هل ينبغي أن يكون العمل الغاية الأساسيَّة من حياتنا؟
يقول تشاك بولانِك (Chuck Palahniuk) في مقدِّمة روايته «Survivor» (النَّاجي الأخير): «أشعرُ في أحيانٍ كثيرة أن الأطفال لا يتعلمون أو يتدربون على شيء، إلا أن يصيروا أفضل تروسٍ ممكنة في ماكينات الشركات الكُبرى لا أكثر. إنهم يُعلِّمونهم أن يكونوا مجرَّد موظَّفين مجتهِدين لا غير، أن يصيروا جزءًا من القطيع».
هؤلاء هم من لا تخلو مسلسلات الكوميديا الأمريكية كلها تقريبًا من السخرية من حياتهم السائرة على وتيرة واحدة، الذين يذهبون إلى العمل في التاسعة ويُفترض أن يغادروا في الخامسة، لكنهم عادةً ما يقضون ساعاتٍ أطول بكثير في المكتب، فلا يتبقَّى من يومهم إلا فترة قصيرة للراحة، قبل أن يتكرَّر الشيء نفسه في اليوم التالي، أي أنهم لا يمارسون أي أنشطة في الحياة غير العمل وحسب.
كثيرون يعتبرون أن العمل هو الجزء الذي يسبق كلَّ ما عداه من تفاصيل الحياة.
في مقالٍ له عن الأهمية التي يحتلها العمل في حياتنا، يعلِّق البروفيسور ستيف تايلور (Steve Taylor)، وهو محاضر علم النفس في جامعة «ليدز بيكت» بالمملكة المتحدة وصاحب كتاب (Back to Sanity)، على هذه الحالة العامة، قائلًا إننا نستهلك حياتنا ونستنزفها في العمل.
لا بد دائمًا من صدمة أولى
يبدأ تايلور مقاله بحكايةٍ موجزة عن ابنة أحد أصدقائه، كانت قد تخرَّجت في الجامعة ونزلت إلى ميدان العمل، فحصلت على وظيفةٍ مكتبية مؤقتة، وفي نهاية أسبوع العمل الأول اتصلت بأهلها باكيةً، تقول لأمِّها إن الوضع شنيع؛ فليس هناك وقت لشيءٍ غير العمل؛ ما يجعلها تعود منهكةً تمامًا إلى البيت كلَّ مساء، فلا تقوى إلا على مشاهدة التليفزيون، توطئةً لأن تستيقظ في الصباح التالي وتبدأ الدورة نفسها من جديد. يختتم البروفيسور الحكاية بأن الفتاة قالت إنه إذا كان العمل هكذا حقًّا، فإنها لا ترغب في قضاء ما تبقَّى من حياتها في ممارَسته!
إذا كنت محظوظًا، فمن الممكن أن تكون وظيفتك ملائمة لاهتماماتك ومهاراتك، وملأى بالتحديات ومحفِّزة على الإبداع.
طيلة عمرنا يُقال لنا مرارًا وتكرارًا إن العمل يجب أن يكون جزءًا رئيسيًّا من حياتنا، والحقيقة أن كثيرين يعدُّونه الجزء الذي يسبق كلَّ ما عداه من اعتبارات الحياة بالفعل؛ فنحن نعرِّف أنفسنا وغيرنا بطبيعة الوظائف التي نشغلها، وكثيرًا ما يكون أول سؤال يُطرح علينا عندما نلتقي بشخصٍ جديد عن المهنة التي نزاولها، بل نقيس سعادتنا بناءً على مدى نجاحنا في وظائفنا. إننا نعمل 40 ساعة في الأسبوع على مدار 48 أسبوعًا من العام، لمدة قد تبلغ 50 عامًا، وهذا لا يتضمن الوقت الذي تستغرقه رحلات الذهاب إلى العمل والإياب منه، ناهيك بالفترات التي نقضيها في الراحة والتعافي من إجهاد العمل نفسه.
العمل ليس كل شيء
هنا يسأل الكاتب: أهذا ما وُلدنا من أجل أن نفعله حقًّا؟ أهذا ما يجب أن تدور الحياة في فلكه؟
طبعًا إذا كنت محظوظًا، فمن الممكن أن تستوفي الوظيفة التي تمارسها شروطك فعلًا؛ وظيفة تلائم اهتماماتك ومهاراتك المتأصلة، وتجدها ملأى بالتحديات ومحفِّزة على الإبداع، وفي هذه الحالة قد تزوِّدك وظيفتك بما يسمِّيه علماء النفس «الانسيابيَّة» (Flow)، وهي حالة من الاستغراق الشديد تُشعرك بالانهماك والحيويَّة، لكن لعلَّ أغلب الناس ليسوا محظوظين لتلك الدرجة؛ فيزاولون وظائف طابعها الرتابة والملل.
العمل كما نعرفه الآن نشاط حديث نسبيًّا، فلعدة آلاف عام قبل اكتشاف الزراعة كان عمل الإنسان الوحيد هو العثور على الطعام.
على أن الكاتب يشكك في هذه الحقائق، قائلًا إنه حتى إذا كانت وظيفة المرء تمدُّه بـ«الانسيابية»، فيجدر بالعمل أن يكون وجهًا واحدًا فقط من وجوه الحياة، بدلًا من أن يكون سِمَتَها التعريفيَّة، فـالعمل 40 ساعةً في الأسبوع يجعل حياتنا ضيِّقة مقيَّدة، ومن ثَم تغيب عن أنظارنا الآفاق الواسعة المفعمة بالاحتمالات والأنشطة والمغامرات، التي تقع خارج نطاق الحياة المتمحورة حول العمل وحده، بينما هناك الكثير جدًّا مما يمكن تعلُّمه في الحياة، ووسائل عديدة للغاية للتطوُّر والنُّمو، وتجارب غزيرة نستوعبها وأنشطة نستمتع بها (بما في ذلك ألا نفعل شيئًا على الإطلاق!)، غير أن الفترات الطويلة التي نقضيها في العمل تجعل العثور على وقتٍ وطاقةٍ لكلِّ تلك الأشياء صعبًا.
اقرأ أيضًا: يبدو أن هناك معنًى لحياتنا بعيدًا عن العمل
تاريخ العمل
يشير تايلور إلى أن العمل كما نعرفه يعدُّ نشاطًا حديثًا نسبيًّا؛ فطيلة تاريخ الجنس البشري وحتى بضعة آلاف سنة ماضية، عاش الإنسان صيادًا وجامع ثمار، فكان «عمله» الأساسي ببساطة أن يعثر على الطعام، وقد تندهش حين تعرف أنه لم يكن يبذل مجهودًا كبيرًا بالضرورة كي يفعل ذلك، إذ يقدِّر علماء الأنثروبولوجيا أن الصيادين وجامعي الثمار كانوا يقضون نحو أربع ساعاتٍ في البحث عن طعام، أما بقيَّة اليوم فوقت فراغ.
ما زلنا نحيا بإرث الثورة الصناعية، وتستعبدنا فكرة خاطئة عن تعريف الحياة بالعمل الذي يجب أن يكون مسعى المرء الرئيسي.
لم تصبح الحياة صعبةً حقًّا إلا عندما شرع أسلافنا في الزراعة، فطحْن الحبوب المستخرَجة من التربة تطلَّب عملًا أشقَّ من الصيد، أو اقتطاف الثمار من الأشجار والنباتات من الأرض، ثم جاءت الثورة الصناعية التي سجنت الإنسان في المصانع والوِرش طيلة ساعات يقظته كلها تقريبًا؛ إذ يعامَل كأنه مجرَّد خامة من الخامات المستخدمة في المصنع، ويعمل في ظروفٍ بشعة مقابل أجرٍ لا يُذكر، ثم يموت في سنٍّ صغيرة عادةً، كأن هذا هو التقدُّم.
ساعات عمل أقل تعني إنتاجًا أكثر
بالطبع تطورت ظروف العمل كثيرًا الآن، على الأقل في البلاد المتقدمة اقتصاديًّا، لكننا ما زلنا لم نقطع الشوط المناسب بعد في المسار السليم، لأننا ما زلنا نحيا بإرث الثورة الصناعية، وتستعبدنا فكرة خاطئة عن تعريف الحياة بالعمل الذي يجب أن يكون مسعى المرء الرئيسي، فـنحن لا نزال نحيا كخاماتٍ اقتصادية قيمتها الأساسية هي ما تُنتجه.
يطرح الكاتب هنا السؤال نفسه الذي قد يطرحه القارئ: ما البديل؟ إذا لم نكدَّ في العمل؛ سينهار الاقتصاد، وعندئذٍ سنعيش جميعًا في فقر. الإجابة أن ذلك ليس صحيحًا بالضرورة؛ فـساعات العمل في معظم دول أوروبا أقصر كثيرًا من الولايات المتحدة والمملكة المتحدة، بينما الإنتاجية أعلى، وثمَّة دول مثل هولندا والدنمارك نجاحها الاقتصادي أكبر من أمريكا وبريطانيا، وليست مصادفةً أن معدلات الرخاء فيها أعلى كذلك، أي أن العمل ساعاتٍ أقل لا يعني الفشل الاقتصادي، بل وقد يكون العكس هو الصحيح، فربما يدفع العمل ساعاتٍ أطول الناس إلى الشعور بالإرهاق والسُّخط، وبالتالي يقلُّ إنتاجهم.
في جميع الأحوال، ربما نكون في حاجةٍ إلى إعادة التفكير في علاقتنا بالاقتصاد بالكامل، فمن الجلي أن سكان هذا العالم لا يستطيعون الاستمرار في إنتاج واستهلاك السِّلع المادية (أي السلع الملموسة التي يمكن وصفها، سواءً من حيث الشكل أو الحجم أو الوزن) بالمعدل الحالي، خصوصًا الآن وقد تطوَّرت دول مثل الصين والهند اقتصاديًّا إلى حدٍ بعيد.
ربما لن يحتاج العالم إلى عملنا
ببساطة، الآثار البيئية عنيفة للغاية، وكوكبنا يعاني أيما معاناة بالفعل، ولن يقدر على احتمال المزيد من الأذى طويلًا، ما يعني أننا سنضطرُّ عاجلًا أو آجلًا لتخفيض استهلاكنا من السِّلع المادية (وكثير منها مجرَّد سلع ترفيهية غير ضرورية على كلِّ حال)، وهذا في حدِّ ذاته سيجعل تقليل النشاط الاقتصادي ضروريًّا، بما إنه لن تكون هناك حاجة إلى إنتاج تلك السِّلع، وفي تلك الحالة قد تتمكن المجتمعات المؤمنة بمذهب المساواة ويحكمها العقل من التعامل مع تحوُّل كهذا.
يختم الكاتب مقاله قائلًا إن التركيز على العمل في صورته الحديثة مبالَغ فيه تمامًا، ومؤذٍ لسلامتنا كذلك، والمؤكَّد أنك إذا قضيت ساعات يقظتك كلها في العمل، فلا يهمُّ إذًا إن كنت رجل أعمال مليونيرًا أو محللًا اقتصاديًّا، لأن لا اختلاف حقيقيًّا بينك وبين عامل مصنع في بلدةٍ صناعية في القرن التاسع عشر، بل إنك محض خامةٍ اقتصادية ولا قيمة لحياتك إلا قياسًا على معدَّل إنتاجك، والفارق الوحيد أنك تملك حرية التغيير والقدرة على أن تحيا حياةً أكثر رضا ومعنى.
أنا شخصيًّا أحد من يعرِّفون أنفسهم بعملهم، وكثيرًا أقدِّمُ اسمي مسبوقًا بعنوان المهنة؛ «المترجِم»، لكن ما أحبُّه حقًّا في الترجمة أنها لا تكفُّ عن تعريفي بأشياء وأفكار كثيرة مختلفة لأناسٍ من جميع أنحاء العالم، ولمَّا كان موضوع كهذا يمسُّني شخصيًّا كما يمسُّ ملايين مثلي، فإنني مدرك فعلًا لحقيقة أن ما يدعو إليه الكاتب شيء ضروري، فمرارًا كان الإفراط في العمل بشكل آلي سببًا لتدنِّي كلٍّ من مستواه وكمِّه، ودائمًا وبلا استثناء كان الحلُّ الوحيد هو الابتعاد عنه فترة مناسبة من الوقت، على سبيل إعادة شحن بطاريات الجسد والعقل. لا أحد منا يتلخَّص في مهنته فحسب، وكل منا قادر على تطوير أدوات ممارسته عمله، فقط إذا سعى إلى أن تستمر حياته خارج العمل ولا تتمحور حوله.
هشام فهمي