أنا مش عارفني: هل تصنع الجينات شخصياتنا أم نشكلها بأنفسنا؟
ربما تكون قد شاركت من قبل في حوارٍ عن إرادة الإنسان وما إذا كان مُسيّرًا أم مخيّرًا. هذا الموضوع لا يجيب عن ذلك السؤال الأبدي، لكنه قد يكون بمثابة محاكاة له على مستوى «الصفات» بدلًا من «الأفعال». هل يولد الإنسان بصفاته الشخصية محددة مسبقًا بالوراثة؟ أم هل يكتسبها من بيئته؟ أم يحددها باختياراته في الحياة؟
إلى أي مدى تتحدد شخصياتنا سلفًا وفق عوامل خارجية لا دخل لنا فيها؟
هذا السؤال يطرح بُعدًا يثير جدلًا، أو بالأحرى نقاشًا، بين علماء النفس اليوم، وفقًا لما ذكره «دان ماك أدامز» (Dan McAdams)، أستاذ علم النفس بجامعة نورث ويسترن،؛ في معرض إجابته عن سؤال عن موضوع يستحق أن يلقى اهتمامًا على نطاق أوسع مما يدور في الأروقة الأكاديمية. وفي السطور القادمة، سنعرض بتصرف بسيط ما كتبه «ماك أدامز».
ما هي الشخصية؟
تدور بين علماء النفس جدالات حامية حول الكثير من الأفكار، لكن قلّما يسمع عنها الجمهور. ويرى أدامز أنه من الأجدر بنا ألا نصفها بالجدالات، لأنها كلمة توحي بأنّ هناك خصمين متعارضين يمسك كل منهما بخناق الآخر، وإنما الأحرى أن نسميها نقاشات بين علماءَ لكلٍ منهم قناعاته وميوله وجميعهم يعكفون على دراسة ظاهرة الشخصية البشرية.
يُعرِّف أدامز الشخصية بأنها مجموعة السمات الذاتية التي تميز فردًا عن الآخر، ويرى أن علماء النفس يستقون فرضياتهم بشأن طبيعة الشخصية البشرية من البحوث والنظريات العلمية بصورة أساسية، لكنّ تلك النظريات لا تسلم أيضًا من تأثير الأيديولوجيا والثقافة والتجارب الذاتية.
اقرأ أيضًا: ترامب، غيتس، زوكربيرغ: هل يأتي النجاح بالوراثة؟
هل هذه «طبيعتك» فعلًا؟
من المسائل المهمة التي تشغل الساحة البحثية في علم نفس الشخصية حاليًا مسألة دور الإرادة البشرية في تكوين الشخصية، وهي مسألة تختلف عن النقاش القديم بشأن دور الوراثة في مقابل دور البيئة في تشكيل الشخصية؛ إذ أنَّ السؤال هنا كالآتي: إلى أي مدى تتحدد شخصياتنا سلفًا وفق عوامل خارجية لا دخل لنا فيها، وإلى أي مدى نشارك نحن في صنع شخصياتنا بأنفسنا؟
يقول أدامز إننا نشعر أنّ بعض المظاهر الأصيلة للشخصية البشرية، كصفاتنا الشخصية الأساسية، محدّدةٌ سلفًا، ونحن نظن أنّ ذلك أمر واضح لا لبس فيه، فالأشخاص في حركتهم في الحياة ما بين موقف والآخر لا يختارون في العادة أن يظهروا مثلًا بمظهر «انبساطي» (اجتماعي) أو «قلِق» أو «عطوف ومتفهم».
ويضرب أدامز مثالًا أننا نجد شخصًا شديد الانبساطية (الانفتاح على اﻵخرين) قد يعلل سلوكه المنفتح وميله إلى السيطرة في المواقف الاجتماعية بأن يقول: «هذه طبيعتي»، وربما يقول شخص لديه مستوى عالٍ من العصابية (neuroticism): «ليس الأمر بيدي، إن القلق يجري في دمي»، وهكذا؛ يبدو أننا نميل إلى الاعتقاد بأن صفاتنا الشخصية محدّدة سلفًا، سواءٌ أكان ذلك بفعل الجينات أم الخبرات السابقة أم الحظ أم غير ذلك. (والواقع أن البحوث تؤكد ذلك).
لكنّنا، بحسب أدامز، نشعر في الوقت نفسه أنّ بعض مظاهر شخصيتنا من اختيارنا أو من صنع أنفسنا، مثل قيمنا وأهدافنا و«قصتنا عن الحياة»، وهذه الأخيرة قد تكون أبرز الدلالات على كون صفاتنا من صنعنا. و«القصص الحياتية»، أو ما يسميه علماء النفس «الهويات السردية»، موضوع يلقى اهتمامًا كبيرًا على ساحة البحوث النفسية في الوقت الحالي.
ما القصة التي ترويها عن الحياة؟
يفسر أدامز ما يعنيه بـ«القصة الحياتية» موضحًا أنها سردية داخلية متطورة عن الذات يعيد فيها الإنسان تركيب ماضيه وتصوراته عن مستقبله بطريقة تمنح حياته بعض المعنى والغاية. وبكلماتٍ أبسط، فالقصة الحياتية هي قصة ذاتية تتضح فيها الطريقة التي يرى بها الشخص ذاته والصورة التي يرسمها عن نفسه أمام الآخرين، أو حكايته لنفسه وللآخرين عن رحلته في الحياة والجذور التي شكّلت حاضره وسترسم مستقبله.
أما عن الجانب الذي تحتله القصص الحياتية في الشخصية البشرية، فيقول أدامز إنّ القصص التي يرويها الأشخاص عن حياتهم (أو «هوياتهم السردية») تشكّل هالةً خارجية تحيط بصفاتهم الشخصية. ولكي نفهم الآخرين جيدًا، أو حتى لكي نفهم ذواتنا جيدًا، لا بدّ لنا من فهم صفاتنا الأساسية (التي يصدُر عنها سلوكنا الاجتماعي اليومي) وقصتنا الحياتية الداخلية (التي تضفي المعنى على حياة كلٍ منا).
قد يعجبك أيضًا: هل علينا أن نشك في ذكرياتنا؟
أنت مُخيَّر
قد تكون صفاتنا الشخصية محدّدة سلفًا بفعل الجينات الوراثية ولا دخل لنا فيها، أما قصتنا عن أنفسنا فهي ناتجة عن رؤيتنا لذواتنا، وبالتالي، يمكننا القول إن سلوكنا يتشكّل في إطار اجتماعي وفق صفات شخصية محدّدة سلفًا، لكننا في الوقت ذاته نصوغ قصتنا الحياتية بكامل حريتنا ونُشكِّل من خلالها المعنى الذي نضفيه على أيامنا.
أحمد قياتي