بحثًا عما هو أسهل: هل تستعبدنا الراحة؟
حين نرى أحدهم يبحث عن الراحة ويهتم بما يجعل حياته أسهل، نظن أن دوافعه أقل قيمة عند مقارنتها بما يُحرك الإنسان لفعل «شيء ما». لا أحد يحب أن يقول إنه اختار فعل شيء ما لمجرد أنه الأسهل فقط. لكن ربما يكون الموضوع أعمق من ذلك.
في مقاله على مجلة «The New York Times»، يتحدث الكاتب «تيم وو» عن أن هذا الدافع بالتحديد: رغبتنا في الخيار الأسهل والأكثر أمنًا، هو الذي يشكل أنماط حياتنا الآن.
ليس من الصعب اعتبار العصر الحالي عصر الرفاهية المطلقة، خصوصًا إذا نظرنا إلى تاريخ البشر وصراعهم الأول للبقاء، والحصول على الاحتياجات الأساسية للحياة التي كانت تستلزم صراعًا مع حيوانات مفترسة، ومعرفةً بطبيعة النبات والغذاء، وفهمًا للمناخ بهدف خدمة الاستقرار باعتباره الغاية الأكثر أهمية بالنسبة إليهم.
كانت الخيارات المتاحة أمام مصير الإنسان محدودة بالزمان والمكان، بشكل كبير. وظلت هكذا غالبية فترات وجود البشر على كوكب الأرض. لكن في العصر الحالي، لا يصعب رؤية الرفاهية باعتبارها أحد أهم محددات الدوافع الإنسانية، فهي تلعب جزءًا كبيرًا في تشكيل مصيرنا، بداية من اليومي وصولًا إلى المستقبلي.
ثورة الراحة المنزلية
الرفاهية كما نعرفها في الوقت الحالي، ظهرت مع بداية القرن العشرين ونهاية القرن التاسع عشر، عندما بدأ إنتاج أجهزة منزلية تجعل عملية التدبير المنزلي أكثر سهولة، لتوفر وقت العمالة المنزلية.
نتحدث هنا عن أجهزة مثل غسالات الملابس وأفران الميكروييف، وكذلك ظهور الأطعمة السريعة والمعلبة في شكلها البدائي، كالفاصوليا المعلبة والشوفان سريع التحضير.
تحوُّل كبير بالطبع، من التعب والعمل اليومي في المنزل، والذي كانت ربات البيوت تلاقيه، إلى نعيم راحة ضغط الأزرار هنا وهناك، وأجهزة تتولى العمل كاملًا.
أسهم هذا في تغيير جذري في الحياة اليومية، وما يتبع ذلك من أسئلة تطرح نفسها في وجه الوجود البشري وغاياته التي يطمح إليها. أصبح لدينا وقت نفكر فيه ببساطة.
رغم انتصار الإنسان على الشقاء، كانت هناك أمور أخرى مفقودة في حياته لا يلبيها التوجه نحو الراحة، منها الشعور بذاتيته والشعور الطاغي بالملل.
جسَّدت أجهزة الدعاية الإيديولجية، في الدول الرأسمالية تحديدًا، التعامل مع أدوات الرفاهية على أنها طريقنا للراحة. الراحة من العمل وتوفير الوقت واستغلاله بدلًا من ذلك في الجلوس لفترة أطول مع العائلة والأصدقاء، أو ممارسة الهوايات المفضلة، أو حتى تخصيصه لعملية تعلُّم مستمر.
هكذا، ببطء وثبات، أُنتِّجت تصورات خيالية في كثير منها، عن حياة بشرية أفضل خالية من الشقاء، صاحبَها تنبؤ بعالم يوتوبي مثالي مفرط في مثاليته، تنتظر البشر في المستقبل نتيجة تحقيق حياة راحة تامة. الراحة هي المخلِّص الذي سيعيد للإنسانية حيازة الوجود، بدلًا من العمل الذي يسلب الأفراد حياتهم الخاصة المتفردة.
لكن الأمر لم يكن كذلك بالفعل، فمع نهاية ستينيات القرن العشرين بدأ ما يُطلق عليه الكاتب تيم وو «ثورة الراحة». وبدأنا نعاني من مأزق خاص. ورغم انتصار الإنسان على دائرة الشقاء والعمل البدني، فقد كانت هناك أمور أخرى مفقودة في حياته لا يلبيها التوجه نحو الراحة، منها الشعور بذاتيته في المقام الأول، إضافة إلى شعور الراحة الطاغي بالملل.
تنطلق فكرة الراحة في أساسها على كابوس العمل البدني، باعتبار أنه يسلب من الإنسانية وقتها الثمين لممارسة حياة طبيعية، ولذلك، ففي حالة توفير هذا الوقت وتخصيصه في أشياء أكثر أهمية، ستصبح الإنسانية أكثر سعادة ورخاء.
في الوقت الذي كانت فيه فكرة الراحة تلعب دور الناقد لسيناريو العمل الشاق، وتقدم نفسها مُخلِّصًا من كل العناء، فقد أسقطت أن الجهد يُكسِب الوقت قيمته بالفعل، وأن فائض الوقت على العكس، يجعلنا أحيانًا أكثر عرضة لعدم فهمه واستغلاله بطريقة صحيحة.
اقرأ أيضًا: «غوغل أسيستانت»: ماذا يعني أن يتولى الذكاء الصناعي جميع أمورنا؟
الرفاهية بدلًا من الراحة
يرى تيم وو أن التغيُّر الملحوظ والفريد من نوعه في ما يتعلق بعالم الراحة والترفية، يمكن إرجاعه إلى بداية ظهور أجهزة الـ«ووكمان». نعم. هذه الأجهزة الصغيرة التي اجتاحت أسواق الموسيقى.
قبل ظهور الووكمان لم يكن هناك تصور بأن يستمع أحدهم إلى الموسيقى دون أن يشاركه آخَر، وظلت الموسيقى شيئًا يصعب اختباره وحدك دون شريك.
شهد عام 1980، تغيرًا ملحوظًا في أيديولوجيا الراحة والترفيه، مع بداية ظهور أجهزة الـ«ووكمان» التي أصدرتها شركة «سوني». يُمكن ملاحظة هذا التغير، في ما يعد به هذا المنتج من طرق استهلاك مختلفة.
في المرحلة الأولى، كانت الأجهزة المختلفة تعدك بأنك سترتاح، لكن مع الووكمان تحديدًا، فأنت ستختار نمط الراحة الذي يناسبك، أنت فقط.
لنتخيل النقلة التي أحدثتها هذه الأجهزة علينا أن نتصور الحياة قبلها. في عالم اعتاد الناس فيه على سماع الموسيقى بشكل جماعي، وعلى اختيارات قد تكون فردية، لكن على جميعهم أن يكونوا مستمعين لها، ولو لم يكن أحد يستمع لها الآن معك، فعلى الأقل يمكنه ذلك. لم يكن هناك تصور بأن يستمع أحدهم إلى الموسيقى التي تنال إعجابه دون أن يتلصص أو يشاركه آخَر، ظلت الموسيقى تحديدًا شيئًا يصعب اختباره وحدك دون شريك.
لهذا السبب كان إصدار شركة سوني فريدًا من نوعه. فقد أصبح مستخدمه ملك المسرح الخاص به، يغوص في اختياره شديد الذاتية، ويستمتع به بشكل فردي للغاية.
هذا المثال، وإن كان يشكل نموذجًا جيدًا للراحة وجعل الأمور أكثر سهولة، فهو أيضًا ينقل الرفاهية إلى تعبير عن الذات والفردانية بشكل أكبر.
الراحة تقرر كل شيء
يقول «إيفان ويليامز»، أحد الشركاء المؤسسيين لموقع تويتر: «الراحة هي التي تقرر كل شيء في الوقت الحالي. أنا أُفضِّل أن أصنع قهوتي بنفسي. لكن ستاربكس فوري ومريح، بالكاد أفعل ما أحب في سبيل الراحة. السهل جميل، والأسهل دائمًا هو الاختيار الأفضل».
هكذا بالضبط، يفقد الأشخاص أحيانًا رغباتهم الخاصة، وربما ينسونها تمامًا، من خلال اختيارات أكثر سهولة وتوفرًا. يمكننا بالفعل التفكير في تاريخ التقدم البشري، على الأقل بداية من العصور الصناعية، على أنها عصور البقاء للأكثر ملائمة وراحة وسهولة.
لم يعد الأمر متعلقًا بفكرة التواصل الاجتماعي نفسه، بقدر ما أصبح مقيدًا بتقليل المجهود الذهني والخيارات المتاحة، لتكون العملية أكثر سهولة.
من الصعب اختيار الأكثر تعقيدًا على حساب السهولة، السهولة والرفاهية هنا تجعل كل الخيارات المتاحة الأخرى غير منطقية، هذه هي الميزة الأقوى، والنمط الظاهر في عصرنا الحالي.
بمجرد أن تستخدم غسالة ملابس. يصبح غسل الملابس على اليدين خيارًا غير منطقي، وبمجرد أن تظهر منصات البث الإلكتروني التي تعرض أفلامك ومسلسلاتك المفضلة، يصبح انتظار ميعاد عرضها على التلفاز أمرًا غير مفهوم أصلًا، وتحدِّي هذا يصبح أكثر صعوبة من الوقت، لأنه يبدو غير منطقي ببساطة. وتصفح مواقع التواصل الاجتماعي من أجهزة الكومبيوتر فقط، يسجل مستويات أقل مع انتشار الهواتف الذكية. في الغالب أنت تقرأ هذا المقال على هاتفك المحمول، لا عبر شاشة كمبيوتر.
يمكنك أن تفكر في فيسبوك أو إنستغرام وبقية صفحات التواصل الاجتماعي ومواقع الشراء الإلكتروني. لم يعد الأمر متعلقًا بفكرة التواصل الاجتماعي نفسه، بقدر ما أصبح مقيدًا بتقليل الموارد العقلية والمجهود الذهني، وتقليل الخيارات المتاحة أمامك لتكون العملية أكثر سهولة.
هذا الأمر بالتحديد ما يجعل الشركات تتنافس على تسهيل إجراءاتها الإلكترونية، والتأكد من سرعة العمليات التي يمكن فعلها بشكل إلكتروني من خلالها، وتسعى في الوقت نفسه إلى تحصيل المعلومات عن مستخدميها وتفضيلاتهم الشخصية، لتقدم الاختيار الأنسب لتحليلات البيانات، وتسهيل عملية الاختيار، والشراء في النهاية. إننا نتوجه بشكل سريع نحو الاختيارات التي تقدمها التكنولوجيا، رغم أنها قد لا تكون الأنسب لنا.
قد يعجبك أيضًا: كيف تشغلنا التكنولوجيا عن أبسط تواصل مع أطفالنا؟
هل نجحت الرفاهية في جعل الحياة أفضل
ليس من السهل القول إن الرفاهية التي وصلت إليها البشرية وضعتها في مأزق، أو أن نرفض الراحة باعتبارها شيئًا شريرًا.
على الرغم من أن المرحلة الثانية من الرفاهية حاولت توفير المساحات الذاتية للأفراد، فقد آل الأمر، في رأي الكاتب، إلى ما يطلق عليه: الفردانية الجمعية. تمثلها شبكات التواصل الاجتماعي.
من السهل أن نقول إن من يحملون هواتف ذكية الآن لديهم حساب أو أكثر على تلك المنصات، وعلى الرغم من اعتبارها مساحات للتعبير عن ذواتهم، فليس من الصعب رؤية التشابه الذي قد يصل إلى حد التماهي في الآراء والتصورات، بل ومن السهل أن تنتشر موضة بين أوساط المستخدمين بسهولة، حتى في حالة مخالفتها رأي المستخدم.
يعطي العالم الإلكتروني القيمة للأشياء بمدى انتشارها، بشكل حرفي. فالقيمة الأساسية لما تنشره على فيسبوك على سبيل المثال، هي مقدار المشاركات التي يحصل عليها، ما يساعد على الانتشار والتفاعل أكثر.
ليس من السهل القول إن الرفاهية التي وصلت إليها البشرية وضعتها في مأزق، أو أن نرفض الراحة باعتبارها شيئًا شريرًا. فعلى النقيض من ذلك، أسهم التواصل الإلكتروني، وهو أحد أهم منتجات الرفاهية الجماعية، في تسهيل الوصول إلى المعلومات وتسهيل اتخاذ القرارات والاتصال بالأشخاص في أنحاء متفرقة من العالم.
قد يهمك أيضًا: هاتفك، حرفيًّا، جزء منك
ما يحاول الكاتب الوصول إليه في النهاية، أن الرفاهية ربما أتاحت للأفراد خيارات واسعة يصعُب حصرها، ووفرت وقتًا طويلًا كان الأفراد ينشغلون فيه بالعمل الشاق، وخففت من عبء المجهود الذي يُبذَل للوصول إلى نتائج مرضية. لكنها في الوقت نفسه، أسهمت في الوصول إلى حالة من الاستنساخ البشري في القرارات والخيارات، ووضعت الوجود الإنساني في مستوى الحيازة. وبعد أن كانت البشرية تعاني من ضيق العمل الشاق في السابق، سقطت في سجن الرفاهية.
من المستحيل رفض آليات الرفاهية في الوقت الحالي، أو الوقوف أمام موجات تطورها وانتشارها. لكن في كل مرة يُعرض أمامك الاختيار، ربما عليك أن تعرف أن الأسهل ليس بالضرورة الأفضل، وربما يتطلب الأفضل بالنسبة إليك بذل بعض المجهود البدني والعقلي، علينا ألا ننسى أبدًا متعة القيام بشيء ما بسيط أو معقد أو بطيء في نفس الوقت، ربما كانت الحياة التي نرغب فيها تختبئ خلف سلسلة من الاختيارات التي تتطلب بذل بعض من الجهد، بعيدًا عن القوالب الجاهزة.
حاتم محيي الدين