غرافيك تاريخي: ألعاب الفيديو كوسيلة تعليمية؟
يُعَد تدريس التاريخ فنًّا أكثر من مجرد معلومات وتواريخ يجري سردها على الطلاب، إذ يمكن للمُدرس أن يكون راويًا يقص الحكايات ويستفز الخيال عن طريق تخيل الحقب والصراعات والانتصارات.
يمكن أن يكون المُدرس عبارة عن عمل تلفزيوني أو سينمائي يرسم الملامح التاريخية على الشاشة، ويتقمص الممثلون أدوار الفاعلين في التاريخ، وربما كذلك يكون لعبة فيديو.
ناقش عدد من العلماء إمكانية استخدام الألعاب الرقمية التاريخية في تدريس التاريخ بشكل فعال. وأخذت مجلة «مايكروكمبيوتر» في بداية ثمانينيات القرن الماضي زمام المبادرة، فنشرت عددًا من المقالات حول استخدام الألعاب التي تُحاكي التاريخ، ما قد يساعد على إعادة النظر في تدريس التاريخ، وذلك عن طريق قدرتها على غمر اللاعبين في سياق تاريخي يعيشونه بالكامل بدلًا من القراءة عنه.
سلّط عدد من الدراسات، التي أجريت على تأثير الألعاب التاريخية في عملية التعليم التاريخي، الضوء على تطور قدرة المحاكاة والتقدم التقني، إذ دخلت ألعاب الفيديو في الطريقة التي نتعامل بها مع التاريخ، وتصميم ألعاب تدور حول حقبة تاريخية معينة، ما أدى إلى حدوث فروق جوهرية في تخيل الحقب التاريخية عن طريق المعالجة الكمبيوترية، التي تسمح بتصميم العوالم التاريخية التي تقتحمها الألعاب، وأيضًا الدمج التي تُحدِثه الألعاب بين الترفيه والتعلُّم، ما يسمح بسهولة الاستفادة منها.
ألعاب وعوالم تاريخية
لا يمكن التعامل مع كل الألعاب التي تُشير إلى حقبة تاريخية معينة على أساس أنها «لعبة تاريخية» يمكن الاستفادة منها في معرفة التاريخ، إذ تلزم مجموعة من الشروط لتحقيق هذا، من بينها أن تبدأ اللعبة من نقطة محددة في التاريخ، وأن تسير وفقًا لمستندات تاريخية معتمدة وخرائط وصور يمكن من خلالها تصميم اللعبة.
كثرة الألعاب التاريخية واختلاف التصميمات والإشارات التي يستخدمها المبرمجون للإشارة إلى نقطة تاريخية محددة جعلت من الصعب إيجاد تعريف واضح يشمل تلك الأنواع المختلفة، ويمكننا النظر إلى بعض الألعاب التي تدور أحداثها في حقبة تاريخية معينة، مثل «Assassin's Creed» و«Call of Duty».
تأتي براعة تصميم لعبة «Call of Duty» في الأسلحة والملابس والحروب التي تستند إلى روايات تاريخية حقيقية.
«Assassin's Creed» أو «عقيدة القاتل» لعبة من ثلاثة أجزاء، تدور أحداثها منذ عصر النهضة في روما من منتصف القرن الخامس عشر إلى استعمار بوسطن في القرن التاسع عشر، ثم الثورة الفرنسية. واللاعب فيها قاتل محترف يمر على عدة مناطق، وهدفه قتل أهداف محددة دون ترك أي أثر خلفه.
حظي مصممو اللعبة بالإشادة لاهتمامهم بكل التفاصيل، وحرصهم الشديد على الدقة في البيئة المحيطة، بداية من الملابس التي ترتديها الشخصيات، والتراث المعماري الذي تنتمي إليه كل حقبة تاريخية، وحتى رسوم الشخصيات التاريخية المعروفة، وكذلك اللغات المنتمية إلى كل مدينة، والتي تكاد تُطابِق هذا الواقع التاريخي.
لكن رغم ذلك، لم تهدف اللغة في الأساس إلى تعليم التاريخ، حتى أن شخصية القاتل التي يتقمصها اللاعب ليس لها سند تاريخي.
اقرأ أيضًا: لعبة «هذه الحرب حربي»: سيرة هؤلاء الذين رأوا كل شيء
أما «Call of Duty» أو «نداء الواجب» فتدور أحداثها في أثناء الحرب العالمية الثانية، واللاعب فيها جندي من جنود الجيش الأمريكي في معركة بالمحيط الهادي.
تأتي براعة التصميم في الأسلحة والمُعدات والملابس ودقة تفاصيل الحروب التي تستند إلى روايات تاريخية حقيقية، إضافة إلى خرائط حقيقية بتحديثات مستمرة لمواقع العدو. واللاعب شخصية حقيقية لجندي مشاة في الجيش الأمريكي، بخلاف لعبة «عقيدة القاتل»، التي تستند إلى شخصية غير حقيقية.
حسنٌ، هناك كثير من الألعاب القتالية والاستراتيجية التي تروي التاريخ بطريقة معينة، وتُسهِم في فهم الأحداث التاريخية ودوافعها. لكن كيف نستفيد من الألعاب التاريخية في الفصول الدراسية؟
أن تكون فاعلًا في التاريخ
اللعب مع الماضي يساعد على التفكير في حالات الطوارئ، وينمِّي حِسّ المسؤولية والبحث عن حلول كرؤساء أو قادة حروب.
«هناك أُناس كثر وحيدون يعيشون في عزلة، ويعملون في وظائف رديئة، ويعيشون في بيوت رديئًا، ويأكلون أكلًا رديئًا، لكنهم على الإنترنت ملوك العالم، يتعاطون الألعاب والجنس والنشوة الرخيصة. أليس لك مركز في الحياة الحقيقية؟ يمكنك أن تحظى بمركز في لعبة. تشعر بأنك عديم الفائدة في الحياة الحقيقية؟ اصنع من نفسك زعيمًا على طائفة في لعبة، وتحرّك كما تشاء». فرانكو بيراردي في كتاب «Heroes».
ما يميز الألعاب التاريخية عن الأعمال الفنية والسينمائية التي تحكي التاريخ قدرتها على إعطاء مساحة للإنسان كي يكتشف ويُجرب من خلال اللعب، والتحديات التي تواجهه تجعله مسؤولًا عن سير التاريخ في اللعبة، والظروف البيئية والاقتصادية، والخصوم بين الشخصيات، والمعارك التي تحدث في اللعبة، وتجعل اللاعب دائمًا تحت ضغط من كثرة العقبات، ومحدودية الإمكانات تجعل الأحداث التاريخية قريبة إليه، وتجعل قراراته وإدراكه للأحداث كأنها جزء مألوف من واقع حقيقي يعيشه.
«جيرميا ميكال»، أستاذ التاريخ في مدينة أوهايو الأمريكية، يرى أن هناك عدة تأويلات للتاريخ، ولا يمكن للعبة أن تتسع لكل التأويلات والأسانيد المختلفة، لكنها تجعل للاعب وجهة نظر في سير التاريخ بتلك الطريقة، وتترك عنده دوافع وتناقضات لما يشاهده في سير التاريخ داخل اللعبة.
طريقة الإرباك تلك لها أثر مهم في تعليم التاريخ، إذ تُثير فضول الطلاب للبحث والرجوع إلى المصادر التاريخية المختلفة، واللعب مع الماضي يسمح للمرء بتجربة استراتيجيات مختلفة ومراقبة نتائج أفعاله، وتلك الوسيلة جذابة للتفكير في حالات الطوارئ التي يمكن أن تحدث في الواقع ويعيشها اللاعبون عبر واقع تاريخي افتراضي، فيُنمِّي داخل الطلاب حِسّ المسؤولية والتفكير في حلول كرؤساء أو قادة حروب.
اقرأ أيضًا: تاريخ ألعاب الفيديو: كيف تطورت وحدات التحكم عبر التاريخ؟
ألعاب تاريخية متحيزة
يجادل «ميكال» أيضًا بأن المواقف والتحديات التي يواجهها اللاعبون لا تجعلهم بالضرورة يتعلمون التاريخ، بل يتعلمون استراتيجيات خاصة بالحروب وكيفية الفوز، لكنهم لا يتعلمون شيئًا من الماضي الحقيقي غير أسماء شخصيات ومواقع ومدن.
يعني هذا أننا يجب علينا أن نرجع أيضًا إلى ما تهدف إليه الهيئات التعليمية من تدريس التاريخ، فكل هيئة تعليمية لها مجموعة من الأهداف العامة التعليمية من كل مادة دراسية، فعندما نقرر أن تكون الألعاب التاريخية مادة التاريخ، يجب أن تُطابق تلك الألعاب مستهدفات الهيئات المختلفة، ويجب أن توفر الهيئات معلمين قادرين على مواكبة التدريس عبر الألعاب.
من يكتب التاريخ المدرسي؟
تستمد الألعاب التاريخية معلوماتها من مصادر تاريخية كُتبت بواسطة النخبة، وتلك المصادر تحكي عادةً عن الملوك والسادة أكثر من أن تتحدث عن أحوال العامة وتاريخهم.
«التاريخ الشفهي» للشعوب لا يحكي الحروب باعتبارها معركة مكسب وخسارة، بل على أساس أنها شيء يؤثر في الأحوال الاقتصادية والاجتماعية، بخاصة عندما يتعلق الأمر بالحروب القديمة، التي كانت تدور باحتلال دول لدول أخرى، وليست حرب دفاع شعب عن أرضه.
الألعاب تستثني كل الروايات الأخرى للتاريخ، وتحكي الحكايات التي تحتوي على عناصر درامية مثيرة، مثل الصراعات والفوز الذي يجب أن يتحقّق، فتلك الطريقة يمكن أن تؤثر في أخلاقيات الطلاب وتجعل أفكار المكسب واكتساح الآخر شيئًا ينتقل من ممارستهم في الواقع الافتراضي إلى الواقع الحقيقي.
قد يعجبك أيضًا: ألعاب الفيديو: فيروس أم علاج؟
الألعاب التاريخية الرقمية وسيلة قوية لتفسير وإشراك الماضي في عملية التعلُّم عن طريق المعايشة، إذ وجد عدد من المعلمين والباحثين أنها مفيدة في تدريس التاريخ، وهناك جدل مستمر حول أفضل الممارسات التي من الممكن تقديمها لمساعدة المعلمين وتوجيههم لاستخدام الألعاب التاريخية في الفصول، ومن أهم هذه التوجيهات فَهْم أن الألعاب التاريخية نصوص للماضي وتفسيرات له، لذلك ينبغي أن يعاملها الطلاب والمعلمون على نحو نقدي.
هذا يعني أن الدرس الكامل، أو الوحدة التي تنطوي على لعبة، ستتضمن مقارنة اللعبة بالأدلة التاريخية والمصادر الأولية والثانوية المستخدمة في اللعبة، وعمل دراسات تحليلية إضافية لنقاط القوة والضعف في محاكاتها للتاريخ، ما سيوفر مادة تحليلية مفيدة للمعلمين.
الأهم من ذلك أن يواصل المعلمون الكتابة وتبادل الخبرات العملية الخاصة بهم مع الألعاب التاريخية الرقمية إلى المجتمع الأوسع، ويمكن لكل هواة الألعاب أن يتعلموا اللعبة ويتمتعوا بها في آن واحد. إنها، ببساطة، وسيلة كأي وسيلة أخرى، لا بد من أن نعي حدودها، وأن نحاول دائمًا أن نتجاوزها.
إسلام كرّار