ألف باء تزييف التاريخ: هكذا أصبح السفاح تشرشل داعية سلام
لم يتعثر قلم التاريخ وهو ينعت مجرمي الحروب على مر العصور بأبشع الأوصاف، والأمثلة كثيرة عمن ارتكبوا المذابح بإشارة واحدة من أيديهم، وظلت سجلات التاريخ تلعنهم، وستظل.
السير «وينستون ليونارد سبنسر تشرشل»، رئيس الوزارء البريطاني السابق، يمثل حالة تاريخية ربما تكون فريدة من نوعها، فرغم ارتكابه عددًا من الفظائع في مناطق مختلفة من العالم تجعله جديرًا بلقب «سفاح»، نجد التاريخ يخالف ضميره في التعامل مع تشرشل ويظهره في دور البطل.
لا يوجد سر وراء ذلك، فالسبب بسيط: التاريخ نفسه أصبح أداة في يد تشرشل، حسبما عرضت صحيفة «واشنطن بوست» في تقرير لها.
تشرشل: نوبل في الأدب
عندما نسمع أن سياسيًّا حصل على جائزة نوبل، في الغالب سيتبادر إلى أذهاننا أنها للسلام، لكن تشرشل رغم أنه كان على رأس حكومة إحدى الدول العظمى، حصل على نوبل في الأدب عام 1953، أي بعد توليه منصب رئيس الوزراء البريطاني للمرة الأولى، وجاءت الجائزة تقديرًا لأعماله التي تميزت بإتقان فن وصف الأحداث التاريخية.
يبدو أن تشرشل عرف مبكرًا من أين تؤكل الكتف، فكان أحد أبرز الأعمال التي رشحته لجائزة نوبل ستة مجلدات لتأريخ وقائع الحرب العالمية الثانية، التي كان هو نفسه أحد القادة العسكريين الذين خاضوها.
حصل النجم الإنجليزي «غاري أولدمان» على جائزة أوسكار أفضل ممثل لعام 2018 عن دوره في فيلم «Darkest Hour»، الذي جسَّد فيه شخصية تشرشل، لكننا نجد أن هوليوود لم تكن أقل لطفًا في تناول تاريخ الرجل، إذ وضعته في صورة «قلب الأسد» البريطاني المدافع عن الحضارة، وأبرزت قدراته الخطابية خلال الحرب العالمية الثانية. لكن الخطب الحماسية والكلمات البراقة كانت كل ما يثير الإعجاب لدى تشرشل، أما أفعاله فكانت تثير مشاعر أبعد ما تكون عن الإعجاب.
الجنس البريطاني ومن بعده الطوفان
في عام 1921، عندما كان تشرشل وزيرًا للدولة لشؤون المستعمرات، أعلن تأييده المطلق لاستخدام الغاز السام ضد من أسماهم القبائل «الهمجية» في منطقة بلاد الرافدين، التي تقع حاليًّا في العراق وسوريا وتركيا، وأمر بقصف مكثف لتلك المنطقة، ما أسفر عن محو قرية بالكامل في غضون 45 دقيقة فقط.
لم يكن أقل دمويةً في أفغانستان، فقد قال إن الجماعة العرقية المسماة «بشتون» ينبغي أن يدركوا تفوق العِرق البريطاني، وتوعَّد كل من يقاوم القوات البريطانية منهم بالقتل، دون حتى اعتقال. وأكد أن قواته تتقدم وتدمر القرى بشكل ممنهج، يهدمون المنازل، يخربون الآبار، ينسفون الأبراج، يقطعون الأشجار، يحرقون المحاصيل، يكسرون الصوامع، في أبشع صور العقاب الجماعي.
لم ينسَ تشرشل إفريقيا بالطبع، فشارك في عمليات التهجير القسري في كينيا، بالأوامر المباشرة وكذلك بدعم سياسات تخدم الغرض ذاته، وكانت النتيجة تهجير 150 ألفًا من السكان المحليين من أراضيهم الخصبة إلى معسكرات اعتقال، لإفساح الطريق أمام بناء مستعمرات للبيض. ومارست القوات البريطانية تحت حكم تشرشل مختلف أنواع التعذيب بحق الكينيين، من اغتصاب وإخصاء وصعق بالكهرباء وغير ذلك.
كان تشرشل أحد القادة الإنجليز القليلين المؤيدين لقصف المتظاهرين من أجل استقلال آيرلندا عن بريطانيا عام 1920، وقال إنه ينبغي استخدام القنابل ومدافع الرصاص الآلية لتفريقهم. وخلال الحرب العالمية الثانية، أعلن تأييده «القصف المرعب»، وقال إنه يرغب في هجمات مدمرة، بل شديدة التدمير بواسطة قاذفات ثقيلة.
حصلت الهند على نصيب الأسد من جرائم تشرشل، إذ وصف الهنود بأنهم «شعب كريه يعتنق دينًا كريهًا»، وأراد في البداية استخدام الأسلحة الكيماوية ضدهم، لكنه تراجع تحت ضغوط زملائه في الحكومة، إلا أنه انتقدهم بسبب ذلك، وقال إن حساسيتهم المفرطة في التعامل مع الهنود غير مبررة.
قد يهمك أيضًا: ربما يصبح العالم أكثر سلامًا تحت حكم المجانين
تشرشل: عنصرية.. عنصرية
كل جرائم حرب التي ارتكبها تشرشل تضع علامة استفهام على الأوسكار التي مُنحت لعمل فني جسد شخصيته.
من الغريب تجسيد تشرشل رسولًا للحرية إلى البشرية، فهو من أعلن ميثاق الأطلسي عام 1941، الذي حدد أهداف الحلفاء بعد الحرب العالمية الثانية في تحقيق سلام وفقًا لتعاون دولي، لكنه رغم ذلك استثنى الهند والمناطق التي أسماها بالمستعمرات الملونة من الميثاق، ورفض أن يتمتع «الملونون» بنفس الحقوق التي منحها لنفسه، وقال إن مذهب غاندي سيُسحق عاجلًا أم آجلًا، ما جعل السياسي والصحفي الإنجليزي «ليو أمري» يقول إنه لا يرى فارقًا كبيرًا بين تشرشل وهتلر.
اقرأ أيضًا: وجه غاندي القبيح: كره النساء والأفارقة وفرَّق بين أبناء جنسه
بسبب تشرشل، لقي نحو أربعة ملايين بنغالي مصرعهم جوعًا عام 1943، فقد أمر حينها بسلب الطعام من المواطنين الهنود الذي يتضورون جوعًا ولتوفير احتياطيات الغذاء للجنود وفي اليونان وغيرها من الدول الأوروبية، وكان رده على معاناة الهنود أنهم «فعلوا ذلك بأنفسهم، فهم يتكاثرون مثل الأرانب».
تضع كل جرائم الحرب هذه علامة استفهام عملاقة على منح جائزة عالمية مثل الأوسكار لفيلم «Darkest Hour» (أكثر الأوقات ظُلمة)، الذي جسَّد شخصية أقل ما يقال عنها إنها كريهة، فهل تكفي بعض الخطب والكلمات الحماسية المنسوبة إلى تشرشل لإخفاء شلالات الدم وجرائم العنصرية التي ارتكبها بحق الملايين في مختلف قارات العالم القديم؟ ربما يكون من الإنصاف تسمية الفيلم «أكثر الأوقات ظُلمًا».
أيمن محمود