رياض الصالح الحسين: شاعر بسيط كالماء، واضح كطلقة مسدس
«يركض في عينيه كوكب مذبوح وسماء منكسرة
يركض في عينيه بحر من النيون ومحيط من العتمة الطبقية
وفي عينيه أيضًا تركض صبية جميلة بقدمين حافيتين»
هكذا عرَّف رياض الصالح الحسين نفسه، وعرَّفها إلينا في ديوانه الأول «خراب الدورة الدموية».
رياض الذي أعياه الوعي المبكر وشاعريته البسيطة التي دفعته إلى أن يلتحف بقلبه حتى وفاته، لا نعرف عنه كثيرًا من الأمور. كل ما وصل إلينا أربعة دواوين، وبضع مقالات لأصدقائه عنه، أو بمعنى آخر: مراثي أصدقائه له.
ولأن الشعر أحد سُبل المقاومة، وأحيانًا يخفف عنا عثرات الحياة، فهل استطاع الشعر أن يقي رياض غياب الآنسة «سين»؟ هل استطاع أن يحميه من مرضه، ومن أثر تجربة الاعتقال والتعذيب في جسده الضئيل المُتعَب؟ هل استطاع شِعره أن يقنع سورية بحبه، ويعرِّي جلَّاديه أمام أنفسهم ويروض وحشيتهم؟
على الرغم من كل الغموض الحائل بيننا وبينه، فإن شيئًا ما يدفعنا إلى أن نعرف أكثر عن رياض.
رياض الصالح حسين: شاعر جاء مع عربات المصانع
في العاشر من مارس 1954، وُلد رياض الصالح الحسين في بلدة مارع التابعة لمدينة درعا جنوب سوريا، لأب تطوع في الجيش إلى أن وصل إلى رتبة مساعد أول، وأم هي الزوجة الثانية لأبيه، تُدعى سامية، وستة أشقاء وثلاث شقيقات، وأخوين من زوجة أبيه الأولى.
حصل على الشهادة الابتدائية، وتوقف عند الصف السابع. درس فيه ثلاثة أشهر فقط حتى أنهكه المرض، الذي شُخِّص بالتهاب المجاري البولية، ثم تطور إلى قصور كلوي حاد. وفي عمر لا يتجاوز الثالثة عشرة، أجرى الجراحة الأولى التي فقد على إثرها قدرته على السمع والنطق.
يقول الكاتب منذر المصري، في شهادته الملحقة بالأعمال الكاملة لرياض الصالح الحسين: «لا نعرف ما إذا كان هذا المرض طارئًا أم مع الولادة أم التهابًا في الكبد. كان يجعله عَطِشًا دائمًا، ما جعله يضطره إلى الاستيقاظ ليلًا وشُرب كثير من الماء».
جاء رياض مع العربات التي تحمل العمال إلى المصانع. وصل إلى حلب عاملًا في شركة خاصة للغزل والنسيج بحي التل، وسكن في حي الصاخور. قابل الشاعر علي كتخدا، وانتقلا معًا إلى مؤسسة «الأمالي» الجامعية التابعة لاتحاد الطلبة في جامعة حلب، وعملا في فرز الأوراق. تعرف رياض إلى نذير جعفر، ثم بشير البكير الذي أدخله في زمرة أدباء حلب وشعرائها.
يحكي وائل السواح عن واقعة تعرُّفه إلى رياض، وهو واحد من الذين دفعوا حياتهم للشِّعر والمعتقل، في مقال بعنوان «حين قرأنا خبر موت رياض ونحن في سجن تدمر».
«ذات مساء ربيعي فاتن من مساءات 1977، اقتحم رياض عالمي ولم يغادره حتى اللحظة. ليس سهلًا أن يسكنك شاعر ضِلِّيل، فيه من القلق ما يسحق مئة فرس برية، ومن الحب ما يُغرق مئة امرأة، ومن الكرامة ما يجعلك تشعر بالضآلة والخجل. أحضَره بشير البكر، شاعر ضليل آخر وفاسق جميل، ينظر إلى الكون من علٍ، ويتسكع في شوارع بيروت وباريس ولندن، وقال لنا هو ذا شاعر. وكان الأجدر به أن يقول هي ذي قصيدة، هي ذي قذيفة. كنا في منزل حسان عزت، نحضِّر عددًا جديدًا من الكراس».
تعاون رياض في إصدار نشرة «الكراس الأدبي» التي اعتُقل غالبية كُتابها، وتعرَّض للتعذيب بسببها.
في عام 1976، كان رياض يكتب قصائده الأولى وتنشرها مجلة «جيل الثورة»، وبعدها تتابعت قصائده، ونُشرت متواترة شهريًّا مقابل عائد مادي زهيد. وفي 1977 اتجه إلى قصيدة النثر. ثم انتقل في بداية 1978 إلى دمشق، وعمل في مكتب الدراسات الفلسطينية حتى مماته.
«ثم أفرغُ من الحزن، أقذفه تحت قبعة الجنرال وأركض في مقتل لا يُحدُّ
أنا الآن مقتنع ببلادي ومقتنع باضطهادي
وفي زمن لا يُحدُّ أرى من أُحب على الشاطئ تستريح من اليأس»
تلوح في هذه الفترة بعض الأسماء والشخوص الذين أثروا في وعي رياض بشكل أو بآخر، أدباء وشعراء مطلوبون أمنيًّا يكتبون ضد السلطة آنذاك، منهم خالد درويش وفرج بيرقدار وجميل حتمل ووائل سواح وموفق سليمان وفاديا لاذقاني.
تعاون معهم رياض في إصدار نشرة «الكراس الأدبي»، التي ما لبثت أن توقف نشرها بعد عددها التاسع، واعتُقل غالبية كُتابها، وتعرَّض رياض للتنكيل به، والتعذيب تحت وطأة الشك في مدى صحة صممه وتعثره في النطق.
يروي وائل سواح حكاية «الكراس»: «كان هدفنا الخروج على سلطة الرقابة والشعر التقليدي والأحزاب السياسية المهيمنة على الأدب والفن. وفي الكراس أيضًا، نشر رياض الصالح الحسين أول قصيدة له: خراب الدورة الدموية. وأثارت لحظة ظهورها لغطًا حادًّا، وانقسم الناس انقسامًا حادًّا بين مُرحِّب بالقصيدة ورافض لها. المعارضون قالوا هذا مهرطِق يصُفُّ كلمات جنب كلمات ليكتب شيئًا أشبه بالكفر. أما المؤيدون، فقد اندهشوا بحرارتها وبساطتها ومقدرتها الهائلة على الوضوح المستحيل».
خرج رياض من المعتقل متخمًا بالحرية والدهشة والطفولة والألم، وبعقل مليء بالأسئلة.
«أيتها البلاد المصفحة بالقمر والرغبة والأشجار، أما آنَ لكِ أن تجيئي؟
أيتها البلاد المعبأة بالدمار والعملات الصعبة، الممتلئة بالجثث والشحاذين
أما آنَ لكِ أن ترحلي؟»
في عام 1979، صدرت مجموعته الشعرية الأولى عن وزارة الثقافة بعنوان «خراب الدورة الدموية»، وبعدها بعام، وعن وزارة الثقافة أيضًا، صدرت مجموعته الثانية «أساطير يومية». وفي 1982، قبل وفاته بخمسة أشهر، صدر ديوان «بسيط كالماء، واضح كطلقة مسدس»، وبعد وفاته بعام نُشر ديوانه الرابع والأخير «وعلٌ في الغابة».
عندما تحجز مقعدين لتجلس وحيدًا
كان مرض رياض حربًا خفية في نفسه، لكن لم تزِلَّ قدمه أمام عتبات الحب والصداقة ومناهضة الظلم بشتى أشكاله.
ما وصل إلينا من وثائق على لسان أصدقائه يوضح أنه حاول جاهدًا أن يخفي مرضه عن الغرباء، وامتنع عن الحديث عنه مع أصدقائه، ولم يجرؤ أحد منهم على سؤاله.
يقول منذر المصري في شهادته المذكورة في الأعمال الكاملة كذلك، أن رياض كان، تحاشيًا لجلوس فضولي ما بجواره، يحجز مقعدين في الباص كلما سافر، كان يريد أن يخفي أي عيب ونقص في نظر الآخرين.
أما الشاعر والناقد هاشم شفيق فيؤكد أنه «جراء تراكم تلك اللقاءات، صرت أفهم على رياض بلغة الإشارة، دون الالتفات إلى القلم والورقة اللذين كانا خير وسيط بيننا. لم أسأل رياض ولا مرة عن المرض الذي أصابه. وكان رياض يترنم بأغنية وحيدة لفريد الأطرش: ياريتني طير لأطير حواليك. هنا كنت أتساءل حينها بين نفسي: كيف توصل رياض إلى حفظ مقطع الأغنية؟ إذًا، مرضه كان حربًا خفية في نفسه، لكن لم تزِلَّ قدمه أمام عتبات الحب والصداقة ومناهضة الظلم بشتى أشكاله، ناهيك بتجربة اعتقاله التي حسمت خصومته مع السلطة السورية وانحيازه الكامل للشعب.
مسيرة رياض الصالح المهنية أيضًا، بدءًا من العمل بأحد مصانع حلب وانتهاءً بمكتب الدراسات الفلسطينية وصحيفة «تشرين»، كانت محدودة العائد لدرجة أنه كاد يقترب من الإفلاس.
عاش فقيرًا في غرفة شبه مهدمة في حي الديوانية. كان يتلقى راتبًا زهيدًا من صحيفة «تشرين»، لا يحمل إلا علبة سجائر «الحمراء» وثمن فنجان قهوة في مقهى «قنديل». هذه الحياة البسيطة، كما وصفها هاشم شفيق، جعلته يقترب من البسطاء والفقراء الذين هم ملح قصيدته، وعرَّفته إلى باب توما وحواري دمشق القديمة.
«سأسأل السفاحين عن الأشجار.. والأشجار عن الشوارع
الشوارع عن الاضطهاد.. والاضطهاد عن حبيبتي
وأقول لحبيبتي التي تبيع الجنارك والمانجا في باب توما:
إنني مرهق كثعبان ابتلع بيضة»
ثنائية الحب والحرب والآنسة «س»
«أنا صديق الآنسة س ذات الشعر الخرنوبي الخفيف
التي تتعفن تحت لسانها ليمونة من الأسئلة البسيطة والمخيفة
انتظرتها على السطح، فجاءت بقميص مطعون بالنجوم والأحلام اليابسة
وكان عليَّ أن أقبِّلها.. أعتقد بأنني فعلت ذلك بشكل جيد»
تركنا نُبل الطرح وبراءته إلى مشقة الاحتمالات: هل ترمز «س» إلى سوريا، أم فتاة عشقها رياض؟
أين ذهبت سمر؟ وماذا حدث؟ لم يصل إلينا شيء عن هذه الحكاية غير أنها موجودة في قصائده فقط، وفي حكايات أصدقائه.
يقول وائل سواح: «جاءنا مرة وقال: أنا عاشق. وحكى لنا كيف أمضى بعد ظهر يوم الأمس مع حبيبته يرعيان الحشيش في الطبيعة كالخواريف (هذه استعارته وليست استعارتي). كان وجهه ينقط بشرًا، وكان اسمها سمر، ولا أحسب أنه أحب غيرها، وكثيرًا ما رمز إليها في شعره بالآنسة س. سمر كانت عالمه الصغير، لم تكن عشيقته، كانت سرَّه وكذبته وقصيدته التي لم يكتبها قط. لم تكن امرأته: كانت دفقة الحياة التي يستمد منها عيشه يومًا بعد يوم وساعة بعد ساعة. كانت قضيته وصلاته وموته وبعثه وانتشاره».
«ففكرت بوجود بعض الأمكنة لا يبتلع فيها الماء شيئًا
أمكنة صغيرة جدًّا، على سبيل المثال:
ثَمَّة رجل يقبِّل امرأة دون أن ينظر إلى ساعته»
يسوقنا هذا إلى خلق افتراضية حول رمزية «القبلة» عند رياض، إذا ما كانت ترمز إلى الاحتجاج السلمي ضد السياسات القمعية للسلطة والاعتقالات الواسعة والركود الاقتصادي وسيطرة الرأسمالية بشكل فج وصارخ في السبعينيات، إذ إنه لا تكاد تخلو قصيدة من قبلاته. على سبيل المثال، قصيدة «العدالة» يقول فيها:
«العدالة هي أن آكل رغيفي بهدوء
أن أذهب إلى السينما بهدوء
أن أغني بهدوء
أن أقبِّل حبيبتي بهدوء وأموت بلا ضجة»
القبلة الأولى رصاصة.. الطلقة الأخيرة حب
«أما أنا، فسأبحث عن كوخ للزواج، فالأمر أصبح جديًّا، والطفل يقرع الجدران». رسالة من رياض إلى صديقه منذر المصري، بتاريخ 20 يونيو 1982.
أَحبَّ رياض هيفاء أحمد، امرأه عراقية وأرملة وأم طفلين، وابنة أخت عضو في اللجنة المركزية للحزب الشيوعي العراقي. تقدم لخطبتها رسميًّا، لكنها أنهت العلاقة بعد معرفتها برحلته إلى اللاذقية بصحبة الفنانة التشكيلية هالة الفيصل. تدهورت على إثر ذلك صحة رياض البدنية والذهنية، وانتقل إلى مستشفى المواساة في دمشق.
وفي عصر السبت 20 نوفمبر 1982، توفي رياض الصالح الحسين عن عمر لا يتجاوز 29 سنة، في غرفة موحشة بجانبها طاولة بدرج تخبئ آخر ديوان جاهز للنشر، والإهداء إلى هيفاء أحمد.
باغت الموت كل ما يحيط برياض: شعره والأصدقاء والوطن، إلا رياض نفسه.
لم يستطع وائل السواح رؤيته، كان معتقلًا، وعبر قصاصة مُرِّرت إليهم في سجن تدمر، جاءه خبر موته.
يقول: «كنت أنا نفسي في مكان يشبه الموت. وصلت إليَّ صفحة مقطوعة من جريدة يومية، كان فيها أخبار عن القطاع العام والحركة التصحيحية وفلسطين والإمبريالية والمنجزات الاشتراكية، وفي إحدى زواياها نعي للرجل الذي كان يضج بالحياة أكثر من الحياة، ويعيش في الموت أكثر من الموت، ويكتب شعرًا لا يشبه الشعر، لأنه هو الشعر. لا أذكر إن كنت قد بكيت وقتها، أم إنني خجلت بسبب وجودي مع أربعين رجلًا في مستطيل مساحته عشرون مترًا».
يروي عبد الكريم كاصد لحظات رياض الأخيرة، وهذه الشهادة ضمَّنها نذير المصري في كتاب الأعمال الكاملة: «كان رياض في سريره في غيبوبة، وكانت أمه جالسة على حافة السرير الفارغ المجاور لسريره مرتدية السواد. كنت أشعر بوحشة لأن المكان بدا لي وكأنه مهجور، فأنا لم أر طبيبًا جنبه ولا ممرضة».
ويحكي هاشم شفيق: «ظل الشاعر مهدي محمد علي وأنا قربه بالتناوب كخفراء، ليلة لمهدي وليلة لي، نتقاسم من خلالها السهر وتمضية الوقت في قراءة الشعر لشعراء يحبهم رياض».
دُفن رياض الصالح الحسين في بلدته مارع. وبعد الانتهاء من مراسم الدفن، استقبل أهله المعزين بفتور ظاهر، حسب ما ذكر منذر المصري، وعاد الأب معهم إلى دمشق ليجمع كل أغراض رياض الشخصية، ويبحث عن مستحقات ابنه المالية.
هذا الموضوع اقترحه أحد قُراء «منشور» وعمل مع محرري الموقع على تطويره، وأنت كذلك يمكنك المشاركة بأفكارك معنا عبر هذه الصفحة.
ريهام حبيب