ما الذي يجعل جملة ما تحفة فنية؟
عندما نقرأ، نتأثر بما نقرؤه، وبخاصة لو كان جميلًا. تجعلنا الجملة الجميلة في حالة من السعادة، نَوَد أن ننطقها مرارًا حتى تكاد تذوب في فمنا، وأن نعيد قراءتها بعد ذلك في عقولنا مرةً تلو الأخرى.
ما الذي يجعل جملة ما جميلة؟ لماذا نحب بعض الجمل التي نقرأها ونكره أخرى؟ كيف تؤثر فينا الكلمات؟ تستعرض هذه الأفكار «جيني دافيدسون»، أستاذة الأدب الإنجليزي في جامعة كولومبيا، في مقالها على موقع «Aeon».
ما الذي يرغب الكاتب في قوله؟
لا بد من أن يكون أسلوب كل جملة متميزًا وأصيلًا، إذ تتدفق الكلمات في ترتيب لا يمكن أن يتحقق بقلم كاتب آخر. وإليكم مثالًا يوضح ذلك، من مقدمة «صامويل جونسون» لكتابه «A Dictionary of the English Language» (قاموس اللغة الإنجليزية):
«عندما نرى الرجال يشيخون ويموتون في سن معين واحدًا تلو الآخر، من قرن إلى قرن، نسخر مِن كل مَن يعدنا بحياة تطول لآلاف السنين. وبمنطق مشابه، ربما نهزأ بالمُعجميِّ الذي لا يستطيع أن يقدم مثالًا واحدًا على شعب استطاع أن يحافظ على لغته وجُمله من التحولية، والذي يخيل إليه أن مُعجمه يمكن أن يصون لغته، ويحميها من الفساد والتعفن، وأن بوسعه أن يغير طبيعة الأمور».
الجملة سامية في معناها، إلا أن غايتها هي السخرية من الغرور الذي يغلف رغبات الإنسان. إنها مدفوعة بتزاحم الكلمات والفقرات من ورائها، وتراكمها واحدةً فوق الأخرى. وهو هنا يستخدم تشبيهًا بسيطًا: خلود اللغة في مقابل خلود الإنسان، كلاهما وهم.
قد يهمك أيضًا: هل تشفينا الكتابة؟
الجُملة: التكثيف والمعنى
وجود موثر خارجي بجانب الداخلي، والطريقة التي تُسهم بها الجمل في أهمية النص، كل هذا يجعل الجملة عظيمة.
«إدوارد جيبون» واحد من أعظم كُتاب النثر البريطانيين في القرن الثامن عشر. كتب مذكراته وتركها في شكل مسودَّات نُشرت بعد وفاته.
وقع جيبون في الحب حين كان شابًّا، وطلب من والده الإذن ليتزوج، لكن أباه، الذي كان مبذرًا بشكل تسبب في أزمة مادية لعائلته، رفض طلبه، فكتب جيبون: «تنهدت كعاشق، وأطعت كابن».
يمثل التوازي في هذه الجملة درعًا عاطفيًّا لحماية الذات. جيبون يستخدم جملتين قصيرتين لتلخيص معركة شعورية طويلة. لم يُسهب مثلًا في وصف صراعه النفسي مع قرار والده، ولا مشاعره ناحية حبيبته.
في اقتضابه هذا تكثيفٌ أصيلٌ لكل التناقض الذي نشعر به يعتمل بداخله. الابتعاد عن الإسهاب والإخفاء بدلًا من الكشف، يجعل هذه الجملة البسيطة تحمل كل هذا المعنى. تكثَّفت فيها كل المشاعر والأفكار، وبإخفائها حققت الهدف منها.
كتب جيبون أيضًا في مذكراته: «كنت في روما، في 15 أكتوبر 1764، جالسًا بين أطلال العاصمة، وكان الرهبان حفاة الأقدام يغنون صلوات المساء في معبد جوبيتير حينما أتتني فكرة كتاب تاريخ اضمحلال الإمبراطورية اليونانية وسقوطها».
دقة الوقت والمكان معًا، والتباين الذي خلقه، وتجاوُر صورة الرهبان حفاة الأقدام مع المعبد الوثني، وحقيقة أن هناك موثرًا خارجيًّا بجانب المؤثر الداخلي، والطريقة التي تُسهم بها الجمل في أهمية النص، كل هذا هو ما يجعل الجملة عظيمة.
الجملة الأولى
تمثل الجملة الأولى في أي كتاب دعوة إلى عالم جديد. وأحيانًا تكون تلك الدعوة مؤثرة إلى الحد الذي يجعل للجملة حياة خاصة بها.
مثالًا على ذلك، الجملة الافتتاحية لرواية «1984» للكاتب البريطاني جورج أورويل: «كان يومًا ساطعًا تشوبه برودة، والساعة تدق الواحدة ظهرًا». يقول كاتب المقال إن الجملة في البداية تبدو عادية ووصفية، لكن في المقطع الأخير استطاع أورويل أن يحقق شعور الاغتراب، ويدلُّنا على الواقع البديل لروايته تحت وطأة ظروف الاقتصاد والقوة الحاكمة.
هذا عالم فيه ساعة تدق معلنة عن الوقت، إيحاء بما ينتظر القارئ، تلميح بسيط له بما سيراه في هذا العالم، الذي يجب فيه على القارئ إدراك أن كل شيء مضبوط، مُتَحَّكم فيه، وأن الوقت مثل كل شيء في هذا العالم، خاضع لسيطرة قوة أكبر وأعمق. جملة أخرى توحي ولا تقول.
اقرأ أيضًا: من البصاص إلى الأخ الأكبر: مآلات المراقبة في الرواية
هناك مثال آخر على جملة افتتاحية أخرى من رواية الخيال «Neuromancer» للكاتب «ويليام غيبسون»: «كانت السماء فوق الميناء تشبه لون التلفزيون عندما ينتهي الإرسال».
يتواصل الإسقاط الافتتاحي بشكل مباشر مع عالم تعرَّف فيه الوعي البشري إلى أشكال جديدة من وسائل الإعلام وطرق التأمل. اليوم، مع جيل من القراء الذين لا يشاهدون التلفزيون، ولا يعرفون شكل «قناة ميتة/مشفرة»، فإن الإسقاط يغلفه الغموض. لا يعرف القارئ المعاصر ما صوت التلفزيون عندما ينتهي إرسال القناة، ولا يميز الضوضاء الإستاتيكية التي تظهر على الشاشة. لكن هذا الغموض جزء من العالم الذي يحاول الكاتب أن يغرسه في نفوس قُرائه.
غيبسون بنفسه قال إن هذه الجملة كُتِبَت بافتراض استطاعة القارئ أن يبحث عن المصطلحات والمراجع غير المألوفة على غوغل. يهم غيبسون أن تكون نصوصه الخيالية موضوعية وغامضة في الوقت ذاته، وربما يكون ذلك سببًا في حدوث عدم فهم بسيط عند القارئ، وربما يكون سببًا أيضًا في خلق وعي لديه حول تأثير الماضي والحاضر على اللغة والأدب.
الجمال في نقصه أحيانًا
يستطيع بعض الأدباء أن يجعل كل جملة عملًا فنيًّا مميزًا دون إرهاق القُراء. بالنسبة إلى كثير من القراء، فإن «جيمس جويس» مثال مناسب على ذلك. لكن كاتب المقال يقول إنه شخصيًّا يفضل الجمال غير المُتَكلَّف للجمل في كتاب جويس الشهير «ناس من دبلن»، أكثر من البراعة التي يشير إليها كثيرون في كل جملة في «عوليس»، إذ تُفرَد لكل جملة مساحة تجعلها عملًا فنيًّا صغيرًا، لكن التتابع الصارم لتلك الجمل ممل للغاية. اللغة الشعرية المستمرة التي لا تنقطع تجعل تجربة القراءة نفسها، باعتبارها تجربة متسلسلة تعتمد على تراتب الجمل، أمرًا شديد الصعوبة.
خلال عمر طويل من القراءة، يميل القُراء إلى إعداد كتاب مقدس خاص بهم يحتوي على جملهم المفضلة. دفتر كاتب المقال يمتلئ بأعمال «جين أوستن»، فتوازن السخرية والبعد النفسي وطريقة السرد لديها لا نظير له. الجملة الأولى من رواية «كبرياء وهوى» من أجمل سطورها المعروفة: «إنها حقيقة متعارَف عليها، أن الرجل العازب ذا الثراء الفاحش لا بد أن يكون في حاجة إلى زوجة».
لكن كاتب المقال يقول إنه دائمًا ما فضَّل الجملة الافتتاحية لكتابها «إما» أكثر: «إما وودهاوس، جميلة، ماهرة، ثرية، تعيش في منزل مريح ولديها مكانة جيدة. بدت كأنها تجمع بين أفضل نِعَم الوجود، وقد عاشت ما يقرب من 21 عامًا من دون ما يؤرِّقها». تحمل البداية إيقاع حكاية خيالية، لكن كلمة «بدت»، ويليها تتابع الصفات: «جميلة»، ثم «ماهرة»، ثم «ثرية»، يشير إلى أن الرواية لن تكون بنفس الإيقاع السعيد.
إن رأينا المكتبة مدينةً والكتاب منزلًا فرديًّا فيها، فإن الجُمل هي أثاث هذا المنزل. بعضها قطع مهمة وأساسية (الجدران الحاملة، والملاط، وبلاط الحمَّام)، وبعضها الآخر يكمُن في التفاصيل التي نتذكرها ونحملها معنا، كالملمس واللون عندما نصف بكلماتنا الشخصية مكان معيشتنا.
ندى رضا