ملف «الثورة والثوار»: عن أولئك الذين غيَّروا ويغيِّرون هذا العالم
لطالما ارتبط مفهوم الثورة لدينا كعرب بالثورة السياسية، تلك التي تزيح نظامًا وتأتي بآخر يُفترض أنه أفضل، وعززت هذا التفكير أحداث الربيع العربي التي اجتاحت عدة دول، فانتهى بعضها إلى أنظمة سياسية أفضل وتراجعت أنظمة أخرى، ودخلت غيرها في دوامات الحرب والاقتتال كما في سوريا وليبيا.
إلا أن ما شهدته هذه الثورات من إطلاق للروح الثورية المتمردة على «المفروض» و«النظام» الذي لا يحقق غايات الشعوب، تعدَّى الملعب السياسي ليتجه إلى التمرد على المجتمع وأنماطه، وعلى الثقافة وما تقدمه من قوالب جامدة، فبدأنا نشهد ثورة في الساحة الموسيقية العربية، تقدم أنواعًا تجريبية جديدة «ثارت» على الموروث الموسيقي أو سعت لتطويره بما يواكب متطلبات الجيل.
نتحدث عن أولئك الذين قرروا أن أهداف حياتهم تتجاوز ذواتهم الشخصية، عن الحالمين ذوي الإصرار الذين يعيشون بيننا.
كما أسهم الجيل العربي الشاب في إطلاق شرارات التمرد على المجتمع والموروث والعادات والتقاليد التي لم يعد يرى أنها تواكب عصره، ولعل هذا هو الربيع العربي الحقيقي، وليس ذلك الذي شهدته ساحات السياسة.
لقد عاشت البشرية مجموعة من الثورات الكبرى على مر العصور؛ فهناك الثورتان الزراعية والصناعية، والثورة الفرنسية، والثورة المعلوماتية التي نعيشها الآن، وبين كل ثورة وأخرى كان هناك «ثوريون»؛ أناس تحدوا الوضع القائم، كلٌّ في مجاله، فتغير هذا المجال من بعدهم.
هؤلاء هم الذين تمردوا على الواقع، تمامًا كشباب الربيع العربي، ورأوا أن هناك أفقًا أفضل لم يعرفوه بالضرورة ولكنهم جربوا وحاولوا، نُعتِوا بالجنون في أحيان كثيرة، ونبذهم المجتمع في أحيان أخرى، ولم يُذكَروا إلا بعد أن نجح مسعاهم، فخلدهم التاريخ في حياتهم أو بعد رحيلهم عن هذا الكوكب الذي أسهموا في تغييره.
اقرأ أيضًا: بين العدمية وحروب الهاردكور.. هنا ترقد أجيال الربيع العربي
مَن الثائر؟
عندما نتحدث عن الشخصية الثورية، فإننا نتكلم عن أولئك الذين قرروا أن أهداف حياتهم تتجاوز ذواتهم الشخصية، عن الحالمين ذوي الإصرار الذين يعيشون بيننا، الذين يعملون بلا كلل في سبيل تحقيق أحلامهم لتُحدث فارقًا في مجتمعاتهم ومجالاتهم؛ أملًا في صنع عالم أفضل، عالم يستحقه الإنسان، معترضين ومحاربين الأنماط التي تمنع ذلك حتى يحققوا رؤيتهم، فهم لا يتحدون الموروث فحسب وإنما كذلك النظام بجميع أشكاله، لأنهم يرون عدم صحته.
ولعل الزمن الذي نعيشه الآن مهيأ أكثر من أي وقت مضى لاحتضان هذه الشخصيات والأفكار، ورغم ذلك يبقى هناك من يعترض طريقهم ويحاول إلزامهم بالأنماط التقليدية السابقة، فيحارَب الفنانون لأن البعض يرى في الجديد الذي يقدمونه «هراء»، ويحط كثيرون من شأن المجددين في الفكر والدين بحجة أن أفكارهم خاطئة، لكن الثائر يواصل المسير بخطوات ثابتة.
الشخصية الثورية هي تلك التي تتبع قلبها لا عقلها؛ لأنها تؤمن بما تفعل، فتصل إلى مرحلة من الاتساق مع النفس تجعلها قادرة على العطاء وصناعة التغيير الذي تؤمن به. يقول جلال الدين الرومي، الذي عاش في القرن الثالث عشر: «اتبع قلبك دومًا وسوف يأخذك حيث كنت في حاجة للذهاب»، وحريٌّ به أن يقول ذلك، فقد كان الرومي ثوريًّا في زمانه، وكانت رسالته مختلفة عما اعتاده الناس حوله، وها نحن اليوم نذكر الرومي ورسالته لكن لا نذكر من حاربوه.
هناك دائمًا شخصيات ثورية بيننا، منهم من يقوى على الوقوف في وجه العوائق التي توضع في طريقه ويواجه الواقع ويُغيِّره، ومنهم من يستسلم ليترك المجال لغيره. نعرف العديدين منهم في محيطنا ونراهم بيننا ونقف معهم حين نستطيع، ونلتزم الصمت لأنه «أضعف الإيمان» إذا كانت الموجة المضادة لهم أكبر من قدرتنا، لكن ذلك لا يعني أننا غير مؤمنين بأهمية التغيير وحتميته، وأننا في حاجة إلى المزيد من هؤلاء لنحيا في عالم نستحقه جميعًا.
تقول المفكرة اليسارية «روزا لوكسمبورغ» (Rosa Luxemburg) إن «الثورة الاجتماعية الحقيقية تتطلب تحوُّلًا روحيًّا لدى الجماهير التي تدهورت وعانت قرونًا بفعل حكم الطبقات المسيطرة والحاكمة (...) لبلوغها، علينا اقتلاع عادات الطاعة والخنوع للماضي؛ حتى نحصل على شكل جديد من الانضباط غير خاضع للآخرين، ولكنه انضباط ذاتي ناشئ عن قبولهم الحر لأوضاعهم».
قد يعجبك أيضًا: تركة ست سنوات من الخِذلان
فبراير شهر الثوار
ويؤكد العالم والمفكر البريطاني «روبرت وينستون» (Robert Winston) أنه «دون أي شك، كانت اللحظة الأكثر ثورية في التاريخ عندما أقدم أحد أسلاف الإنسان، ربما في نوبة من الغضب والإحباط، على رفع يديه في الهواء وهو ممسك بحجر صوان ورماه بقوة على صخرة أكبر بكثير»، لأن «تلك القوة أدت إلى كسر الصخرة إلى رقائق حادة، وأخرجت لنا في النهاية ما نعرفه اليوم بالفأس الحجري؛ أعظم إنجازاتنا التكنولوجية كبشر».
ملفنا لهذا الشهر عن الحالمين وأفكارهم الثورية، السابحين عكس التيار ممن تركوا، ويتركون، آثارهم في الأدب والموسيقى والفن والمجتمع والدين.
ويحكي «وينستون» أنه مع هذه الأداة قبل نحو 2.5 مليون سنة، صنعت البشرية التاريخ حرفيًّا، إذ «لم يتمكن أي نوع آخر من استخدام أداة بهذه الطريقة لتغيير تطوره، وقد استغرق الأمر أكثر من مليون سنة إضافية قبل أن يجرؤ أحدهم على التفكير في ربط الحجر بعصا خشبية».
ويكمل: «بمجرد أن تمكنا من الصيد، فعلنا ذلك في نطاق مجموعات، وقد تطلب ذلك تطوير القدرة على التواصل مع بعضنا، وهو ما منحنا دفعة إضافية لتطوير القشرة الدماغية».
ملف «منشور» لهذا الشهر يحتفي بهذه الأفكار؛ بالتجربة الإنسانية وتقدمها المستمر الذي ما كان ليحدث دون مشاركات هؤلاء، وروح التحدي التي حملوها، ودون الأفكار التي غيَّرت، ولا تزال تغيِّر، هذا العالم الذي نعيش فيه ليصبح أجمل.
ملفنا لهذا الشهر عن الحالمين وأفكارهم الثورية، المختلفين والسابحين عكس التيار ممن تركوا، ويتركون، آثارهم في الأدب والموسيقى والفن والمجتمع والدين، هذه الثورات التي حركت وتحرك الأفكار الراكدة، وتفتح العقول والنفوس على شيء جديد، تلك الأفكار التي لم ترض بالطريق المرسوم لها، بـ«المفروض»، وقررت صنع طريق جديد.
الثورة التي نعنيها هنا ليست تلك التي يخرج فيها الناس ويهتفون في الشوارع، بل الموسيقى التي يتراقصون على أنغامها، أو اللوحة التي تُلهم من يراها لأنها أتت بشيء جديد، أو فكرة مجتمعية تهدف إلى خلق المساواة والعدالة بين أطرافها. نحن هنا لنتحدث عن ذلك الذي رمى الحجر، وعن «الفأس» كفكرة ثورية خارجة على المألوف.
رحلة سعيدة..
لقراءة موضوعات أخرى في الملف اضغط هنا.
فريق منشور