع من الناس أو يراقب المشهد من منطقة بعيدة.
الفيلم مضمونه ينتمي إلى المدرسة التعبيرية، على الأقل نصفه الأول. المدرسة التعبيرية مثل لوحة «الصرخة» لـ«إدفارد مونك»، التي تصور شخصًا واقفًا على جسر في حالة فزع، يحيط وجهه بيديه كما لو كان يريد حماية وجهه من خطر لا يُتصور. هذه اللوحة ستصير أشهر لوحة معبرة عن الرعب، كأنها طلب استغاثة من المجهول أو من الماضي، أو من أي شيء يهتم بهذا الكائن المسكين.
«فيرتيجو» فيلم عن العظماء، مادلين سيدة عظيمة تفعل شيئًا فوق قدرة البشر، شيئًا لا يستطيع أحد إدراك حدوده.
«فيرتيجو» له جَو مشابه، سيدة تُدعى «مادلين» مسكونة بروح جدة لها كان اسمها «كارلوتا»، جدة انتحرت في القرن التاسع عشر في سن السادسة والعشرين. تعود روح الجدة لتسكن وتتلبس جسد وحياة مادلين، التي تحاول مواجهة هذه الروح. قوة تأثير الفيلم يأتي من هذه العلاقة، مادلين في مواجهة جدتها ومواجهة الماضي.
يُعَبر الفيلم عن خوف الإنسان من الأقارب، من العائلة، فقبل كل شيء، العائلة سبب وجوده، موجودون قبل ولادته، وعندما كان رضيعًا لا يدرك شيئًا. يخاف الإنسان أن هؤلاء الأقارب وضعوا داخله شيئًا هو سبب ما يشعر به، وسبب الأزمات التي تواجهه واحدةً تلو الأخرى. لوحة الصرخة يمكن فهمها بأن الشخص الواقف فوق الجسر يتخيل أباه أو أمه أو جده أو جدته أو إخوته أو واحدًا من أقاربه ينظر إليه، يَدّعي هذا الشخص الجنون ويشرع في فعل تصرفات غريبة كي يتدخل واحد من الناظرين إليه وينقذه.
«فيرتيجو» فيلم عن الأشخاص العظماء، مادلين سيدة عظيمة تفعل شيئًا فوق قدرة البشر، شيئًا لا يستطيع أحد إدراك حدوده. الضابط سكوتي يقع في حبها لشعوره بهذه العظمة والأصالة، شعوره بامتلاك مادلين للأشياء التي لا اسم لها، غير الموجودة في كلام الناس.
السيريالية سر جمال الفيلم، ذاك الجمال العظيم، السيريالية فَهِمَها روادها على أنها محاكاة الأحلام واستخراج المكبوت في اللاوعي، السيريالية هي عرض العالم كما كان يظهر للطفل، الأعمال السيريالية تشعر وأنت تشاهدها أنك تفكر في أشياء انقطعتَ عن التفكير فيها منذ وقت طويل، أشياء مهمة جدًّا نسيتها.
عرض «فيرتيجو» العالَم العجيب الذي لا يريد أن يظهر في العالم الواقعي.
في أحد مشاهد «Un Chien Andalou» (كلب أندلسي)، الفيلم السيريالي الشهير، يقف صبي في الشارع ويحرك بعصا يدًا مقطوعة ملقاة على الأرض، والناس تتجمهر حوله والشرطة تمنعهم من الاقتراب من الصبي. هذا المشهد يشابه ما كان يتوقع الطفل رؤيته عند الذهاب إلى مكان جديد، وعند التعرف إلى أشخاص غرباء.
في فيلم «فيرتيجو»، نرى امرأة تذهب إلى متحف وتربط شعرها مثل سيدة مرسومة في لوحة من لوحاته، نرى هذه المرأة تذهب نحو البحر ممسكةً بباقة زهور، ثم تقفز فجأةً في البحر، هذا يماثل نظرة الطفل عن العالم والمرأة.
عرض الفيلم العالَم العجيب الذي لا يريد أن يظهر في العالم الواقعي، وللفيلم تجربة شفائية مثل فترة نقاهة، كونه يجعل هذا الطفل يتلبّسكَ ويسكن في جسدك، تحس به حاضرًا من جديد فتشعر بالجمال.
الواقع ليس أشد المعجبين بالفانتازيا
الفيلسوف وعالِم الاقتصاد السياسي الأمريكي «فرانسيس فوكوياما» أرجع أزمة السياسية في الولايات المتحدة إلى تقيدها بشكل الحزبين الرئيسيين: الجمهوري والديمقراطي، ويؤكد أن التاريخ يهم في هذه الحالة.
وعلى نفس الأساس، لم يتجاوز «فيرتيجو» العصر الذي خرج فيه، وانتهى نهاية مخيبة للآمال للمشاهدين الراغبين في التغيير، نهاية مُرضية لعموم الجمهور، تُشعرهم أنهم فهموا الآن ما يدور حوله الفيلم، يستطيعون الآن إدخاله ضمن نموذج يعرفونه. تَقيّد الفيلم بتيمات راسخة في السينما الأمريكية في ذلك الوقت، تيمات تعطي معنًى محددًا لِما هو الفيلم، التاريخ يهم في السينما أيضًا.
كان عليك أيامها تقديم قبلات وأحضان في الفيلم، والتركيز على دور الحب الرومانسي والغضب الرجولي الذي يُعيد الأمور إلى نصابها، ويجب أن تُشعر المُشاهد بالتوتر قبل نهاية الفيلم وخروجه من قاعة السينما. هنا يتحول المخرج إلى موظف ملاهي مسؤول عن لعبة «رولر كوستر».
فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية في أمريكا تميزت بازدياد الطبقة المتوسطة والمتخرجين من الجامعات، ما جعل إنتاج فيلم يحتوي على رموز وإشارات أدبية أمرًا ممكنًا، لكن ليس تمامًا.
كحال فترة الخمسينيات، يتذبذب «فيرتيجو» بين الوطنية الأمريكية والليبرالية الفردية. في أول الفيلم، يُسرّح البطل من خدمته كضابط، هذه أول نقطة، كأنه لو بقي في الشرطة لما وقعت كل الأشياء الغريبة. صديقة عمره فنانة تشكيلية يستمتع بالحوار معها، لكن ليس إلى الحد الذي يدفعه إلى الزواج بها. ومثل فيلم «Psycho» للمخرج نفسه هيتشكوك، بعد حادث الانتحار في الفيلم يأتي مشهد لمسؤولين حكوميين يعلنون حقيقة ما حدث.
يتكرر هذا المشهد في فيلم «The Birds» لهيتشكوك أيضًا، حين يهرع أهل البلدة للاستماع إلى المسؤولين في الراديو ومعرفة كيف سيتصرفون. هذا المزيج من الخروج الفردي عن المجتمع ثم الرجوع إليه سالمًا قدمته السينما المصرية في التسعينيات في عدد من الأفلام، مثل «حنفي الأبهة» و«الإرهاب والكباب»، وكذلك في الأفلام التي صنعت شهرة أحمد زكي ونور الشريف، مثل «ضد الحكومة» و«أقوى الرجال».
فيلما «فيرتيجو» لهيتشكوك و«8½» لفيلليني يُظهران قوة الرغبة، غواية الحب، غواية المرأة، يصير الرجل مستعدًّا لترك معرفته اليقينية بالعالم والإيمان بالحب، الإيمان بعالم متصل بقلبه، بضميره، بمشاعره. المغامرة غزوٌ للعالم خارج الفرد، الذكريات والمشاعر جنوده في الحرب، يواجه الدنيا وكأنه قائد جيش بفيالق وكتائب لا عدد لها ولا حصر.