لماذا نصاب بضعف النظر؟ 4 فرضيات علمية تحاول الإجابة
عندما يرى الصقر الجوال فريسته التي قد تبعد عنه نحو كيلومتر كامل، يغوص في الهواء بسرعة تزيد على 322 كيلومترًا في الساعة، ليقتنص فريسته بمهارة عجيبة. لم يكن الصقر ليقدر على انتزاع فريسته على هذا النحو الحاسم لو لم يكن بصره حادًّا، فضعف الإبصار قد يمنعه من رصد فرائسه في المقام الأول، أو قد يؤدي إلى فشله في اقتناصها إذا لم يحسب الأبعاد والتحركات بالدقة الكافية.
لهذه الأسباب يصعب أن نجد صقورًا جوالة ضعيفة الإبصار، إذ يعتمد بقاؤها بدرجة كبيرة على قوة بصرها، لكن بالمقارنة نجد نسبة كبيرة من البشر في حاجة إلى نظارات طبية لتصحيح عيوب الإبصار، فلماذا تضعف قدرة البشر على الرؤية بهذه السهولة؟ ولماذا لا يمتلكون بصرًا حادًّا لا يصيبه الضعف مثل الصقور الجوالة؟
يسعى مقال منشور على موقع «سايكولوجي توداي» إلى إجابة هذه السؤال المثير للتفكير: لماذا يرتدي كثير من البشر نظارات طبية؟
ضعف الإبصار في مقتبل العمر يثير الحيرة
يقول كاتب المقال إن تدهور الإبصار الذي يحدث نتيجة التقدم في العمر ليس موضع التساؤل، لأن كفاءة الأنظمة البيولوجية كلها تقل لدى جميع المخلوقات بمرور الزمن، وليست العينان استثناءً من ذلك.
تتدهور وظائف الأعضاء كافةً في نفس الوقت تقريبًا، لأنه لا معنى لأن يستثمر الجسم كثيرًا من موارده لإبقاء القلب نابضًا لمئة عام إذا كان الكبد مثلًا سيتوقف عن العمل في سن الستين على كل حال، إذ سيهلَك الجسد كله لو فشل الكبد في أداء وظائفه، سواء كان القلب صحيحًا أو لا.
المختلف بخصوص الإبصار أنه قد يتدهور في سنوات العمر الأولى قبل البلوغ، ومثل هذا القصور يتطلب تفسيرًا مختلفًا، خصوصًا أن نسبة لا بأس بها من المراهقين يلبسون النظارات.
يطرح كاتب المقال، الذي يدرس علم النفس التطوري، أربع فرضيات لتفسير تدهور الإبصار في بدايات العمر.
الفرضية الأولى: قوة الإبصار لم تكن مهمة للإنسان القديم
البشر لا يشبهون الكائنات التي فقدت بصرها بسبب حياتها في الكهوف لسنوات طويلة دون شمس.
في أولى الفرضيات التي يطرحها الكاتب لتفسير ضعف الإبصار منذ الطفولة، يقول إن حدة الإبصار لم تكن شديدة الأهمية بالنسبة إلى البشر لفترة من الوقت، فلم يكن لضعف البصر تأثير على قدرة الأشخاص على البقاء على قيد الحياة والتكاثر.
يرى الكاتب مع ذلك أن هذه الفرضية ضعيفة، ليس فقط لأن الإبصار ضروري للتنقل في أرجاء الأرض، بل لأنها تعني أن ضعف الإبصار ظاهرة عامة منتشرة بين البشر، وهو أمر غير صحيح، ففي حين ترتدي نسبة كبيرة من الشباب نظارات، يظل تطور الإبصار والحفاظ على العينين سليمتين أمرًا مكلفًا بالنسبة إلى جسم الإنسان.
اقرأ أيضًا: دع معتقداتك جانبًا، علينا أن نفكر جديًّا بشأن نظرية التطور
إذا لم تكن العينان بهذه الأهمية بين أعضاء الجسم، لكان المتوقع أن نجد جميع الناس، وليس بعضهم فقط، في حاجة إلى نظارات لتحسين قدراتهم البصرية التي يصيبها الضعف، لكن هذا غير صحيح، فالبشر لا يشبهون الكائنات التي فقدت بصرها نتيجةً لاتخاذها الكهوف مساكن لسنوات طويلة لم ترَ فيها الشمس.
الفرضية الثانية: ضعف الإبصار مرض ينتج عن عدوى
يفترض الكاتب في التفسير الثاني أن حدة الإبصار كانت مهمة للإنسان، لكن العين لا تتطور تطورًا طبيعيًّا في حال تعرضها لمؤثرات تضعفها، مثل الإصابة بعدوى ما. ومع أن هذا التفسير يبدو معقولًا مبدئيًّا، لأن الجراثيم تعطل النمو وتسبب العمى والصمم وربما الموت أحيانًا، فإن أعداد من يحتاجون إلى تصحيح الإبصار تبدو مع ذلك أكبر من أن تسببها عدوى.
إضافةً إلى ذلك، تبدو أعداد الأطفال والبالغين الذين يحتاجون إلى نظارات في ازدياد، وهو أمر غريب بالنظر إلى تطور المعرفة الطبية والتكنولوجيا، فإذا كان قصور الإبصار يسببه ميكروب معدٍ لكان معنى هذا أن المضادات الحيوية أو غيرها من الأدوية لم تقضِ عليه ولو بالصدفة، ولكان ينبغي أن يرتبط ضعف الإبصار بعلامات أخرى دالة على وجود مشكلات تعوق النمو، مثل انخفاض مستوى الذكاء ونحوه.
إذا لم يستطع النظام المناعي مقاومة الميكروب الذي أضعف البصر، لما أمكنه كذلك مقاومة صور تشوُّه النمو الأخرى، لكن العلم يوضح وجود ارتباط إيجابي بين قصر النظر ودرجة الذكاء، وهو أمر غير مُتصوَّر إذا اعتبرنا ضعف النظر مرضًا، ممَّا يوضح هشاشة هذه الفرضية.
قد يعجبك أيضًا: هل يمكن دمج جسد الإنسان والآلة؟
الفرضية الثالثة: التطور التكنولوجي سبب ضعف الإبصار
في التفسير الثالث، تُعتبر حدة الإبصار مهمة للبشر، ولكن التكنولوجيا تعمل على تخفيف أثر ضغوط الانتقاء (العوامل البيئية التي تؤدي إلى انتشار طفرات جينية معينة) التي من شأنها أن تحافظ على حدة الإبصار.
في مجتمع منعزل، عانى شخصان من أصل 131 من قصر النظر، لكن أكثر من نصف أبنائهم وأحفادهم أصيبوا بقصر النظر.
في قول آخر: تعني هذه الفرضية أنه منذ اختراع النظارات ومنح ضعاف البصر حلًّا لمشكلتهم، ألغيت أي ميزة إنجابية تمتع بها أقوياء البصر مقارنةً بضعافه، وهي فرضية مثيرة في رأي الكاتب، لأننا لو تتبعناها حتى النهاية سنجد أنها تنبئ بتدهور القدرة على الإبصار عقب اختراع وانتشار سبل تصحيح الإبصار.
إذا كانت النظارات اختُرعت في إيطاليا في القرن الرابع عشر، فمعنى هذا أن قدرة الإيطاليين على الإبصار يجب أن تكون قد تدهورت منذ ذلك الحين، متبوعةً بالثقافات الأخرى التي انتقل إليها الاختراع، وليس قبل ذلك التاريخ. لكن الكاتب يشكك في ذلك، خصوصًا أن الفاصل الزمني قصير نسبيًّا بين اختراع النظارات وما تبعها من تطوير وإنتاج وتوزيع عالميًّا، وبين عصرنا الحالي، ولا يبدو أن هذه الأعوام السبعمئة كافية للتخفيف من أثر ضغوط الانتقاء.
أظهرت دراسة أجريت في عام 1969، شملت سكان شمال ألاسكا، أن من بين مجموعة من الأشخاص البالغين الذين نشؤوا في مجتمعات منعزلة، لم يعانِ سوى اثنان من أصل 131 شخصًا من قصر النظر، فيما كان أكثر من نصف أبنائهم وأحفادهم مصابين بقصر النظر، فلا يمكن القول إن تضاؤل أثر ضغوط الانتقاء الذي انعكس على الجينات الوراثية هو المسؤول عن انتشار قصر النظر بين الأجيال التالية في تلك الفترة شديدة القصر.
الفرضية الأخيرة: تغيُّر بيئة الإنسان سبب ضعف الإبصار
يأخذنا سقوط الفرضيات الثلاثة السابقة إلى التفسير الأخير الذي يميل إليه الكاتب، فيقول إنه في ظل اختلاف البيئة الحديثة عن البيئة النمطية التي عاش فيها الإنسان القديم، كان طبيعيًّا أن يأخذ تطور الإنسان منحًى مختلفًا، إذ يتوقع الجسم مُدخلات معينة في عملية تطوره، وإذا لم يحصل عليها يتدهور أداؤه.
في هذا السياق، يُعتقد مثلًا أن الحساسية تطورت لدى البشر جزئيًّا بسبب النظافة المتزايدة وتطور العادات الصحية، فالنظام المناعي للجسم يتوقع مستوًى بعينه من التهديد الجرثومي، وإذا لم يجده، يبدأ بمهاجمة أهداف وهمية مثل حبوب اللقاح، مؤديًا إلى الحساسية.
تقلل بعض جوانب الحياة المعاصرة من التعرض للمحفزات المطلوبة من أجل التطور بصورة طبيعية.
يشير الكاتب إلى دراسة أجريت عام 2008 للبحث في قصر النظر، واستعانت بعينتين من الأطفال الصينيين في نفس المرحلة العمرية، كان عدد أفراد العينة الأولى 628 طفلًا يعيشون في سنغافورة، والأخرى مكونة من 124 طفلًا يعيشون في سيدني بأستراليا، وبينما عانى 29% من الأطفال في سنغافورة من قصر النظر، أصاب قصر النظر 3% فقط من عينة سيدني.
بدت تلك النتائج غريبة، خصوصًا مع الوضع في الاعتبار أن معدلات قصر النظر بين آباء الأطفال من العينتين كانت متقاربة، فإذا كان قصر النظر ينتج عن حدوث طفرات جينية، لِمَ ظهر هذا الاختلاف بين نتائج البلدين؟ تثبت هذه النتائج خطأ الفرضيتين الأولى والثالثة.
كان الفارق السلوكي الوحيد الملحوظ بين العينتين بحسب الكاتب هو عدد الساعات التي يقضيها الأطفال خارج منازلهم، ففي سيدني، كان الأطفال يقضون نحو 14 ساعة أسبوعيًّا في أنشطة خارج المنزل، مقابل ثلاث ساعات فقط لأطفال عينة سنغافورة.
يبدو إذًا أن العين البشرية تحتاج إلى التعرض لمحفزات معينة يوفرها الخروج في الهواء الطلق والتعرض للشمس كي تتطور بصورة طبيعية، ويبدو أن بعض جوانب الحياة المعاصرة، التي تتطلب مثلًا قضاء ساعات طويلة داخل الفصول الدراسية، تقلل من التعرض لتلك المحفزات، فإذا كان ذلك صحيحًا، يمكننا القول إن إعطاء الأطفال مزيدًا من الوقت لممارسة أنشطة خارج أسوار المنزل يحُول دون حدوث قصر النظر.
سيظل هذا التفسير رغم معقوليته غريبًا، إذ يشير إلى تطور آليات التكيف لدى الإنسان بصورة غير نمطية في المراحل الأولى من العمر، وهو التطور الذي يؤدي إلى تدهور وظائف أعضاء الجسم، لا تحسُّنها مع الوقت.
لكن يبقى الاستنتاج الأهم أن خروج الأطفال إلى المناطق المفتوحة يلعب دورًا في الحفاظ على أبصارهم، وفي وقايتهم من قصر النظر.
دينا ظافر