كتائب الهوى: الجنس والفحولة والمغرب وفرنسا، وأشياء أخرى
تتطفل عليّ جالسة بجانبي في الباص، تسألني: «عن ماذا تكتب؟»، فأجيبها بصراحة بريئة: «أكتب عن الجنس». فوجئت، وتقززت، واستنكرت الموضوع الذي أشغل به تفكيري، وأخط بناءه على الورق. استخسرت الوقت الذي أضيعه في الاهتمام بهذه «التفاهات».
رد فعل كهذا، في براءته المتناهية تلك، هو واقع يحمل فكرة الكبت الجنسي كميزة من المميزات البشرية فينا، ويعبِّر عن الحيوان الذي يكمن داخلنا، والذي لم تكن الأخلاق والدين والقانون إلا لتطويعه في إطار المقبول عند العامة.
مقبول أو واجب، يقول نيتشه، هو قوة الفوقي (القوي) يفرضها على ما تحته (الضعيف)، معلنًا مأساة ميلاد الأخلاق على الجهتين، الجهة الغالبة، التي تفجر فيها تفوقها لتكون بذلك أكثر تفوقًا من غيرها، والجهة المغلوبة التي انتكست، فكان الخضوع والعزاء سمة تعبيراتها الأخلاقية.
بينما يذهب ميشيل فوكو مذهبًا آخر، مستعينًا بقضيتنا الأولى كأرضية تنقيب عن أوليات السلطة في الواقع. وفي انفتاحه على قارئه، كتب لنا «تاريخ الجنسانية» في ثلاثة أجزاء.
في واقع كهذا الذي بحث فيه ميشيل فوكو، وسحب عنه «لحاف» الأخلاقية، كاشفًا عريه على الملأ، كانت الحرب ساحة القوة المادية المباشرة، والجنس ساحتها المستترة، وفي اتصالهما الزماني والمكاني، وجب التساؤل حول العلاقة بينهما، وأي مفاهيم وبنى نتجت عن هذا الاتصال، والدور الجنساني لكل جنس فيها.
الفحولة والحرب
«قلت: فالأعشى، أعشى بن قيس بن ثعلبة؟
قال: ليس بفحل
وقلت: فعمرو بن كلثوم؟
قال: ليس بفحل
وقلت: فأبو زبيد؟
قال: ليس بفحل
وقلت: فكعب بن جعيل؟
قال: أظنه فحلًا ولا أستيقنه»
هكذا حدد الأصمعي، في كتابه «فحولة الشعراء»، من منهم أحق بلقب «الشاعر الفحل»، موضحًا أن «فحول الشعراء هم الذين غلبوا بالهجاء من هجاهم، مثل جرير والفرزدق، وكذلك كل من عارض شاعرًا فغلب عليه». ومِن قول الأصمعي، الذي شاعت عنه مأثورة «صوت صفير البلبل»، نتبين مقصد لفظة «الفحولة» عند العرب في ارتباطها بالقوة والغلبة، وداخل حقل الصراع الشعري والمنافسة، كذلك في شتى مناحي الحياة.
كانت الفحولة تأخذ أغراضًا عدة، تكشف اللغة عن معانيها، فتكون بذلك وصفًا لذكر في اختلافه عن الأنثى، وكذلك دليلًا على القوة في مقابل اللين، والمُنجِب ضدًّا للخصي، وللنبيل تصف مكرمة الشرف وتعرِّض به على النذالة.
يقول ابن عربي: «ومن عجبي أن الصوارم والقِنا (السيوف والحراب)، تحيض بأيدي القوم وهي ذكور».
لطالما ارتبطت حالات العنف المباشر، المادي، بعنفها الرمزي، إذ تتأول ضرورة القوة التي تحضر في فعل اقتحام العالم الداخلي لأنثى من طرف الذكر، بضرورة القوة التي تُطلب في حالات الشطر والتبضيع والجدع خلال المعارك الطاحنة. بهذا الشكل احتفظت الوظيفة بالنشاطين لجنس واحد، بل وارتبط الفعلان بعلاقة عِلِّية، يكون المحارب فيها فحلًا، ويكون الفحل بطل الحرب المنتظَر، بإيمان مسبق يشابه إلى حد ما قانون لافوازييه القائل بحفظ المادة والطاقة.
من الناحية التاريخية، يمكننا أن نقرأ نص المحاضرة التي ألقاها المؤرخ الفرنسي «فابريس فيرجيل» في جامعة لوزان، وعنونها «الجسد في الحرب: أي إعادة بناء لمفهوم الفحولة؟».
استهل فيرجيل مداخلته المطولة تلك بعرض تاريخي لمظاهر حضور الفحولة في حروب القرن العشرين، حين كان عساكر الجيش الفرنسي يحصلون على إثباتات تحمل عبارة «Bon pour les femmes» (جيد للنساء) من هيئة الكشف الطبي العسكرية، كوثيقة لإثبات أهليتهم للانخراط في ذلك النزاع المسلح.
من هنا يخبرنا المحاضر بأن الجيش والحرب محفزان لصورة الفحولة في المخيال العام حول هذه القضية، تحفيز تناقص، كما يورد فيرجيل، إثر تحولَيْن مستجدّيْن عرفتهما الحرب:
- ازدياد مشاركة النساء فيها
- اضمحلال صورة البطل العسكري المجيد الذي لا يهاب أهوال القتل
ما أفصحت عنه مجمل الكتابات الأدبية حول الحربين العالميتين، الأولى والثانية، أو حتى السجلات النفسية للذين شاركوا فيها، أن إحساس الخوف لم يكن فقط مشتركًا بين كل مواضيعها، بل لم تكن إمكانية عدم الإحساس به ممكنة.
في متن آخر بعنوان «عنف ونساء»، تحيلنا «دانييل فولدمان»، الباحثة الفرنسية في التاريخ، إلى أن 80% من قتلى الحروب العالمية ماتوا جراء القصف المدفعي والجوي. وتستخلص من هذه المعلومة التاريخية استقالة الجسد في الحرب لصالح الآلة، وتحول القتال من الالتحام المباشر إلى التراشق عن بُعد، وهذا كان عاملًا مكرسًا لغياب البطل العسكري الذكر، وبالتالي تجرد مفهوم الفحولة من بدلته الحربية.
هكذا، يعيدنا فابريس فيرجيل إلى أن هزيمة الحرب كانت في شكلها الرمزي انتكاسة للذكورة، ذكورة فشلت في الوفاء لـ«وصايا لامارسييز» (الرمز الوطني الفرنسي) في الدفاع عن الأرض والأمة، فبينما كان الرجال في الأسر أو تحت التراب، عاشت النساء تجربة الاحتلال وفظاعته وحدهن، أُجبِرن على اختيار المقاومة في غياب الرجل.
وحتى في ألمانيا، عندما تهاوى الرايخ، كانت القنابل لا تفرق بين الرؤوس التي تسقط فوقها، ولا حطام المباني المقصوفة. هكذا ابتدأت حركية إعمار المجتمع في وسط النساء أولًا، «نساء الدمار» كما سماهن الباحث. وبذلك توجّب على المجتمع إعادة بناء نفسه، وبالتالي إعادة بناء مفهوم فحولته، وتحديد دور جديد لكل جنس.
اقرأ أيضًا: لسنا كائنات تقليدية: العلم يبحث في الحياة الجنسية لأسلاف البشر
يصف فابريس فيرجيل أن مفهوم فحولة ما بعد الحرب كان مفهومًا هشًّا. وينحو منحى أبعد من ذلك، معيدًا إلى الأذهان الصيحة التي كانت شائعة بعد الحرب بحلق رؤوس النساء، كعقاب اللاتي تبث تعاونهن (أو مضاجعتهن) مع الأعداء، مُؤوِّلًا إياها على أساس كونها عقابًا لذات الذكورة المنهزمة، ومحاولة لملمة بنائها المتصدع ذاك، مُذكِّرًا بأن الذين قاموا بها لم يكونوا الرجال الذين خاضوا الحرب، أو أُسِروا فيها لدى العدو، بل خلفهم من الشباب الذين استلموا زمام الواقع بعد أن حطت المعارك أوزارها.
هكذا يُكوِّن لنا فيرجيل صورة حول الكيفية التي تشكلت بها الفحولة بعد النزاعين المسلحين العالميين، ويُركِّب لنا مشهدها العام، وانتقالاتها من دليل على القوة إلى عقاب للذات وجَلْد لها، بعدما أزاحت عنها أهوال الحرب ستار القداسة، وحدّت من شيوعها في صورتها الأولى.
كتيبة الهوى: الدعارة في خدمة الحرب
كانت المواخير في عهد الحماية منظمة من طرف الاستعمار، وتنظمها لجان الصحة العسكرية، وكانت أداة من أدوات الترفيه المهمة في تلك الفترة.
اكتسبت مناطق معينة من المغرب سمعة سيئة، تعود لكونها عُرِفَت منذ وقت الحماية الفرنسية بشيوع الدعارة فيها.
تلك المنطقة المتربعة على قمم جبال الأطلس المتوسط وسط المغرب، تلوح منذ القدم صور رسّخت سطوتها داخل المخيال الشعبي، ترسم لنا بشكل كاريكاتيري بورتريه من الأحكام المسبقة على المرأة «الشلحة» التي تسكن تلك الجبال، وتخبر عن مدى استثارتها الجنسية وشبقيتها، لدرجة تخال كل «الشلحات» بطلات فيلم «Nymphomaniac» لا يشبعن من الجنس.
هذا بالضرورة خطأ، بينما الصواب أن نطرح السؤال من منطلق علم الاجتماع والتاريخ حول تلك الظاهرة.
هذا بالضبط ما يمارسه مصطفى قدري، أستاذ الأنثروبولوجيا السياسية بجامعة محمد الخامس في الرباط، الذي يضعنا أمام مفارقة خطيرة ومثيرة، ذلك التناقض بين المرغوب فيه والمحرم، بين المطلوب من طرف العامة والممنوع بقوة القانون. تقبع الدعارة في مغرب في منطقة الحماية المتقلبة، لا هي متخفية، ولا هي محارَبة، تحتل موقعًا جغرافيًّا استراتيجيًّا على طرق عبور المتنقلين بين أطراف البلاد. وحده التاريخ القادر على تفسيرها، والمسلك الوحيد لفهمها.
ينطلق قدري من الجغرافيا ليصف لنا معالم القضية في خصوصيتها تلك، وبالضبط الجغرافيا التي نشأ فيها، في قرية جبلية أمازيغية، كان للدعارة فيها حضور ذو مظاهر تنقسم إلى قسمين:
- جوالة، تواكب السوق الأسبوعية لكل قرية، وتتنقل من قرية إلى أخرى، مقدمةً نصيبًا من المتعة للعابرين الذين يقصدونها لتلبية عدة مآرب
- مستقرة، احتلت أحياءً معينة، غالبًا ما كانت الأحياء التي هجرها اليهود، والتي تسمى في الدارج المغربي «الملاح»، وباستقرارها نمت إلى جانبها أنشطة لها علاقة بأماسي المتعة المدفوعة الأجر، كبيع الخمور، وكباريهات تقليدية لـ«الشيخات» اللائي كن عاملات جنس أيضًا، غير أنهن كن يُجِدن الرقص والغناء
لم تكن وظيفة الشيخات تقتصر على إمتاع زبائنهن الذكور، بل تزيد عن ذلك إلى إحياء حفلات المناسبات العائلية والأعراس، فقد كُنّ الشكل الأساسي للفرجة الشعبية في مغرب نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين. وكذلك عَبّرت أشعارهن عن جزء كبير من الوعي الشعبي، تلك الأشعار التي كانت تُستَغل في أكثر من صيغة كاستشهادات داخل الخطاب السائد بين العامة، لما تحمله من حمولة أخلاقية، تاريخية أو فلسفية، هي الحِكم التي كانت تصدح بها أفواههن.
وإلى جانب ما أكده مصطفى قدري، لم يكن دور «الشيخة» مقتصرًا فقط على جانب المتعة الجنسية، بل يمكن اعتبارها «بارومتر» تاريخ المغرب، ودراستها تُفصح لنا عن أكثر من مُعطى اجتماعي وتاريخي حول معيش شعب هذا البلد على كل المستويات: اقتصاديًّا، واجتماعيًّا، وسياسيًّا، كمثال «خربوشة»، الشيخة الثائرة التي يذكرها التاريخ الشعبي في أكثر من قصيدة، ويصف هجاءها اللاذع لسلطة القايد السلطاني، التي فاقت صورها المهينة أشد أشعار مظفر النواب نظمًا في هذا الغرض.
يخبرنا قدري عن «فاضمة»، إحدى شخصيات بحثه التي عرفها خلال سنوات مراهقته في القرية، قصتها المثيرة والعابرة للقارات، كانت تمتهن الدعارة أول الأمر في قرية من قرى الأطلس، في الأسواق العمومية كما جرت العادة في ذلك الوقت. بعدها تنقلب حياة فاضمة رأسًا على عقب، بعد انتدابها داخل الجيش الفرنسي في بداية خمسينيات القرن الماضي، في ما كان معروفًا حينها بـ«Les Bordels Militaires de Campagne»، أي المواخير العسكرية التي كانت ترافق الجيوش الفرنسية في حروبها، شكل من أشكال الدعارة التي خلقتها الحروب الاستعمارية في المغرب.
اقرأ أيضًا: البغاء بعد الثورة: تونس تتنازعها قيود الدين والمجتمع ومخلفات الاستعمار
كانت المواخير في عهد الحماية منظمة من طرف السلطة الاستعمارية، وتقوم على تنظيمها لجان الصحة العسكرية، وكانت أداة من أدوات الترفيه المهمة في تلك الفترة. وتخبرنا المذكرات الأدبية لأحد الجنود الفرنسيين عن إقبالهم الشديد على تلك المؤسسات، صارخًا بالمفارقة التي عايشها من جانبه: «يا إلهي، يا من تسمعني، اِعلم أننا أتينا إلى هذه الأرض لنقل الحضارة إلى رجالها، بينما تنقل لنا نساؤها داء الزهري».
خلال الحرب، كان الماخور العسكري أحد المهام التي تطلبها فرنسا من سكان المغرب دفاعًا عن مستعمرهم.
رجوعًا إلى فاضمة، يخبرنا مصطفى قدري أن حكايتها ابتدأت في سن تقارب العشرين، شابة قروية انفصلت عن زوجها بمحض إرادتها بعدما هجرها وانخرط في العسكرية دون إعلامها مسبقًا. بعد ذلك الطلاق، ستلجأ فاضمة إلى أقدم مهنة في التاريخ كي تكسب قوتها. بإحدى القرى الجبلية في الأطلس مارست فاضمة دعارة معيشية، إلى أن أتاها طلب الالتحاق بالماخور العسكري، عَبْر إحدى اللجان الصحية العسكرية التي كانت تسهر على تنظيم الدعارة في المغرب المحتل.
ستخوض فاضمة مغامراتها الجنسية أول مرة بعيدًا عن الديار، في الهند الصينية (فيتنام حاليًّا). من 12 امرأة تكونت «كتيبة الهوى» في الجيش الفرنسي، وانطلقت في رحلتها من الدار البيضاء إلى وهران، ومن وهران إلى منطقة دانغ دانغ، عبر البحر مرورًا بقناة السويس.
على عكس روايات الحرملك الفانتازية التي خَطّ وصفها الغربيون بماء الورد، كانت كتائب الهوى الوجه الآخر لاستشراق استعماري، مستغل، لا أخلاقي، انتقائي.
يوضح قدري لـ«منشور» أن قصص نساء كتائب الهوى في الجيش عرفت تعتيمًا من طرف الإعلام الفرنسي، ولم تُذكَر في بحث أو دراسة تاريخية فرنسية، عدا بعض المذكرات الأدبية التي رواها من عايشوا ذلك الواقع.
ويحكي قصة مَلاك «ديان بيان فو»، إحدى مستعمرات فرنسا في الهند الصينية، الممرضة الفرنسية «جنفييف دو غالار»، التي أسرها الفيتناميون بعد عودتها إلى فرنسا، وكانت قد التقت فاضمة على الجبهة، وطُلِبَ منها في حديثها مع الصحافة في باريس أن تنفي وجود أي مرأة غيرها، غير أن الأخلاق كانت مُلِحّة في طلب رد الاعتبار لمن شاركها محنة الحرب من نساء المغرب، وكان ذلك في كتابها «Une femme à Dien Bien Phu».
يوضح قدري أن مُستقَر كتائب الهوى كان في قواعد الجيش الخلفية لتلبية رغبات الجنود، الذين يتناوبون على العودة من القتال في استراحاتهم الدورية القصيرة. وبعد سنتين من الخدمة، ستُرسَل فاضمة إلى أحد التحصينات الواقعة على خطوط التماس مع المقاومة الفيتنامية. وبعد اشتباك بين الطرفين، تُصاب فاضمة في ساقها وتقضي ستة أشهر للعلاج في مستشفى هانوي.
بعدها ستعود فاضمة إلى المغرب، سنة 1954، بميدالية عسكرية كرد اعتبار لجريحة حرب، وترخيص بفتح ماخور خاص. أدارت فاضمة ماخورها واعتزلت إمتاع الزبائن، لتعوِّضها فتيات أخريات في هذه المهمة. تبنّت طفلين ليؤنسا وحشتها، واشتغلت بجد.
في بداية الثمانينيات، سيُغلَق ماخورها بأمر من السلطة المغربية بدعوى «انحباس المطر» وغضب الله، وأن شغلها ذاك يثير المشكلات. ستحمل ما جنته من سنين شغلها وتهجر القرية إلى الرباط، معتزلةً الدعارة إلى الأبد، مكرسةً كل وقتها لتربية أولادها بالتبني.
في بداية الألفية الجديدة، سيلتقيها الأستاذ مصطفى قدري مصادفة، وهي تشحذ المعونات من المارة في أحد شوارع الرباط، وستحكي له مآلها.
وعلى عكس روايات الحرملك الفانتازية التي خَطّ وصفها الغربيون بماء الورد، كانت كتائب الهوى الوجه الآخر لاستشراق استعماري، مستغل، لا أخلاقي، انتقائي، حَوّر الثقافة الأصلية لشعوب مستعمراته، وشكلها في قالب يلبي حاجاته هو، خارج وهم الحضارة التي يدّعيها.
سفيان البالي