رفاق مميزون وأزواج مرغوبون: مهارة الحكي لا تُضاهَى
يُحكى أنّ جدالًا وقع بين الشمس والقمر حول من الأكثر قدرة على إضاءة السماء. وبعد أن أثبت القمر أن لديه من القوة ما يماثل قوة الشمس، قرر الاثنان أن يتناوبا على السماء لتسطع الشمس نهارًا بينما يضيء القمر ليلًا.
هذه واحدة من القصص التي يتحاكى بها أفراد قبيلة الأغتا، التي تعيش في جزر الفلبين، وتناولتها بالدراسة «أندريا ميغليانو»، باحثة الأنثروبولوجيا في كلية لندن الجامعية، في مقالها المنشور على موقع «ذي أتلانتك».
حكّاؤون بالفطرة
الحكي سمة بشرية تظهر بشكل تلقائي في مرحلة الطفولة، وتوجد في جميع الثقافات التي عُرفت إلى الآن.
يمكننا القول إن عمر الحكي من عمر اختراع الكتابة أو العجلات، إذ تمتد جذور بعض الحكايات إلى نحو ستة آلاف عام. ويصف بعض الباحثون، منهم ميغليانو، الحكي بأنه تكيُّف بشري مهم، ووجد فريقها دليلًا على أنّ حكي القصص نشأ جزئيًّا كوسيلة لتدعيم الروابط الاجتماعية وغرس أخلاق التعاون.
تؤدي الحكايات الدور الذي لعبه الدين لاحقًا مع المجتمعات الصغيرة.
لم يكن اهتمام ميغليانو منصبًّا على الحكي في بداية دراستها، بل كانت مهتمة بالصفات التي يعتبرها رحّالة «الأغتا» الصفات الأكثر قيمة في أقرانهم.
طلبت الباحثة من أكثر من 300 فرد من الأغتا أن يذكروا خمسة أشخاص يريدون أن يقضوا حياتهم معهم، وكذلك أن يرشحوا أقوى من يعرفونهم، وأفضل صائدي الحيوانات والأسماك، وأفضل جامعي الثمار، وأولئك الذين تحظى آراؤهم باحترام كبير، والأكثر معرفةً بمجال الطب. وأخيرًا، وبشكل استدراكي، طلبت ميغليانو من المتطوعين تسمية أفضل الحكائين، ظنًّا منها أن الأمر غير ذي أهمية مقارنةً بالصفات والمهارات الأخرى.
كانت النتائج مفاجئة، فتقدير الأغتا للحكائين يفوق كل شيء آخر. أظهرت النتائج أن عدد أسماء الحكائين الجيدين وصل إلى ضعف أسماء أولئك الذين يمتهنون مهنًا أخرى، وأن مهارة الحكي نفسها كانت أكثر أهميةً بالنسبة إليهم من جميع المهارات، مما حيّر ميغليانو وفريقها.
عمّ يحكون؟
لحسن الحظ، كانت ميغليانو تعمل مع منظمة «أغتا أيد» غير الهادفة للربح، التي تسعى إلى الحفاظ على حكايات الأغتا الشفهية في صيغة مكتوبة.
الحكاؤون ليسوا رفقاء معيشة مميزين فقط، بل أزواج مرغوبين أيضًا.
تقول الباحثة: «سألناهم إذا كان بإمكاننا إلقاء نظرة على الحكايات التي كانوا يجمعونها، وأدركنا أن معظم المحتوى يتعلق بالتعاون والعدل والمساواة بين الجنسين». هناك قصص كثيرة كتلك التي تحكي عن كيف تنقسم السماء بالتساوي بين الشمس باعتبارها مذكرًا والقمر باعتباره مؤنثًا، وأخرى عن مساعدة خنزير لصديقته بقرة البحر المصابة كي يتمكنا من التسابق جنبًا إلى جنب، وواحدة عن نملة مجنحة تتعلم أنها ليست أفضل من أخواتها اللاتي لا يمتلكن أجنحة.
لا تقتصر هذه الموضوعات على الأغتا، بل توجد أيضًا في ما يقرب من 70% من الحكايات التي جمعتها ميغليانو خلال عملها مع مجموعات أخرى من الصيادين وجامعي الثمار.
«يتنقل الصيادون كثيرًا، لذا لا يمتلك أحدٌ منهم سلطةً خاصة، فأنت بحاجة إلى طرق لضمان التعاون في مجتمع قائم على المساواة، وقد أدركنا أنهم يستطيعون استخدام الحكايات لبث المعايير التي تهمهم»، هكذا توضح ميغليانو، وتشير إلى أن هذه الحكايات كانت تؤدي الدور الذي لعبه الدين لاحقًا في مثل هذه المجتمعات الصغيرة، وتعتقد أن الآلهة المقدسة اختراع حديث نسبيًّا، ظهر بعد أن تضخمت المجتمعات البشرية.
الحكاية طريقُ العدل
طلب فريق ميغليانو من متطوعي الأغتا في مختلف المخيمات أن يلعبوا لعبة بسيطة تمكِّنهم من مشاركة الأرز مع زملائهم في المخيمات، ووجدوا أن نسب التشارك في المخيمات التي تضم بين صفوفها كثيرًا من الحكائين الأكفاء تفوق التشارك في باقي المخيمات. ورغم أن هذه العلاقة قد تحتمل عدة تأويلات، فمن المرجح أن الحكائين كانوا يشجعون أقرانهم على المشاركة بسخاء.
تعتقد ميغليانو أن العيش في مخيم أكثر تعاونًا من شأنه أن يسمح للناس بأن يحظوا بمزيد من الوقت، وبالتالي تزيد احتمالية حكي القصص الممتعة. لكن إن صح هذا، فهو لا يفسر سبب غلبة قِيم التعاون في كثير من القصص بشكل متكرر، على المواضيع السعيدة والإيجابية الأخرى، وبالتأكيد لا يفسر كيف يعود النفع على من يمارس الحكي.
سرد قصص الخارجين عن القانون المقبوض عليهم وسيلةً فعالة لإقناع الناس بالالتزام بالمعايير الجماعية.
قد يكون تلقي الهدايا هو النفع الذي يعود على حكائين الأغتا، كما أشارت الدراسة التي أجرتها ميغليانو، وأنهم أيضًا ليسوا رفقاء معيشة مميزين فقط، بل أزواج مرغوبين أيضًا، وأظهرت الإحصاءات أن عدد أطفال الحكائين يزيد على عدد أطفال أقرانهم في المتوسط بنسبة 50%.
وفي حين قد توطِّد الحكايات أُلفَة المجتمعات، يأبى التطور أن يعمل لصالح المجموع. فإن كان الحكي تكيُّفًا حقيقيًّا، كما تقترح ميغليانو، فعليه أن يخدم الأفراد الذين يجيدونه، وهو ما يحدث بالفعل.
لكن، هل يمكننا أن نعتبر هذه الدراسة كافية للوصول إلى تلك الاستنتاجات؟
الحكي مهارة منفصلة
يقول «مايكل تشوي»، عالِم السياسة في جامعة كاليفورنيا والمهتم بدراسة التعاون البشري، إنه «غالبًا ما يُقال إن الحكي والممارسات الثقافية الأخرى، مثل الغناء والرقص، تحث على التعاون، لكننا نجد النتائج على أرض الواقع مغايرة».
وتشير «ليزا زونشاين»، الأستاذة في جامعة كنتاكي، إلى أنه يصعب معرفة أهمية قيمة الحكي كفعل في حد ذاته، فعادةً ما تكون مثل هذه المهارات الإبداعية مصاحبةً لسمات شخصية مميزة تجعل من يمارسها أكثر جاذبية. ومن المحتمل أن يكون المتطوعون قد اختاروا هؤلاء الأشخاص بناءً على قربهم منهم، أو حتى بناءً على شهرتهم.
لا تؤمن ميغليانو بذلك، فلم يكن الاستطلاع مجرد مسابقة لقياس الشعبية، وإلا لاختار المتطوعون الأشخاص ذاتهم لكن كصيادين أو جامعى ثمار متميزين، إلا أنهم اختاروا أشخاصًا معينين لمهارات معينة، بما في ذلك الحكي.
تؤيد «ميشيل سكاليس سوغياما» الأستاذة في أوريغون التي نقّبت عن أصول الحكي، رأي ميغليانو: «تشير هذه الدراسة إلى أن الصيادين وجامعي الثمار يتفقون على أثر تلك المهارة ويرونها مفيدة. وهم ليسوا الشاهد الوحيد، فهناك مجتمعات أخرى مثل التسيمان في بوليفيا تفعل الشيء نفسه، مما يشير إلى أن الحكي يُسهِم بشيء ذي قيمة تكيُّفيّة في حياة الإنسان، وهو ما يعزز بدوره أحيانًا المبادئ والأخلاق».
وبحسب سوغياما، يُعَد سرد قصص الخارجين عن القانون الذين يُلقَى القبض عليهم لمعاقبتهم وسيلةً فعالة لإقناع الناس بالالتزام بالمعايير الجماعية.
نحكي لنعرف أكثر
تُلمِّح سوغياما إلى أن الحكايات تحتوي أيضًا على معرفة ثقافية قيِّمة يحملها البارعون من الحكائين. وتَستخدم مجتمعات الصيد وجمع الثمار الحكايات لتمرير معلومات عبر الأجيال عن الطعام والطقس وأشياء أخرى، وفي كثير من الأحيان تكون هذه الطرق خاصة بهم بحيث لا يفهمها الغرباء.
على سبيل المثال، لدى الأندمانيين قصة عن مشاجرة بين اثنين من آلهة الطقس، تنتهي بتشاركهما واجبات خلق الرياح. يمكنك أن ترى أن تجنُّب الصراع هو الدرس المستفاد من القصة، ويمكن أيضًا أن تكون القصة وسيلة غير مباشرة لنقل معلومات عن الرياح القوية التي تضرب جزر الأندمانيين.
هناك قصة مماثلة عن ذهاب وَرَل (أحد أنواع السحالي) إلى الغابة لمطاردة الخنازير، وأنه علق في شجرة، فساعده قط الزباد وتزواجا في النهاية. وبينما تبدو القصة ظاهريًّا كأنها تحث على التعاون بين الجنسين، تلاحظ سكاليس سوغياما أنها أيضًا شفرة لنقل معلومات حول المسكن والنظام الغذائي والتفاعل بين السحالي والخنازير وقط الزباد، مما قد يساعد على التنبؤ بسلوك هذه الحيوانات، وهو أمر بالغ الأهمية لتحديد موقعها وتتبعها وملاحقتها.
لا يعني هذا بالضرورة أن الناس يحكون القصص عمدًا لتمرير المعرفة أو للحفاظ على وحدة مجتمعاتهم، فيمكن أن يكون السبب المباشر للحكي هو الاستمتاع، غير أن هناك بالطبع فوائد أخرى، وهو ما قد يفسر سبب ظهور الحكايات في المقام الأول.
رغم ذلك، لا تعكس أصول الحكي بالضرورة استخداماته اللاحقة.
تقول «سارة هاردي»، باحثة الأنثروبولوجيا في جامعة كاليفورنيا: «استُخدِم حبنا البشري للقصص لخدمة غايات مختلفة خلال المراحل اللاحقة من تاريخ البشرية، فشعوب المايا في جنوب المكسيك، الذين تناولتُهم بالدراسة، يحكون قصصًا عن شيطان مجنح من جنس فائق له قضيب طوله ستة أمتار، وقد تسبب هذا الشيطان في تطوير أدوار جنسية أكثر ملائمةً للرجال والنساء، بما في ذلك فرض قيود على وضعيات معينة، وتابوهات فترة الحيض، وحرية الحركة. وبدلًا من تعزيز المساواة بين الجنسين، أسهمت تلك الحكايات في الحد من أدوار النساء».
تختم هاردي حديثها قائلة: «للأسف، حبنا البشري المشترك للحكايات يمكن أن يصبح أيضًا عُرضةً لضعفنا البشري، ليحض على العداوة بنفس السهولة التي عزز بها المحبة من قبل».
مي أشرف