البروباغندا: أعظم مغامرات دعائية في التاريخ
«البروباغندا» كلمة تستحضر إلى الأذهان مشاهِد المسيرات النازية وصور «ستالين» و«ماو تسي تونغ» العملاقة. هل هذا التصور صحيح؟ وهل البروباغندا حِكر على الديكتاتوريات؟ أم إنها تستخدَم في البلدان الديمقراطية و دعاة الحريات؟ والأهم من ذلك، ما سر هذا الأثر الرهيب للبروباغندا؟
«إدوارد بيرنيز» المعروف بـ«أبو العلاقات العامة»، يُعرِّف البروباغندا بأنها «تلك الجهود الحثيثة والمتواصلة لخلق أحداث أو تشكيلها للتأثير في العلاقة بين الجماهير ومؤسسة أو فكرة أو جماعة ما».
تعريف عام ومبهَم، مثل البروباغندا نفسها. ولكن من وسط هذه الجملة الحيادية تبرز ثلاث كلمات هن مفتاح فهم البروباغندا:
- «جهود»، دون حصرها في نوع معين كالدعاية أو العلاقات العامة
- «أحداث»، فالبروباغندا ليست مجرد نشر أفكار ومحاولات إقناع جدالية، بل تجاوزت ذلك لتصبح أحداثًا تفاعلية
- «علاقة» بدل الفكرة السائدة عن البروباغندا أنها تستهدف التأثير في الرأي العام، فعبارة علاقة أعمق وأشمل، وهذا التأثير قد يصل إلى علاقة الفرد أو الجماعة بماضيهم أو ثقافتهم أو حتى مجتمعهم وأسرهم
لفهم البروباغندا حسب هذا التعريف وأبعادها نستعرض بعض الحالات التي توثق تأثيرها في المجتمعات ومدى خطورتها أو ربما فائدتها للبشرية.
ما وُصف بأنه «أعظم مغامرة دعائية في التاريخ»
من وسائل لجنة «جورج كريل» ما عُرِف بـ«رجال الدقائق الأربعة»، وهو جيش متطوع يلقي خطبًا وطنية لمدة أربع دقائق.
قائد هذه المغامرة هو الصحفي «جورج كريل» الذي ترأس لجنة الإعلام العامة التي أسسها الرئيس الأمريكي «وودرو ويلسون» عام 1917، بهدف حشد التأييد الشعبي اللازم لمشاركة أمريكا في الحرب العالمية الأولى. ولم تكن هذه المهمة سهلة، فأغلبية الشعب الأمريكي كانوا ضد أو محايدين تجاه مشاركة أمريكا في الحرب. والتمييز بين مكونات الشعب الأمريكي وقتها كان أكثر حدة، و الأعراق أقل تمازجًا مقارنة بوقتنا الحالي.
لهذا اعتمد أسلوب عمل اللجنة على تصميم الرسائل بما يتناسب مع شرائح المجتمع المختلفة، ومخاطبة مكوناته بما يتناغم مع ثقافاتها المختلفة.
سعى كريل ورفاقه في اللجنة إلى تجنيد عدد كبير من الكُتاب والموسيقيين والفنانين ورواد الدعاية الوطنيين. وتفرعت عن اللجنة مكاتب وأقسام ولجان فرعية متعددة، كلٌّ منها يختص بإنتاج نوع مختلف من الدعاية، منها قسم الأخبار، والأفلام، ومكتب الدعاية التصويرية، وإدارة الأجانب المولودين في أمريكا، وإدارة معارضي الحرب، وقسم الرسوم المتحركة، وقسم الخطابة، ولجنة الرقابة، وقسم أعمال النساء، وغيرها.
من وسائل اللجنة المبتَكرة ما عُرِف بـ«رجال الدقائق الأربعة»، وهو جيش مكون من 75 ألف متطوع على استعداد للوقوف في الأماكن العامة وإلقاء خطب وطنية تثير الحماسة لمدة أربع دقائق، كي لا تتجاوز الخطبة فترة الانتباه (Attention Span)، التي كانت تقدر آنذاك بأربع دقائق، وهذا دليل اهتمام القائمين على اللجنة بفهم طبائع البشر.
كان هؤلاء أشبه بجيوش تويتر الإلكترونية في وقتنا الحاضر، وتمكنوا من إلقاء أكثر من 7.5 مليون خطبة قصيرة على مسامع 314 مليون متلقٍّ، أي إن كل أمريكي استمع لما يقرب من ثلاث خطب من رجال الدقائق الأربعة.
لم يقتصر جيش الخطباء هذا على الرجال، بل كانت هناك نساء الدقائق الأربعة أيضًا. والسود كان لهم رجال الدقائق الأربعة يخطبون في أوساطهم، وكذلك الكشافة وغيرها من المجموعات الأخرى.
إضافة إلى الخطابة، كان الفن حاضرًا بكل أشكاله. فقسم الدعاية التصويرية كان ينتج بوسترات البروباغندا التي يمكن أن نشبِّهها اليوم بـالـ«Memes» التي غزت شبكات التواصل الاجتماعي. ويكفي أن تعلم أن أشهر أيقونة وطنية أمريكية (العم سام) من إنتاج رسامي هذه اللجنة.
هل نجحت هذه المغامرة الدعائية؟
هناك مؤشران على نجاح هذه اللجنة في أداء مهمتها، الأول مشاركة أمريكا في الحرب ودورها في انتصار الحلفاء. والمؤشر الثاني، الذي يقترب أكثر من الدقة الإحصائية، هو مقياس تأثير هذه اللجنة في الشعب لشراء صكوك الحرية. فقد أصدرت الحكومة صكوكًا لتمويل الحرب أسمتها «صكوك الحرية»، وتولت اللجنة ذاتها مهمة تسويق هذه الصكوك. وقد لاقت الصكوك رواجًا لدرجة أنها مولت 58% من تكاليف الحرب.
يقول المؤرخ «روبرت زیجر» إن اللجنة «نجحت نجاحًا باهرًا، فقد حشدت جيشًا جرارًا. ولم تظهر علامات عدم التأييد أو اختلاف وجهات النظر في هذا المجتمع المكون من خليط من اللغات».
المفارقة العجيبة أن جورج كريل، قائد هذا الجيش البروباغندي لدعم الحرب، كان يقود الحملة الانتخابية للرئيس وودرو ويلسون، والتي كان شعارها «ويلسون أبقانا بعيدًا عن الحرب».
اقرأ أيضًا: أفلام القوات المسلحة: كيف استغلت الأنظمة السينما للترويج للجيش والحرب
بروباغندا اليوم
سهَّل التدرج تغير العلاقة بين الثقافة الأمريكية والمثلية حتى تحولت إلى أمر يُحتفى به، سواء كان التدرج مقصودًا أو عفويًّا.
هناك بروباغندا ذات وجه عصري تنطلق من قيم الحريات والحقوق وتدعو إليها. لذلك، فإن من يصف هذه الحالة بالبروباغندا قد يُصنَّف بأنه من أتباع نظرية المؤامرة أو شخص رجعي. وتتمثل في جهود منظمة «GLAAD» للتأثير في الإعلام الأمريكي، ليؤثر بدوره في العلاقة بين عموم الأمريكيين وقضية المثلية.
ينقسم تاريخ المطالبة بحقوق المثليين إلى قسمين: ما قبل 1985، حين كانت المثلية ممقوتة ويصورها الإعلام غالبًا بشكل هزلي ساخر، كما في بعض البرامج العربية اليوم، وفي تلك الفترة انطلقت مظاهرات «ستونوال» العنيفة الداعية إلى حقوق المثليين، وامتدت هذه المحاولات لمدة 20 عامًا، من 1960 إلى 1980 دون تقدم يُذكَر.
أما بعد 1985، فقد بدأت جهود تغيير علاقة الثقافة الأمريكية بالمثلية، ففي هذا العام تأسست مجموعة باسم «تحالف المثليين ضد التشويه» (GLAAD)، التي أنشأها إعلاميون وحقوقيون مثليون للضغط على المؤسسات الإعلامية بهدف إيقاف ما أسموه تقارير تتصف بـ«رهاب المثلية». وكانت أولى نجاحاتها إعلان مجلة «تايمز» الأمريكية سياسة تحريرية جديدة تقضي باستخدام كلمة «مثلي» بدلًا من الأوصاف السلبية أو المهينة.
في 1989 نُشِرَ كتاب بعنوان «How America Will Conquer Its Fear and Hatred of Gays in the 90's» (كيف ستتخطى أمريكا خوفها وكراهيتها للمثلية في تسعينيات القرن العشرين). يتنبأ بالطرق والوسائل التي تساعد على تطبيع المثلية في الثقافة الأمريكية، ويبدو في بدايته كتابًا في علم النفس، يحلل الأفكار السائدة عن المثلية وأسبابها وتبعاتها، ثم يتحول تدريجيًّا إلى تعليمات واضحة عن كيفية تسخير الإعلام لصالح حقوق المثليين.
بعد قراءة الكتاب قد تتغير فكرتك عن تاريخ الأفلام والمسلسلات الأمريكية التي شاهدتها، ستلاحظ كيف تحولت شخصية المثلي بالتدريج من شخصية مثيرة للشفقة والحزن، مثل «Quiz Kid» في فيلم «Magnolia»، إلى شخصية مضحكة ومرحة كما في مسلسل «Will & Grace»، وكذلك شخصيات المحاربين والقادة كما في فيلم «Alexander»، أحد أعظم الغزاة في التاريخ، وفيلم «J. Edgar»، مؤسس مكتب التحقيقات الفيدرالي الأمريكي «FBI».
هذا التدرج سهَّل تغير العلاقة بين الثقافة الأمريكية والمثلية، حتى تحولت من جُرم اجتماعي إلى أمر يُحتفى به. وسواء كان هذا التدرج مقصودًا أو عفويًّا، فقد نجح في كسر الحواجز النفسية وتحويل منكر اجتماعي إلى أمر طبيعي ومقبول.
فهم لجنة الإعلام العامة لتأثير الفنون في إيصال رسائل تخاطب المشاعر، وفهم مجموعة «GLAAD» للخصائص العاطفية للبشر، ساعدهم في إنجاح حملاتهم، وهذا يأخذنا إلى التأمل في شعوب وُصِفت كثيرًا بالعاطفية: العرب.
العرب، كغيرهم من الشعوب، استخدموا البروباغندا، ومن أبرز الحالات تلك التي بذلتها الجماعات والحركات الإسلامية بمختلف المذاهب، والتي رغم اختلافها ظاهريًّا عن الحملات السابقة، فإننا بعد التمعن نجد الأساليب نفسها قد استُخدِمت بشكل أو بآخر.
تبنَّى عدد من تلك الجماعات أسلوب رجال الدقائق الأربعة، وكان بعضهم يتطوع لإلقاء الخطب في الأماكن العامة لمدة قصيرة، وبفهم جيد للجمهور المستهدَف، الذي غالبًا ما يكون الخطيب من أوساطه، كالمحاضرات التي يلقيها دعاة تائبون على جمهور من المراهقين.
كذلك استخدام أشكال أخرى للفنون لمخاطبة المشاعر، فما فقدوه في الأفلام والرسوم والموسيقى عوَّضوه بالخطابة والشعر والرسم بشكل محدود.
إضافة إلى أهم ممارسات البروباغندا للحركات الإسلامية: ما عُرِفَ بالأناشيد المطعمة بالمؤثرات الصوتية الشهيرة، كأصوات الرعود والصرخات التي انتشرت في الجماعات السنية، بينما تميز الجانب الشيعي بفن الرواية والإلقاء، كما في مجالس العزاء، أو الفنون الإخراجية للمواكب، التي أصبح بعضها يشبه مَشاهد الأفلام التاريخية. وكذلك استُخدِمَت أساليب التأثير والضغط على الإعلام كما فعلت جمعية «GLAAD»، وإن لم يكن بنفس الدرجة من السلمية دائمًا.
كيف نجحت حملات البروباغندا رغم اختلاف أهدافها؟
رغم الفروقات الشاسعة بين هذه النماذج، نجد أن عناصر مشتركة أسهمت في نجاح تلك الحملات، ونادرًا ما يُتطرَّق إليها عند الحديث عن البروباغندا، وهي:
- الإيمان
- الفن
- المشاعر
الإيمان بالقضية هو ما دفع 75 ألف متطوع إلى الخطابة في الناس. لم يفعلوا ذلك لأنهم خبراء في علم الاتصال، أو لأنهم معلنون يتلقون أجرًا مقابل جهودهم، بل العكس، كانوا متطوعين مؤمنين بما يدعون إليه. كذلك مؤسسو جمعية «GLAAD»، كلهم مثليون مؤمنون بقضيتهم. والإيمان أيضًا أسهم في انتشار الحركات الدينية السياسية من خلال البروباغندا.
أدرك «إدوارد بيرنيز» أبو العلاقات العامة أهمية الإيمان عندما عمل على حملة تسويقية لإحدى شركات التبغ، فقد ربط التدخين بقضية لها أنصارها، هي حرية المرأة، واستغل إيمان بعض النسويات بالقضية لتسويق التدخين للنساء، فحوَّل السيجارة من مجرد تبغ ملفوف في ورقة إلى «شعلة الحرية»، حتى صارت المرأة المدخنة رمزًا للمرأة الحرة.
أما جورج كريل فيقول في رسالته إلى الرئيس وودرو ويلسون إن «البروباغندا (...) في معناها الحقيقي تعني غرس الإيمان».
وأما الفن، فلغة خاصة تخاطب بها تلك الأجزاء البدائية في عقولنا التي نادرًا ما تصل إليها اللغة المعتادة، واستخدام الفن في البروباغندا دليل آخر على أهمية معرفة النفس البشرية، فبوستر دعائي يُظهِر العدو في صورة غول يحاول الاعتداء على عذراء تمثل الوطن أكثر بلاغةً من كثير من الكلمات التي تصف خطر العدو. الفن للأفكار بمثابة الأزياء للبشر، وكما لرجال الدين والأمن وغيرهم زي خاص يعطيهم سلطة ومصداقية أعلى، كذلك الفن يعطي للأفكار هيبة وقبولًا تصعب مقاومته.
وأما المشاعر، فهي الانفعالات النفسية التي تدفع صاحبها إلى أعمال لم يكن ليفعلها في الأحوال الاعتيادية، وفي ذات الوقت تضعف ملَكة التحليل والتفكير في كثير من الأحيان. وعندما نتأمل في المشاعر الأساسية السبعة، بحسب «ويليام مكدوغال»، والغرائز المرافقة لها، نجد تلك الفنون البروباغندية صُنِعت خصيصًا لتنشئ لدى المتلقي أحد هذه المشاعر، وتنتج رد فعل غريزيًّا.
البروباغندا أثارت، وما زالت تثير، الجدل حول أخلاقيتها وممارساتها وحدودها، بل وماهيتها.
رغم أن البروباغندا مفهوم حديث نسبيًّا، فإنها قديمة قدم المجتمعات البشرية، واليوم أصبحت تطبيقاتها أكثر انتشارًا وعلميةً من أي وقت مضى، رغم أن الاسم نفسه لم يعد مستخدَمًا بشكل رسمي.
البروباغندا، رغم ما ارتبط باسمها من فظائع، تتجاوز الخير والشر. ولو تمعنَّا جيدًا في حياتنا قد نجد أننا خاضعون لتأثير بروباغندا ما، أو أننا مشاركون فيها بكل شغف و حماس. حين نتفق معها نسميها «توعية» و«دعوة» و«تنوير»، وإذا اختلفنا معها أسميناها «بروباغندا».
هذا الموضوع اقترحه أحد قُراء «منشور» وعمل مع محرري الموقع على تطويره، وأنت كذلك يمكنك المشاركة بأفكارك معنا عبر هذه الصفحة.
عبد الله الراشد