المستقبل الآن: هكذا سنتحكم في ما حولنا بمجرد التفكير
مشارط الجراحين زارت كل سنتيمتر من المخ البشري، ولطالما حاولت أن تساعد وتنقذ حيوات كثيرين، بعد أن حوّلها قصور في تكوين محركات أجسامهم إلى حياة «مع إيقاف التنفيذ». لكن، رغم هذا، يظل ذلك الصندوق الأسود في أجسامنا محكم الإغلاق، لا نعرف عن أسراره الكثير.
إلا أن العلماء بدؤوا في عام 2017 يسلطون الضوء بتركيز شديد على اقتحام هذا العالم لفهمه وإطلاق قدراته الخفية، بل وتوصيله بمثيله الإلكتروني، كي يصبح له واجهة يمكن عبرها ترقية قدرات مخك وتسهيل التحكم في العالم من حولك بمجرد أن تفكر في الشيء الذي ترغب في فعله، دون الحاجة لبذل مزيد من المجهود البدني.
محاولات لاختراق العقل
لعلاج فاقدي البصر، هناك جهاز يعيد الرؤية بشكل جزئي عن طريق إرسال الصور إلى شريحة مزروعة داخل العصب البصري.
بالسفر عبر الزمن إلى ثلاثينيات القرن الماضي، تحديدًا عام 1924، نجح عالم الأعصاب الألماني «هانز بيرغر» في تتبع نشاط المخ البشري والطاقة الناتجة عنه، باستخدام أجهزة بدائية للرسم الدماغي الكهربائي «Electroencephalography»، أو «EEG» اختصارًا.
اعتمدت تلك الأجهزة على إدخال أسلاك من الفضة إلى أسفل فروة الرأس، لكن بتطور التكنولوجيا صارت تستخدم رقائق فضية تغطي الرأس، ليصبح من السهل إلتقاط الإشارات الدماغية وقياس النشاط الكهربائي للمخ.
وبعد مرور نحو 50 عامًا، أجرى فريق من الباحثين من المركز البحثي الإقليمي وكلية الصيدلة في جامعة واشنطن تجربة ناجحة على مجموعة من القرود المقيّدة عام 1969، وفي التجربة تحكمت القرود في ذراع آلية متصلة بمنطقة القشرة الحركية (Motor Cortex) في أمخاخها، وهي المنطقة المسؤولة عن التخطيط والحركات الطوعية للجسم.
خلال التجربة، أثار الباحثون انتباه القرود تجاه عناصر قريبة من الذراع الإلكترونية، مثل قطع من الطعام، مما دفعها إلى التركيز على الذراع والتفيكر في الحركة بشكل قوي للحصول على الطعام، وأجبر المخ على إرسال إشارات عصبية كهربائية من القشرة الحركية إلى الذراع الآلية، فتحركت لتلتقط الطعام وتعود به إلى أفواه القردة.
بالدخول في الألفية الجديدة، صار الشاب «جسنس نومان» واحدًا من 16 شخصًا فقط حصلوا على الجيل الثاني من الجهاز الدماغي للباحث «ويليام دوبيليه»، الذي يعمل على تنشيط العصب البصري في المخ لاستعادة الرؤية عند فاقديها بشكل جزئي، عن طريق كاميرا داخل هيكل نظارة عادية، ترسل الصور إلى شريحة مزروعة داخل العصب البصري، وتحتوي على 64 إلكترونًا.
نجحت تلك التكنولوجيا في إنتاج الإحساس برؤية الضوء عبر العين، أو ما يُعرف بجسيمات «Phosphens»، التي تظهر في صورة نقاط وهمية عندما فرك عينيك بيديك.
كيف تتكون ذاكرتنا؟
انشغل الباحثون لسنوات طويلة في مسألة تحرير البيانات التي نحتفظ بها في ذاكرتنا، سواءً بالاضافة أو الحذف أو التعديل.
كلنا لدينا ذكريات كثيرًا ما نتمنى أن نتخلص منها لكونها مؤلمة أو حزينة، وأخرى نرغب في أن نعيشها ألف مرة أخرى، لكن سواءً أكانت الذكرى حزينة أو سعيدة، فإن طريقة تكوينها وتسجيلها في ذاكرتنا داخل المخ واحدة، بحسب الموقف وشدته ومدى نتائجه على حياتك، وحدة ودقة تفاصيله، والأشخاص الذين يجمعك بهم ذلك الموقف، وكل تلك العوامل تحدد إن كانت الذكرى ستعيش معك إلى الأبد، أم أنها ستكون لحظية ولن تسترجع منها شيئًا بعد ساعة من حدوثها.
المسار العلمي لتكوين الذاكرة يعتمد على تنشيط البروتينات لخلايا المخ كي تنمو وتكوِّن اتصالًا جديدًا بمركز الذاكرة، وبالتالي فتح اتصال كهربي جديد في عقلك. وكلما كانت تلك الذكرى ذات عاطفة قوية ومرتبطة بشخص قريب منك، كان تأثيرها قويًّا وعميقًا، بحيث تسترجع تفاصيل أكبر عنها في كل مرة تذكرتها.
اقرأ أيضًا: حكايتان عن ألاعيب العقل: هل علينا أن نشك في ذكرياتنا؟
انشغل الباحثون لسنوات طويلة بمسألة تحرير البيانات التي نحتفظ بها في ذاكرتنا، سواءً بالاضافة أو الحذف أو التعديل. قد يكون الأمر أشبه بفيلم خيال علمي، لأن أفلام هوليوود تعمقت بشدة في مجال زراعة الأفكار والذاكرة في المخ البشري، وأشهرها «Eternal Sunshine for the Spotless Mind» و«Total Recall» و«Inception»، لكن تمكن الباحثون من تحويل الأمر إلى حقيقة يمكن تطبيقها داخل العقل البشري.
استطاعت مجموعة من الباحثين أن يتخلصوا من الذكريات الحزينة، فعندما تبدأ في تذكر لحظة قاسية في حياتك، ما يحدث أنك تسترجع الموقف من البداية، وتبدأ في متابعة سير الأحداث في ذاكرتك حتى تصل إلى اللحظة الصعبة، التي فقدت فيها إنسانًا عزيزًا أو رحلتَ عن عائلتك لفترة طويلة أو خسرت عملك، وعندها يتدخل الباحثون ويقاطعون استرجاعك للذكرى، فتضطرب ذاكرتك وتمحوها، مِن ثَمّ، لن تمر تلك اللحظة السيئة ثانيةً في ذهنك، وسيخزن عقلك الذكرى على هذه الوضعية الجديدة.
المقاطعة التي ينفذها العلماء تكون بحقنك بعقار يُحدث اضطرابًا في عملية استرجاع الذكرى، ويتسبب في الإخلال بأحداثها في تلك النقطة تحديدًا، ومن ثَمّ إزالتها، وبعد ذلك يحدث إعادة ترتيب للذكرى مرةً أخرى دون الجزء السيئ.
وبذلك ستتمكن قريبًا، كلما مررت بمرحلة صعبة في حياتك، فارقت عزيزًا أو فشلت أو تُوفي أحد الأقربين إلى قلبك أو غير ذلك، من التخلص من هذا الألم إلى الأبد، حتى أنك لن تتذكر أنك مررت بموقف كهذا يومًا ما.
مخك Connected
إن كان مجرد أقصى طموحك أن توصل عقلك بالكمبيوتر وتضيف وتحذف المعلومات منه، فإن الباحثين في جامعة Wits الجنوب إفريقية تمكنوا في سبتمبر 2017 من توصيل مخ بشري بشبكة الإنترنت، عن طريق جهاز قياس النشاط الكهربائي للمخ (EEG)، الذي يبث هذا النشاط إلى شريحة «Raspberry Pi» إلكترونية، ترسل بدورها تلك البيانات إلى برنامج يعمل على موقع إلكتروني، وبالتالي يمكن لأي شخص مطالعة تلك البيانات الآتية من المخ في وقت حدوثها.
«آدم بانتاويتز»، أحد المشاركين في المشروع، أكد أنك تستطيع متابعة نشاط عقلك بشكل مباشر، وتحفيزه على التفكير في شيء ما أو أداء فعل معين، وفي نفس الوقت يمكنك معرفة التغيرات التي تحدث لعقلك جراء ذلك.
أطلق الفريق البحثي على المشروع اسم «Brainternet»، وهو مزيج من كلمتي «Brain» (مخ) و«Internet» بالإنجليزية، وهي التجربة الأولى من نوعها على مستوى العالم.
قد يعجبك أيضًا: هكذا أصبحنا على بُعد خطوة من قراءة أفكار الآخرين
زوكربيرغ وماسك: من يحصل على مخك أولًا؟
ابتكر فيسبوك أسلوبًا للكتابة على لوحة مفاتيح افتراضية باستخدام المخ، سيفيد المصابين بإعاقة.
يتسابق عمالقة التقنية طوال عام 2017 على الدخول إلى عقلك، وجعلك تستطيع أن تتحكم في كل ما حولك بمجرد التفكير، وتبدو المنافسة شرسة بين مارك زوكربيرغ، مؤسس فيسبوك، والملياردير إيلون ماسك، مؤسس شركات «تسلا» و«سبيس إكس»، ولكلٍّ منهما محاولات عديدة لتقديم نفسه باعتباره رائد سوق اختراق العقول.
فخلال المؤتمر السنوي لفيسبوك «F8 2017»، استعرضت «ريجينا دوغان»، المديرة السابقة لقطاع «Building 8» السري، المتخصص في تطوير تقنيات مستقبلية تعتمد على استخدام عقل الإنسان لإتمام مختلف المهام المادية دون حركة مباشرة، مجموعة تقنيات حديثة تعتمد على استخدام الإشارات العصبية للمخ في أداء مهام متنوعة.
عرضت دوغان أسلوبًا للكتابة على لوحة مفاتيح افتراضية، عن طريق مجموعة من المستشعرات تقيس وتراقب الخلايا العصبية داخل المخ، وبمجرد أن يركز المستخدِم على كتابة حرف بعينه على لوحة المفاتيح أمامه، تلتقط المستشعرات تلك المعلومة وترسلها إلى جهاز كمبيوتر، يترجمها عن طريق واجهة إلكترونية تفهم وتحلل تلك الإشارة، وتحولها إلى أمر بالضغط على الحرف المطلوب، وكل ذلك في جزء من الثانية، ودون أي حركة من يدي المستخدم.
وصل معدل الكتابة عن طريق تلك التقنية إلى ثماني كلمات في الدقيقة الواحدة، أي ثُلث سرعة الكتابة على شاشة الهاتف الذكي، لكنها سرعة كبيرة بالنسبة إلى من يعانون إعاقة أو ظروف تمنعهم من التحكم في حركة وتركيز أيديهم، للكتابة على لوحات المفاتيح الميكانيكية أو الشاشات اللمسية، وكذلك من يعانون شللًا كاملًا.
لم تتوقف دوغان عند هذا الحد، فقد أشارت إلى أن فيسبوك يتعاون مع 60 باحثًا من جامعات العالم لتطوير نظام إلكتروني قادر على تحويل ما تفكر فيه إلى كلمات مكتوبة بمعدل مئة كلمة في الدقيقة، دون أن تحتاج إلى التركيز على لوحة مفاتيح، أو حتى إخراج هاتفك من جيبك، وذلك سيطور مستوى تبادل الرسائل النصية والتراسل الفوري بشكل كبير.
اقرأ أيضًا: الشيخوخة يمكن علاجها.. الموت يمكن تأجيله
في المقابل، يسعى إيلون ماسك إلى دعم الجهود البحثية من خلال مؤسسة «Neuralink»، التي تهدف إلى تطوير وتصنيع أجهزة وإضافات برمجية ملموسة يمكن زرعها داخل العقل البشري بحيث تطوِّر قدراته وإمكانياته، ليستطيع مواكبة التطور السريع في الذكاء الصناعي الإلكتروني.
يهدف ماسك إلى أن تكون للبشر اليد العليا وليس العقول الإلكترونية، وهو السيناريو الذي يحذر منه دومًا، ويتنبأ بأن التطور المطرد في مجال الذكاء الصناعي سيقلب السحر على الساحر، فتسيطر العقول الإلكترونية على البشر الذين طوروها.
محمد عادل