أمم مقهورة: «البلوش» في مواجهة عدم الاعتراف
«التاريخ يكتبه المنتصر دومًا، ولا يعترف أبدًا بالخاسرين». وفق هذه القاعدة سقط كثير من الأمم والقوميات من حسابات الزمان، بعد أن استخرج لهم المنتصر شهادة وفاة أخرجتهم من حسابات التاريخ والجغرافيا رغم كونهم أحياء يرزقون.
هؤلاء الموتى الأحياء، المخفيون من التاريخ، كانوا يومًا ما ملء السمع والبصر، وكانت لهم ممالك ودول، ولكن تاه كل ذلك بعد هزيمتهم على يد المستعمرين. ورغم قرون التيه الاستعماري ما زالت هذه القوي تبحث عن هويتها، وتسعي جاهدة لاستعادة تاريخها وأراضيها وثقافتها.
في صدارة الأمم التي دمر الاستعمار تاريخها وحاضرها يأتي «البلوش»، تلك القومية التي شهد تاريخها نشأة ممالك وإمارات مستقلة على أرض «بلوشستان» بدءًا من القرن الرابع عشر الميلادي.
من هم البلوش
«بلوچ» أو «البلوش» أحد الأعراق التي توجد في باكستان وإيران وأفغانستان. ويتميزون بلغتهم الخاصة التي هي مزيج من عدة لغات، منها العربية والهندية والفارسية، ويتميزون أيضًا بعادات وتقاليد خاصة، ألا أنهم اندمجوا في المجتمعات التي هاجروا إليها، ومنها المجتمعات الخليجية والعُمانية على الخصوص.
بحسب رياض الريس في كتابه «العرب وجيرانهم..الأقليات القومية في الوطن العربي» يرجع أصل البلوش إلى العرب الذين سكنوا بين النهرين، وإلى الكلدانيين من نمرود وبيلوس، ومن هنا جاء اسم البلوش.
بلوشستان
يقع إقليم بلوشستان جنوب غرب آسيا على الحدود بين باكستان وأفغانستان وإيران. ويوجد ثلثا مساحته في باكستان، والثلث الآخر في إيران، ويسكنه نحو 11.5 مليون نسمة من قومية البلوش.
يرى الكاتب البلوشي تاج محمد بريسيك، أن أكثر تاريخ البلوش القديم ضبابي، وغير يقيني، ويستند إلى روايات أسطورية.
يشير سامح عبود في كتابه «الأقليات الدينية والعرقية والمذهبية في إيران» إلى أن الاسم القديم لأرض بلوشستان هو «مُكا»، وبمرور الوقت تغير الاسم إلى «مُكران»، وتحول اسمها إلى بلوشستان بعد أن استقرت بها القبائل البلوشية.
يري بعض المستشرقين أن أفضل طريقة لفهم بلوشستان يكون باعتبارها منطقة لا يملكها أحد، فلم يهتم أحد بها لأنه جبلية وصحراوية، ودون أهمية تاريخية محددة. لهذا السبب، فإن بلوشستان عادة ما كانت منطقة لجوء أشخاص لم يمكن استيعابهم في الإمبراطوريتين الهندية أو الإيرانية، هؤلاء الأشخاص انتقلوا إلى بلوشستان، واتخذوا منها ملجأ، وبنوا فيها لأنفسهم مستقرًّا، وبحسب الفكر البلوشي، فإن البلوش يرون أنفسهم مجموعات ذات أصل عربي.
يؤكد صاحب كتاب «الأقليات في إيران» أن البلوش يختلفون عرقيًّا ولغويًّا عن الفرس، ويتحدثون البلوشية، ويتوزعون على قبائل عدة، ويجمعهم لقب «البلوشي» نسبه إلى جبل البلوص في مكران. وكان سكانه الأُوَل من قبائل الأزد القحطانية، وبني تميم، وبكر بن وائل، وقريش، وحمير، ما يشي بأصلهم العربي السامي لا الفارسي الأذري. وأغلب البلوش مسلمون سُنَّة أحناف، وقبل دخولهم الإسلام كانوا يدينون بالزرادشتية.
لكن الكاتب البلوشي تاج محمد بريسيك، في كتابه «القومية البلوشية: أصولها وتطورها»، والذى ترجمه إلى العربية الباحث العماني أحمد بن يعقوب، يرى أن أكثر تاريخ البلوش القديم ضبابي، وغير يقيني، ويستند إلى روايات أسطورية، مشيرًا إلى أن الدراسات الغربية الحديثة تقرر أن البلوش مزيج عرقي من عدة شعوب وطبقات.
معاناة البلوش
على الرغم من أن منطقة بلوشستان غنية بالموارد الطبيعية، لا توجد فيها أي استثمارات تقريبًا.
يعاني البلوش في باكستان وإيران الأمَرَّيْن في ظل أنظمة لا تعترف بهم، ولا تراهم سوى إرهابيين، أو أقلية مذهبية يجب أن تلتزم بمذهب الدولة.
ففي باكستان يشكل الإقليم 43% من مساحة باكستان، وسكانه لا يتجاوزون أربعة ملايين نسمة.
على الرغم من أن منطقة بلوشستان غنية بالموارد الطبيعية، فإنَّ سكَّانها من أفقر أهالي باكستان. فمن النادر وجود بنية تحتية متينة، تمامًا مثلما هي الحال مع إمدادات الكهرباء والمياه النظيفة الصالحة للشرب.
أما في إيران، فبلوشستان عبارة عن إقليم جاف يقع جنوب شرق البلاد على حافة الهضبة الإيرانية، وتبلغ مساحة بلوشستان إيران (70 ألف ميل مربع)، وعدد سكان الإقليم يبلغ مليون نسمة، أي نحو (من 2 إلى 3%) من عدد سكان إيران الكلي، حسب إحصائية 2009، أغلبهم على المذهب السني.
معاناة بلوش إيران ذات بعد طائفي مذهبي، إذ يُنظَر إلى البلوش كأقلية عرقية، وكذلك كجزء من الأقلية السُّنية التي يجب عليها أن تخضع للسيادة الشيعية.
لا تتورع السلطات الإيرانية عن اتخاذ الإجراءات العقابية والعنصرية ضد البلوش، فقد مُنِعَت الموسيقى البلوشية، وحُظِرَت الأسماء، وكذلك التعليم باللغة البلوشية، حتى تراجعت نسبة تعليم البلوش بشكل كبير، فلم يلتحق بالتعليم الجامعي أكثر من ألفي طالب بلوشي، من أصل أكثر من أربعة ملايين طالب جامعي إيراني. وحُرِمَ البلوش من المناصب حتى داخل مناطقهم. ورغم أن الإقليم من أغنى الأقاليم بالنفط والذهب والغاز واليورانيوم والنحاس، فإن التنمية فيه تكاد تنعدم، مع بطالة كبيرة وفقر شديد.
البلوش والخليج
يشير رياض نجيب في كتابه «العرب وجيرانهم» إلى أن الفقر المدقع في بلوشستان دفع بمئات الآلاف إلى الهجرة للدول الخليجية، ونظرًا لقدراتهم القتالية، ولأن القتال هو الحرفة التي يجيدونها، فقد استغلت دول الخليج ذلك في تجنيسهم كمقاتلين في جيوشها لأنهم مسلمون سُنَّة.
يرى نجيب أن الوجود البلوشي في الخليج لا يمثل حالة أو قضية، وبخاصة أن عددًا كبيرًا منهم ما زال «بدون» لا يتمتعون بجنسية الدول الخليجية التي هاجروا إليها ويقيمون فيها، وهي بالطبع قضية محسومة باعتبارهم مهاجرين إلى الخليج، واندمجوا في دوله ومجتمعاته باعتبارهم مواطنين، وإن كانوا ما زالوا يحتفظون بلغتهم وثقافتهم المميزة.
ويعاني كثير منهم، وبخاصة كبار السن، في الدول الخليجية ضيق المعيشة لأنهم «بدون»، إذ يعيشون على الصدقات والزكاة.
تاريخ مشرف
ضمت باكستان الأراضي البلوشية إليها بموافقة تثير الجدل للخان البلوشي، الذي قدَّر أن رفضه سيؤدي إلى حرب لا يقدر البلوش على خوضها.
هذا الوضع المزري الذي يعيشه البلوش ربما يكون طارئًا على تلك القومية التي شهد تاريخها نشأة ممالك وإمارات ودول، فقد بدأ التميز البلوشي بالظهور الواضح في القرن الثاني عشر الميلادي، وظهرت لهم في القرنين السادس عشر والسابع عشر دول قائمة على الزعامات الأرستقراطية والإقطاعية.
وفي القرن الثامن عشر ظهرت «خانية كلات» البلوشية التي ظلت بمثابة دولة للبلوش حتى عام 1839 عندما أُخضِعت المنطقة للنفوذ البريطاني، وفي أثناء ذلك قُسِّمت البلاد البلوشية بين الهند (لاحقًا باكستان) وإيران وأفغانستان.
بحسب دراسة «صراع القوى المتنافسة فى إقليم بلوشستان» للباحث الإيراني محمد حسن بور، فإنه رغم الاحتلال استمر البلوش في الحكم من 1858 إلى 1947 لأن البريطانيين لم يعطلوا مؤسسات الحكم البلوشية، بل أنشأوا إدارة موازية خاصة بهم.
يذكر رياض نجيب الريس في كتاب «العرب وجيرانهم» أنه في عام 1947 أعلن البلوش دولتهم المستقلة إثر الانسحاب البريطاني من الهند، برئاسة خان كلات، وأحمد يار خان، وجرت انتخابات نيابية، وشكَّل القوميون البلوش الحكومة.
لكن هذه الدولة المستقلة لم تستمر سوى ثمانية أشهر، وضمت باكستان الأراضي البلوشية إليها، وبموافقة تثير الجدل للخان البلوشي الذي كان بمثابة حاكم البلوش «مير أحمد يار خان»، ولعله قدَّر أن هناك إصرارًا باكستانيًّا وبريطانيًّا على ضم بلوشستان، وأن الرفض سيؤدي إلى حرب لا يقدر البلوش على خوضها. يضاف إلى ذلك أيضًا عدم وجود وحدة وطنية كافية بين القبائل البلوشية تستطيع أن تقود صراعًا من أجل الاستقلال.
احتلال وثورات
في مواجهة مطالب القومية البلوشية، المتمثلة في وحدة أراضي الإقليم والحكم الذاتي، تحالفت إيران وباكستان لقمع أي مطالب للبلوش.
لا يعني ذلك أن قضية الاستقلال انتهت حينها تمامًا. فبحسب حسن بور، فإن البلوش لم يقبلوا، ولم يعترفوا بخطوط التقسيم التي فرضها الاستعمار على الإقليم بحكم الأمر الواقع، بل وناضلوا من أجل استعادة وحدتهم وتأكيد سيادتهم على أراضيهم. ويتضح هذا من خلال الثورات المتعددة لشعب بلوشستان ضد باكستان في أعوام 1948 و1958 و1962 و1973، إضافة إلى الاحتجاجات المستمرة التي تعود بداياتها إلى 2005.
إضافة إلى نضالهم ضد إيران منذ احتلالها غرب بلوشستان عام 1928، حيث شهد غرب لوشستان ثورات عام 1930 و1940 و1950 التي عُرِفَت باسم ثورة «مير دادشاه».
في مواجهة مطالب القومية البلوشية المتمثلة في وحدة أراضي الإقليم والحكم الذاتي، وبالتالي تأكيد الانفصال، فإن إيران وباكستان قد تحالفتا من أجل إبقاء الوضع الحالي وقمع أي مطالب للبلوش.
الصراع على بلوشستان
شأنهم شان أي أقلية، يمثل البلوش جزءًا من سياسة القوى الدولية في تحقيق مصالحها من خلال المتاجرة بأحلامها واستغلال طموحاتها، وتعيش هذه الأقليات بين كونها ورقة تتقاذفها المصالح الدولية وموضع إتهام دائم بالخيانة من الحكومة المركزية.
فقد شهدت فترة ثمانينيات القرن دعمًا للبلوش من الاتحاد السوفييتي بسبب التعاون بين الولايات المتحدة الأمريكية وباكستان خلال فترة الاحتلال السوفييتي لأفغانستان.
في الوقت الحاضر تعد الهند (التي تمثِّل عدو باكستان اللدود والأبدي) واحدة من أكبر المؤيدين لاستقلال البلوش. ولذلك، فإن الاستخبارات الباكستانية (ISI) تتَّهم الحكومة الهندية منذ وقت طويل بتقديم الدعم الفعَّال للجماعات البلوشية المسلحة وتدريبها في معسكرات تدريب.
وبحسب دراسة «بلوشستان.. صراع متصاعد فيها وعليها»، فإن الصراع يتصاعد اليوم في بلوشستان وعليها، ويتمثل الصراع في ميناء «غوادر» الذي يُتوقَّع أن ينافس موانئ إقليمية كبرى، وسيوفر طرقًا سهلة لنقل الغاز الطبيعي من آسيا الوسطى إلى خارجها. وهناك صراع أميركي-صيني على هذا الميناء الذي تبنيه شركات صينية لأن الميناء سيوفر وجودًا صينيًّا قويًّا على بحر العرب الذي يحوي 80% من مصادر طاقة العالم.
وفي ظل كل هذا الصراع، يبدو البلوش أنفسهم مهمشين ومنسيين تمامًا، حتى لو كان الصراع يتمحور حولهم.
محسن عوض الله