هل تشفينا الكتابة؟
يرى كثيرون في الكتابة تنفيسًا عن غضبهم أو حزنهم، وقبل عصر فيسبوك، وحتى بعد ظهوره، كان هناك من يجدون في الورقة أفضل أذن يمكنها أن تسمع ما لا يستطيعون البوح به لأي شخص آخر.
في حين يمارس هؤلاء عملية الكتابة بغرض التنفيس دون التفكير كثيرًا في المسألة، يحاول علماء النفس الوصول إلى الرابط بين الكتابة والراحة النفسية. فإلى أي مدى يمكن أن تؤثر الكتابة على صحة الكاتب النفسية والبدنية؟ حاول مقال منشور على موقع «BBC» اسكتشاف هذا السؤال وإجابته.
الكتابة: تجربة نفسية
يهتم العلماء بالعلاقة بين الكتابة التعبيرية وأداء المناعة، مع التركيز على أمراض مثل الصداع والأزمات الصدرية والسرطان.
في عام 1986، أجرى أستاذ علم النفس «جيمس بينيبكر» تجربة على مجموعة من طلابه، كشفت له كثيرًا من الحقائق المهمة.
طلب بينيبكر من عدد من الطلبة أن يقضوا 15 دقيقة يكتبون فيها عن أسوأ صدمة مروا بها في حياتهم، أو أقسى لحظات عاشوها، وأن يكتبوا أصعب التفاصيل، حتى تلك التي لم يجرؤوا أن يحكوها لأحد من قبل.
كرر الباحث الأمر نفسه بعد مرور أربعة أيام، لكن الأمر لم يكن بالسهولة التي يبدو عليها، إذ بدأ واحد على الأقل من كل 20 طالبًا في البكاء خلال الكتابة، لكن الغريب أنه عندما سأل من يبكون إذا كانوا يرغبون في المواصلة أم لا، كانوا دائمًا يختارون مواصلة التجربة.
في الوقت ذاته، كانت هناك مجموعة أخرى من الطلاب تمارس تمرين الكتابة لنفس المدة، لكنهم كانوا يكتبون ليصفوا الأشياء المحيطة بهم، وليس مشاعرهم.
كان هذا الجانب الأول من التجربة فقط، أما الثاني فنفذه بينيبكر بنفسه، إذ كان يتابع لمدة ستة أشهر مدى تردد هؤلاء الطلبة على العيادات الطبية في الجامعة، ووجد أن الطلاب الذين كتبوا عن لحظات حياتهم القاسية طلبوا استشارات طبية أقل من غيرهم.
منذ ذلك الوقت، بدأ اهتمام باحثي علمي النفس والأعصاب بالعلاقة بين الكتابة التعبيرية وأداء الجهاز المناعي، مع التركيز على عدة أمراض، مثل الصداع والأزمات الصدرية والسرطان. وفي بحث لاحق، ظهر أن المصابات بسرطان الثدي يعانين من متاعب مرضية أقل في الشهور التي تلي ممارستهن للكتابة التعبيرية عن مشاعرهن.
يلفت المقال انتباهنا إلى أن النتائج لم تأتِ إيجابية في كل مرة بالتأكيد، لكن لا يجب أن ننسى أننا نتحدث عن تجربة، أو علاج، لا يكلف المريض أي شيء مطلقًا، وبالتالي فإن أي نتيجة إيجابية ستكون أمرًا جيدًا.
قد يهمك أيضًا: بلاسيبو: هل تصلح الأدوية الوهمية كعلاج للأمراض؟
الكتابة تشفي الجراح
بينما ركزت التجارب السابقة على الجانب النفسي للمرضى، قرر آخرون الذهاب إلى تجربة ملموسة ومؤلمة بدرجة أكبر، فأجروا تجربة على عدد من المتطوعين، عرَّض الباحثون كُلًّا منهم لجرح بسيط أعلى باطن ذراعه، وكان المُتوقع أن يلتئم الجرح خلال أسبوعين تقريبًا.
تابع الباحثون التئام الجرح بدقة، وكانت النتيجة أن من كانوا يكتبون أسرارهم التأمت جراحهم بسرعة أكبر.
هكذا بدأ البحث عن السر وراء هذا التأثير الإيجابي للكتابة على عمليات الشفاء، وغلب الظن في البداية أن السبب هو تنفيس المرضى عمَّا في داخلهم بالكتابة، لكن هذا الاستنتاج لم يرضِ بينيبكر بما فيه الكفاية، لذا بدأ يتعمق في دراسة الطريقة التي يستخدمها المرضى في الكتابة.
لاحظ بينيبكر أن بعض التعبيرات المستخدَمة تتغير بمرور الوقت، فمن التأمت جراحهم أسرع كانوا قد بدؤوا الكتابة باستخدام الضمير «أنا»، ولاحقًا تحولوا إلى ضمائر الغائب «هو» و«هي»، وكأن منظورهم للأمور يتحول بالتدريج ليصبح أقل تمركزًا حول ذواتهم.
كذلك، كان المتطوعون يكثرون من استخدام لفظ «بسبب»، وكأنهم يحولون مواقفهم إلى حكايات، يحاولون فهمها وترتيبها بصورة منطقية، ومن هنا استنتج بينيبكر أن تحويل مشاعرنا الشخصية إلى قصص يؤثر بطريقة ما في الجهاز المناعي.
تذكُّر الأمور الصعبة يؤدي لإفراز هرمونات تقاوم الشعور بالضغط، ممَّا يؤثر بالإيجاب في الجهاز المناعي.
يبدو أن الفكرة لا تتعلق إذًا بحل مشكلات الماضي، بقدر ما تتعلق بتجربة إعادة ترتيب عواطفنا.
لكن الأمر لا يسير بالطريقة نفسها مع كل المرضى، بل يتوقف على كيفية تفاعل المريض مع التجربة، وكذلك اختياره للتوقيت. فمثلًا، في حالة استخدام الكتابة ثم الشفاء بسرعة، لا يعني هذا أن تكرار الأمر نفسه بعد عدة شهور سيأتي بنفس النتائج حتمًا.
قد يعجبك أيضًا: ثلاث أفكار غير منطقية تجعل حياتنا صعبة
سر الكتابة
يقدم المقال رأيين يحاولان تفسير التأثير الذي تتركه الكتابة في المرضى. الأول يرجح أن تذكُّر الأمور الصعبة يؤدي إلى إفراز الهرمونات الخاصة بمقاومة الشعور بالضغط، مثل «الكورتيزول»، ممَّا يؤثر بالإيجاب في الجهاز المناعي، فيما يذهب الرأي الثاني إلى أن الكتابة المتكررة لعدة أيام هي نفسها ما يحسن الجهاز المناعي، وحتى الآن لم يُفصل بين الرأيين.
يشير المقال إلى دراسة أخرى أجريت في نيوزيلندا، اكتشفت أن تأثير الكتابة يكون ملحوظًا حتى لو بدأ المصاب يكتب قبل الإصابة، إذ ستسرِّع الكتابة معدل التئام جرحه على أي حال، ويعني هذا أن الحصول على النتائج الإيجابية للكتابة يمكن أن يحدث بطريقتين: أن يلجأ إلى الكتابة مَن هم على وشك إجراء عملية جراحية، أو يلجأ إليها من أصيبوا بالفعل، إذ يبدو تأثيرها ملحوظًا في الحالتين.
تظل هذه التجارب حبيسة المعامل رغم نتائجها الإيجابية، ولا نزال في حاجة إلى مزيد من التجارب والآراء القاطعة. لم يستخدم أحد هذا الأسلوب كعلاج رسميًا، لكن من يدري، فربما نعيش زمنًا تعطينا فيه الممرضات ورقة وقلمًا قبل أن ندخل غرفة العمليات.
أندرو محسن