«أمم أمثالكم»: هل طورت الذئاب لغة كما فعل البشر؟
تأتي أصوات الذئاب وأصداؤها كأحد المكونات الأساسية لمشاهد الرعب السينمائية. فذلك الصوت الممتد وسط سكون الليل تحت ضوء القمر الخافت يكمل المشهد الذي يحبس أنفاس البشر. لكن ماذا لو كانت تلك الأصوات في الحقيقة حوارات معقدة بين هذه الحيوانات المفترسة؟
قد لا يلاحظ الإنسان العادي اختلافات جوهرية بين أصوات الذئاب، لكن هناك من المختصين من جعلوا ذلك العواء موضوعًا لأبحاثهم ليصلوا إلى حقيقة ما إذا كانت الذئاب تتبادل رسائل معينة من خلال عوائها، أم إنها مجرد أصوات عشوائية تطلقها حيوانات ألحَّت عليها غرائز الجوع والجنس.
«هولي رووت غاتريدج»، الباحثة في جامعة سيراكيوز الأمريكية، اهتمت بكشف أسرار عالم الذئاب، وأجرت دراسة نشرها موقع «Aeon» عن آليات تطور اللغة لدى الإنسان، وما يوازيها في عالم الحيوان، من أصوات نراها بسيطة، لكن حقيقتها قد تكون أكثر تعقيدًا من ما نظن.
كيف نشأت اللغة الأولى؟
دراسة الأصوات التي تتواصل بها الحيوانات مع بعضها تتعرض إلى معضلة علمية، قيل إنها الأكثر صعوبة في التاريخ، وهي معرفة كيف نشأت أول لغة في التاريخ ومتى. لكن هولي حاولت في بحثها الاستفادة من مخارج الأصوات كخطوة أولى لمحاولة فهم المعاني التي يريد المتحدث نقلها إلى المستمع.
ينبغي الإشارة هنا إلى أن السلوك الحيواني بصفة عامة لا يعتمد فقط على الفطرة التي وُلد عليها الحيوان، بل إن جزءًا كبيرًا منه يعتمد أيضًا على التعلم التراكمي من ما يشاهده الحيوان من أقرانه. وبما أن بعض الحيوانات تمارس أنشطة كنا نعتقد فقط أنها حِكر على الإنسان، مثل الزراعة لدى النمل والرقص لدى الببغاوات، فإن ذلك لا بد من أن يثير فضولنا نحو إمكانية أن يطور الحيوان لغة خاصة به.
اعتقد الإنسان في الماضي أنه المخلوق الوحيد القادر على تطوير لغته لخدمة رد فعله على بعض المشاعر، مثل الألم والرغبة في البكاء، لكن تبين أن الحيوان أيضًا لديه مرونة كبيرة في جهاز النطق، تجعله ينتقي الأصوات المعبرة عنه بعناية ليلائم كل النشاط المراد فعله.
لاحظ العلماء وجود ما يمكن تسميته باللكنات أو الاختلافات في أصوات عدد من الحيوانات التي تعيش في مناطق مختلفة، أبرز الأمثلة على ذلك الحيتان التي تنتقل أصواتها عبر مئات الأميال في الماء، وعن طريقها يعرف العلماء إلى أي منطقة ينتمي الحوت، ويتعقبون المجموعة التي يعيش وسطها.
أتاح تطور أجهزة تسجيل الأصوات، منذ ستينيات القرن العشرين، مزيدًا من التعمق في دراسة أصوات عواء الذئاب، وتبينها، مثل الإنسان، لكلٍّ منها صوت خاص به، وأصوات المجموعة الواحدة تتشابه إلى حد ما في ما بينها، حتى إن الذئب يمكن أن يستجيب بشكل أفضل للأصوات القادمة من مجموعته.
الذئاب: فِرق موسيقية
«إريك كيرشنباوم»، عالم الحيوان في جامعة كامبريدج، حاول التوصل إلى إجابة عن سؤال: هل هناك معانٍ ثابتة لأصوات العواء يمكن أن يتعرف عليها ذئبان في قارتين مختلفتين؟
للإجابة قارن كيرشنباوم بين عواء 13 فصيلة مختلفة من ذئاب القيُّوط والذئاب العادية والكلاب وذئب ابن آوَى، وكلها يُعرَف بفصيلة الكلبيات، في دول مختلفة مثل الولايات المتحدة الأمريكية وإسبانيا وبولندا وروسيا والهند.
باستخدام تقنيات التحليل الصوتي تبين للعلماء أن لكل سلالة شكلًا مفضلًا لعوائها، يظهر في رفع درجة الصوت أو خفضها، لكن لوحظ أيضًا أنه في بعض الأحيان تستخدم إحدى الفصائل شكل العواء المميِّز لفصيلة أخرى، فيمكن تشبيه هذه السلالات بالفرق الموسيقية التي تفضِّل كل واحدة منها شكلًا معينًا في الموسيقى، لكنها قادرة على أداء أشكال أخرى أيضًا.
لوحظ كذلك أن جماعات الذئاب تتأثر بطريقة عواء أسلافها، وعواء فصيلة معينة من الكلبيات يتشابه مع فصيلة أخرى قريبة منها جغرافيًّا ووراثيًّا. فعلى سبيل المثال يتشابه عواء الذئب الرمادي الشرقي الأمريكي مع عواء الذئب الأحمر الأمريكي أكثر من تشابهه مع الذئب الأوروبي.
واصل الباحثون دراساتهم لمعرفة مدى قدرة الذئاب على الحفاظ على نمطهم الخاص في العواء رغم الاحتكاك بغيرها من السلالات، وذلك بدراسة حالة الذئاب الحمراء واحتكاكها بسلالات أخرى، مثل القيُّوط والذئاب الرمادية.
تعاني الذئاب الحمراء منذ سبعينيات القرن العشرين من تهديد الانقراض، وصار عددها أقل من 20 ذئبًا، ما استدعى جهودًا كبيرة للحفاظ عليها، لكن تلك الفصيلة التي تسكن جنوب شرقي أمريكا كان لديها ميل للتزاوج من ذئاب القيوط والذئاب الرمادية الشرقية.
أمل العلماء في أن يكون للذئاب الحمراء أسلوبها في العواء المميز عن جيرانها من ذئاب القيوط، ولو تحقق ذلك، فإنه يعني أن التواصل سيشكل حاجزًا أمام تكاثر الذئاب وتزواجها بغيرها من الفصائل، لكن ذلك لم يحدث، وتبين أن عواء الذئاب الحمراء تأثر بالذئاب الرمادية والقيوط، ومعنى هذا أن اختلاف العواء لم يشكل حاجزًا أمام إتمام عملية التكاثر بين الذئاب الحمراء والسلالاتين الأخريين.
رغم أن العواء في الأساس صوت عام لا يمكن تمييز تفاصيله بسهولة، فإن العلماء خمنوا أن هناك فروقًا بسيطة تميز بين أغراضه المختلفة، وافترضوا أن هناك عواء يطلقه الذئب بغرض دعوة أقرانه إلى الحضور في مكان واحد، أو إخبارهم بوجود طعام جيد، أو حتى إبعاد أعدائه عن نطاق سكنه.
هل يكرر الذئب تجربة الإنسان؟
يبرهن انتشار البشر في الأرض على أن المجتمع انقسم وانعزلت مجموعاته عن بعضها عدة مرات، ما أدى إلى ظهور اللهجات واللغات.
الخطوة التالية في الدراسة كانت استكشاف ما إذا كان هناك سلوكيات معينة تصاحب العواء المقصود به نقل معنى معين، وكذلك معرفة ما إذا كانت الذئاب تعلِّم صغارها مثل هذه السلوكيات، أم أنها تتعلمها بالفطرة.
العواء ليس لغة بالمعنى المعروف لنا، فهو لا يتكون من جُمل مُركَّبة وقواعد نحوية، لكن إذا نظرنا إليه على أنه مهارة قابلة للتعلم بالخبرة وليس بالفطرة، فيمكن أن تُسهم هذه الفرضية في كشف جزء من اللغز حول تطور اللغة.
يبرهن انتشار البشر في مختلف أنحاء الأرض على أن المجتمع البشري انقسم على نفسه عدة مرات، وانعزلت مجموعاته عن بعضها، ما أدى إلى ظهور اللهجات واللغات. فعلى الرغم من التباين الواضح بين اللغات، فإن هناك بعض الكلمات المستخدَمة في الموضوعات الأساسية للحياة اليومية، مثل ترجمة كلمة «الأم»، التي نجد أن قوامها الأساسي يتشابه في عدة لغات.
تزيد الاختلافات بين اللغات في ما يتعلق بالكلمات المعبرة عن أفكار أكثر تعقيدًا، ما يعني أنه عندما أخذت حياة كل جماعة من البشر تتعقد أصبحت لها مفاهيمها وطرقها المختلفة للتعبير عن تلك المفاهيم، ومن المرجح أن يكون عواء الذئاب مجرد مرآة لما حدث مع الأصوات البشرية التي تطورت في ما بعد لتصبح لغات العالم المختلفة.
رغم أن العلماء لم يجزموا بأن للذئاب لغة تشبه لغة البشر، فإنهم أكدوا أن عواء الذئب السعيد وسط جماعته يختلف تمامًا عن عواء ذلك الذئب الوحيد المشرد في البرية. لنبقى إذًا في انتظار تتبع بقية الخيط علَّنا نكشف تفاصيل حياة أمم كاملة من الحيوانات موازية لمجتمعاتنا البشرية.
أيمن محمود