مغامرة بوحمارة: ثورة أم طموح لتأسيس سلطة مغربية جديدة؟
هذا الموضوع ضمن هاجس «المغامرة». اقرأ موضوعات أخرى ضمن الهاجس من هنا، وشارك في الكتابة من هنا.
«متنافسون في الرئاسة، وقَلّ أن يُسلِّم أحد منهم الأمر لغيره ولو كان أباه أو أخاه أو كبير عشيرته، إلا في الأقل وعلى كُره، فيتعدد الحكام منهم والأمراء، وتختلف الأيادي على الرعية في الجِباية والأحكام، فيفسد العمران وينقض». هكذا وصف ابن خلدون العرب في مقدمته، وربما لم يجاوز الرجل الحقيقة حينها.
تداول السلطة بين حكام هذه الشعوب، حتى وقتنا الراهن، موسوم بالدموية والصراع. حتى على مستوى الاصطلاح، فالدولة عند العرب لم تكن مؤسسة قائمة كما هو حالها في الدول الحديثة، بل اشتُقّ لفظها من تداول السلطة وانتقالها من فرد إلى فرد، ومن سلالة إلى أخرى، ما يجعل اعتلاء السلطة في حيز سادت فيه الحضارة العربية مغامرةً لا تعدوها مغامرة، طموح يجب على صاحبه أن يتحلى بجسارة لا مثيل لها.
بَيْدَ أن هذه الصفات عندما تجتمع في شخص واحد، كبطلنا اليوم، تسيِّر له طريقًا إلى التاريخ، بمكارمه أو بنواقصه.
طَبع «بوحمارة» تاريخ المغرب في نهاية القرن التاسع عشر، وخلق ملحمته العسكرية وسلطنته الجديدة في ربوعه. من بين أنياب السلطان غربًا والمستعمِر الفرنسي شرقًا انبلجت قَوْمَته، قومةٌ أُسيلت حولها أنهار حبر، وتباينت منها المواقف.
بقي الصراع قائمًا إلى الآن، بين من يقول بكونه ثوريًّا ومن يعتبره متآمرًا على السلطة الشرعية، في أحاديث الشباب المعاصر الذي كَلّ من التعتيم الرسمي على هذه الحادثة التاريخية الفذة. فذة لا لكونها نادرة الحدوث، بل للنجاحات التي حققتها، والقوة التي طفت بها إلى السطح.
المغامرة كاملة
من قبائل زرهون وسط المغرب، ذات النسب العربي القرشي الذي يمتد إلى المولى إدريس الأول، ظهر رجل سيقلب موازين المغرب لما يزيد عن عقد من الزمن، إنه الجيلالي بن عبد السلام بن إدريس اليوسفي الزرهوني، الملقّب بـ«بوحمارة» أو «بوحمالة» أو «بوتغيولت».
رغم التقاربات اللفظية بين مختلف الألقاب، فإن اختلافها داخل الأسانيد الخبرية التي تؤرِّخ لآثار الرجل دلالة تفضح عين كاتبها، وتكشف سريرة خَطِّه تلك السطور، الواجب فيها افتراضًا أن تكون محايدة، بَيْد أن السبيل إلى الحياد ممتنع في وقت يكون الحياد ذات نفسه شططًا في موقف ما.
غير أن اللقب الثاني «بوتغيولت» ترجمة أمازيغية حرفية للقب الأول، أخذ طابعًا خرافيًّا في الثقافة الشعبية، فصار اسم رعب يُرهَب به الأطفال، يؤمن الكبار بخوارقه وكراماته التي يستحيل وجودها لدى البشر العاديين.
وللثالث «بوحمالة» إحالة إلى الحرب والجهاد، فالحمالة في الدارجة المغربية هي ذخيرة الفارس من البارود الذي يستقر في صدور الأعداء، أعداء الدين، أعداء دار الإسلام، أي الأوروبيين.
وُلد الجيلالي بوحمارة في قرية زرهون في ستينيات القرن التاسع عشر، وانتقل بعدها إلى فاس لإكمال دراسته في القرويين. وهناك درس العلوم الأصيلة، الفقه واللغة والفَلَك، مما خوّل له الالتحاق بالمدارس العسكرية التي أُنشأت في عهد الحسن الأول، ليتخرج ضابطًا مهندسًا، ويشغل بعدها وظيفة كاتب في ديوان الخليفة السلطاني، مولاي عمر بن الحسن، الذي كانت له أيضًا مطامع في الحكم، فشلت، فانتهى به الأمر بين يدي «مخازنية» السلطان عبد العزيز ومعه بطانته، التي كان بوحمارة منها.
سيُعتقل الجيلالي الزرهوني ثلاثة أعوام داخل سجن السلطان، و بعد الإفراج عنه، سيرحل شرقًا، حاملًا معه حلمه، درايته بخبايا السلطة الداخلية، وغرضه حشد الناس حوله.
استغل بوحمارة تعاليم السِّحر ليوهم سكان القبائل أنه صاحب خوارق ومن نسل سلطاني.
سيحل بوحمارة في الجزائر متمًّا القرن التاسع عشر، متجولًا بين زواياها وأضرحتها، فتتلمذ على يد مشايخ الطرق، وتشرب أصول الطريقة الشاذلية، واشتق منها تصوفه الخاص الذي أسماه «الطريقة النورانية»، والتي تقوم على أفكار أهمها:
- طاعة الشيخ لمريده طاعةً تامةً
- الزهد في الدنيا للتسامي في مقامات الإيمان
- الولاية للإمام المتحلي بالخوارق والكرامات
- ضرورة أن يكون الإمام قرشيًّا، يقيم الحق بين أهل الإسلام وينجدهم من ضياعهم
سيعود الجيلالي بوحمارة إلى المغرب الشرقي للشروع في دعوته بين القبائل، مستغلًا تعاليم السِّحر والشعوذة التي لُقِّن إياها في جولاته بين الزوايا والرابطات الصوفية، موهمًا الناس أنه صاحب خوارق، ومشيعًا بينهم أنه من نسل سلطاني وابن الحسن الأول المغيّب في السجون.
يخبرنا صاحب كتاب «المعسول»، العلامة المختار السوسي، أن بوحمارة، لِما له من سحر وعلم بالأسماء، خرج من الدار بين الناس ولم يظهر للعيون، ويؤكد محمد غريط ذلك في كتابه «فواصل الجمان»، مُقرًّا بأن بوحمارة كان ساحرًا شَقّ عصى الطاعة.
بعدما نجح الجلالي الزرهوني في تجميع الناس حوله، هَمّ ببسط نفوذه على أقطار المغرب، الذي كان حينها يقبع في حالة تفسخ دائم للسلطة المركزية. على المناطق الحدودية شرقًا، وفي الريف شمالًا، كان يَعُم المنطقة ما عُرف بـ«السيبة».
أسس بوحمارة دعوته سياسيًّا على خطاب ثنائي، يهاجم السلطان الصغير باعتباره غِرًّا ليست له مقدرة على حكم البلاد، وأن حاكمها الفعلي هو صدره الأعظم المتواطئ مع «الاحتلال النصراني»، ويقيِّم موقف العداء للمستعمر العازم على سلب البلاد وإذلال العباد.
نجح الرجل، عبر دعوته المحكمة وخطاباته المحبوكة، في استمالة قبائل غياثة إلى صفه، مركزًا قوته على ضم تازة إلى مناطق نفوذه. تازة التي كانت نقطة استراتيجية وسطًا بين غرب المغرب وشرقه وشماله وجنوبه. ولكونها متاخمة لفاس، العاصمة السلطانية، وذات بطانة حاقدة على الأجنبي، ولها عَهْد في دعم حركات المقاومة ضده، كحركة الأمير عبد القادر الجزائري.
بالاستيلاء على تازة عام 1901، نجح بوحمارة في تحويل حركته إلى مملكة قائمة، لها سلطة مركزية وجيش نظامي وعاصمة رسمية، تمتد من وجدة شرقًا إلى قصبة سلوان شمالًا إلى تخوم فاس في الغرب. ويخبرنا محمد الصغير الخلوفي، في كتابه «بوحمارة من الجهاد إلى التآمر»، أنه منذ الأيام الأولى لتأسيس السلطنة الجديدة، كان التفكير منصبًّا على إيجاد الموارد المالية والقضاء على المعارضة السياسية والحصول على تأييد الدول الخارجية.
أمام هذا الواقع المفروض بقوة السلاح المتمرد، وجد السلطان عبد العزيز عرشه أمام خطر محدق، كان قد استصغره في ما قبل، بينما هو الآن يجتاح إقطاعات كبرى من أراضيه، ما جعل خيار المواجهة أمرًا واقعًا. ابتدأ بتحريك الفتاوى الفقهية ضده، فتاوى أنكرت على بوحمارة فعله ووضعته موضع التحريم. وفي نفس الوقت، عمد السلطان العلوي إلى توجيه مبعوثيه إلى شيوخ القبائل يدعونهم إلى العدول عن دعمهم، والحشد ضده وتفنيد دعوى أنه محمد ابن الحسن الأول العلوي.
غير أن الخيار العسكري كان واجبًا لاجتثاث الحركات (الغارات) التي توالت على مواقع نفوذ السلطة «الشرعية»، وذلك عبر مراحل:
1. المرحلة ما بين 1902 إلى 1907
ميّزت هذه المرحلة انتصارات متوالية لبوحمارة على أعدائه، وتقهقُر جيش السلطان إلى موقع الدفاع عن نقاط نفوذه، بعد أن فشل في هجمتين على تازة وضواحيها.
ينقل الخلوفي أخبار تلك المعارك قائلًا: «استطاع بوحمارة هزم هذه الجيوش والاستيلاء على خيراتها، وقَتَل في المعركة خلقًا كبيرًا، وفَرّ الباقي منهم في حالة تشرد لم يسبق لها مثيل». أفصحت هذه المرحلة عن ضعف جيوش السلطان وتخاذلها، ومدت في صيت بوحمارة، الذي بلغ أقطار المغرب كلها كرقم قوي في معادلة السلطة.
تحالَف السلطان مع فرنسا، فوجد بوحمارة نفسه بين جيش الاستعمار المتقدم من الشرق، وجيش السلطان الضاغط من الغرب.
غير أن بوحمارة بعد هذه التقدمات العسكرية فضّل توجيه جيوشه نحو الشرق، قواعده الخلفية، ليُطْبِق سيطرته النهائية عليها. هذا التوجه يُرجعه محمد الصغير الخلوفي إلى أن بوحمارة أصيب خلال إحدى العمليات العسكرية التي شنها جيش السلطان عليه، فترك وزير حربه نائبًا له على رأس الجيش.
في 1904، سيقع انشقاق في حكومة بوحمارة، انشقاق أحدث شرخًا كبيرًا في مسيرته. إذ سيلتحق وزير حربه وأحد قيادييه بالسلطان في فاس، ما دفع السلطان إلى تكرار محاولة اجتياحها، وهناك سيرتكب جيشه أفظع الجرائم، من سلب ونهب وهتك للأعراض، ما سيثير امتعاض المغاربة على السلطان، وستتخلى قبائل المنطقة عن مساندته بصفة نهائية.
بعد 1904، ستتحالف جنود السلطان مع الفرنسيين، وبالتالي سيجد بوحمارة، العائد بعد اندمال جراحه، بين الجيش الفرنسي المتقدم من الشرق، وجيش السلطان الضاغط من الغرب، فيخسر مجموعة مراكز كانت تواليه، مثل الزاوية البودشيشية، التي تخلى عنه شيخها بعد أن وقع تحت تهديد الفرنسيين.
تنتهي هذه المرحلة بسقوط وجدة محتلةً في يد الفرنسيين، تمهيدًا لاحتلال المغرب كله، في إطار معاهدة الجزيرة الخضراء بوساطة أمريكية. وبحضور 12 دولة أوروبية، قُسِّم المغرب إلى مناطق نفوذ استعماري.
2. المرحلة من 1908 إلى 1909
أمام ما اعتبره المغاربة خيانةً عظمى للأمة، خرج الشعب عن صمته وطالب بعزل السلطان، الذي شاع أنه باع المغرب مقابل «دراجات هوائية»، أفرغ من أجلها نصف خزانة الدولة من الذهب. شائعة غير مؤكدة، لكن فيها ما يحيلنا إلى حقيقتين نُقلتا إلينا من تلك الفترة، أولاهما أن السلطان كان مولعًا باللهو ومفتونًا باختراعات الغرب، والثانية أن المغرب كان في أزمة اقتصادية كبيرة.
يُعزَل السلطان عبد العزيز في أغسطس 1908 بفتوى من فقهاء القرويين، ويحل مكانه أخوه عبد الحفيظ بن الحسن، الذي عُرف عنه اهتمامه بالعلم والثقافة والأدب، وتأليفه عدة أسانيد في تلك المجالات.
انطلقت مقاومة عبد الحفيظ من مراكش بجيش من قبائل الحوز والشاوية. واهتم عبد العزيز بحركة أخيه أكثر من اهتمامه بما يحصل شرقًا، لأنه أوكل دحر بوحمارة للعدو الفرنسي، ولأن البلد يتفسخ من تحت أقدامه بشرعية الدين والأمة، ومُنازعُه في هذه الحالة لا يقل عنه في شرعية السلالة.
بعد القبض على بوحمارة، عُلِّق في قفص تحت أنظار العامة في فاس، وكان يعذّب يوميًّا، ثم أُعدم بالرصاص وانتهت مغامرته إلى الأبد.
فطن بوحمارة إلى ما يُحاك حوله، فعمد إلى منح المستعمر ما يبتغي، وهكذا منح الفرنسيين حق استغلال مناجم الريف الأوسط، وعهد للإسبان بمنجم الحديد في جبل ويكسان، لكن هذا أشعل ضده انتفاضة الريف الأولى بقيادة الثائر محمد أمزيان.
دحر الريفيون بوحمارة عن قصبة سلوان، فغادرها متجهًا إلى مهد حركته تازة، وفي باله ورقة أخيرة يلعبها لدخول فاس بمعونة جيش التازيين الذي جمعه أول ما حل بها. لكن حملته صادفت انتصار السلطان عبد العزيز على أخيه عبد الحفيظ ودخوله فاس، وما كاد جيش بوحمارة يقترب منها حتى رشقته مدافعها فشتت خطوطه، وانهالت عليه هجمات جيش السلطان حتى كسرت شوكته إلى الأبد.
أُلقي القبض على بوحمارة و400 من جنده وموظفيه واقتيدوا إلى فاس، لكن 160 منهم فقط وصلوها أحياء، وهناك أُعدموا كلهم وأُطعمت جثثهم لأسود البلاط الملكي.
بينما ظل بوحمارة معلقًا في قفص تحت أنظار العامة في فاس، يعذب يوميًّا، ثم أُعدم رميًا بالرصاص في 2 سبتمبر عام 1909، ونهشت جثته وحوش السلطان كذلك، معلنةً انتهاء مغامرته إلى الأبد.
قد يهمك أيضًا: اتحاد المغرب العربي: حلم الوحدة الضائع
بوحمارة: مغامر ثوري أم متآمر على السلطان؟
تكشف لنا تركيبة السلطة في مغرب القرن التاسع عشر انقسام القرار السياسي داخل المجتمع حول ثلاث بنيات:
- القبيلة
- الزاوية
- المخزن
تربط البنيات الثلاثة علاقات متشعبة ومتداخلة، تشكِّل الخطاب العام السائد بين الشعب حينها.
فالقبيلة وحدة ذات بنية هرمية، تحتل مجالًا جغرافيًّا معينًا وخاصًّا بها، تنطلق من الأسرة كقاعدة تنظيم صعودًا إلى مشيخة القبيلة، يُبنى داخلها القرار السياسي عبر ارتباطٍ بواقع الحال المعاش والمعيشي، وارتباطٍ آخر بتوجهات الوحدات السلطوية الأخرى، روحيًّا بشيخ الزاوية والفقيه، وقانونيًّا وشرعيًّا بالسلطة المركزية السلطانية، أو ما يُصطَلح على تسميته في الدارجة المغربي «المخزن».
برز بوحمارة تارةً كشيخ طريقة له كرامات، وتارةً مجاهدًا يدافع عن الحِمى، وتارةً منتحلًا صفة ابن الحسن الأول، مطالبًا بأحقيته في عرش البلاد.
على مستوى تنظيمي أعلى، يقبع المخزن على رأس سلطة البلد، تربطه بالشعب علاقات السيادة السياسية، وارتباط الجبايات والقوانين المؤطرة للجيش، ويستمد شرعيته من مولاة الشعب له، راضيًا أم مرغمًا (بالهيبة)، وكذلك له شرعية إنسانية «شريفة» تمتد إلى أهل بيت الرسول.
بينما الوسط موكول إلى مؤسسة الزاوية، وسطية حذرة آيلة إلى المَيْل بما تمليه عليها المصلحة.
ما يظهر لنا من حركة بوحمارة أن بصيرته من فرط ذكائها لم تخطئ فهم واقعها، بصيرة نلحظ في أثناء تحركاته تذبذب خطابها، ولعبه على مستويات مختلفة. كيف لا وهو سليل دار السلطة المخزنية بالوظيفة، ومارس داخل مطبخها السياسي.
هكذا يبرز لنا بوحمارة تارةً شيخ طريقة ذا كرامات وخوارق يسحر بها الدُّهَماء ممن التفّ حوله، وتارةً أخرى مجاهدًا يدافع عن الحِمى بسلاح الحق وسلطة اللفظ، وتارة ثالثةً منتحلًا صفة ابن الحسن الأول، مطالبًا بأحقيته في عرش البلاد بدل السلطان الضعيف ومَكائد وزيره الأعظم.
أربك بوحمارة حسابات تابعيه، فتباينت مواقفهم تجاه صنيعه، فاتخذ فقهاء القرويين منه الحذر، وصفوه في مجموع الفتاوى التي أخذت مسألته بالفَتّان والخارج عن طاعة ولي الأمر، خروجًا منهيًّا عنه في الفقه المالكي الذي تتبعه الأمة المغربية.
غير أن هكذا موقف لم يُلزم عموم علماء الفاس، فقد كان منهم من رأى فيه مجاهدًا عازت الأمة حضوره لدفع كرب الاستعمار عنها. ويخبرنا المختار السوسي، في كتابه «إيليغ قديمًا وحديثًا»، أنه قد اغتر به حتى كبار علماء القرويين، ويسترسل في الحكي عن استبشار بعض فقهاء فاس لمّا أتاهم خبر اقتراب حملة بوحمارة.
في حين كان عامة الشعب يقبعون بين مفارقة، حدُّها الأول خطر الاستعمار الذي كان يزحف من الشرق، والامتعاض من سلطان خيّب آمالهم. زادها عدم استيعابهم إصلاحات العزيزية التي كانت تسعى إلى عصرنة الدولة، بإلغاء الأعشار والزكاة التقليدية وتعويضها بمكوس حديثة، وإرسال البعثات العلمية إلى أوروبا لتحل محل أهل الحَلِّ والعَقْد في البلد، وهي إصلاحات واجهت عقبة الارتباط بالأصالة، الذي تحول إلى عداء فلح في إفشالها.
كل هذه المؤشرات التي شكّلت الوعي العام المغربي حينها دفعت الشعب أكثر إلى الإفتتان بحركة بوحمارة، وكذلك إلى الانفصال عنه بعد تصدع مشروعه حين استعان بالمستعمر.
في عيون معاصريها وما ورد عنهم من أخبار، لا تبدو حركة بوحمارة أكثر من مغامرة طموحة لانتزاع السلطة ممن يملك زمامها في تلك الفترة، خلق سلطة جديدة منازعة للقديمة، بآلياتها نفسها وتجربته ذاتها، وهذا ينزع عنها حُلّة الثورية التي لم تلبسها يومًا إلا في خيال من كان له موقف عاطفي من السلطة القائمة في الوقت المعاصر.
سفيان البالي