الذي حدث أني غيرت السياق: تجربة شخصية في العلاج النفسي
من الرائع أن ينظر أحدنا إلى تجربته ليجد أنه حقق انتصارًا كبيرًا مع مرور الوقت، على الرغم من الصعاب والتحديات التي واجهته.
في 2017، كتبت مقالًا مع «منشور» عن المراحل الأربع التي ينبغي المرور بها قبل أن أصل إلى «ذاتي الحقيقية»، أن أستريح في جلدي، أو كما أنا، دون محاولة للتزويق أو التغيير أو الإخفاء، للتوافق مع ما يفرضه الآخرون، بغض النظر عما أريده وأحلم به.
الآن أدرك أن لغة المقال كانت غاضبة جدًّا، تحمل كمية من الأسى تكفي لإيقاف الملاحة في البحر المتوسط إلى الأبد. لا عجب، فقد كنت ساعتها في المرحلة الثانية: الغضب مما كان يحدث، ولم أكن أراه.
نتيجة لكل هذا، كبرت باحتياج للحب لا يرتوي: لا أجده، وجائعة دائمًا إليه. احتياج القبول والإعجاب. مع ذلك، فإن محاولاتي إثبات جدارتي بهما غير مثمرة. لا الحب كافٍ، ولا القبول موجود.
كتبت قصيدة قبل عامين أصف فيها هذه الحالة:
«أنا.. اعت… ما.. دية.. مقيتة.
أنا بئر
مهما أعطيتها من ماء
فلن
ترتوي.
أنا
أحتاجك
أحتاجني أكثر»
نشرتها في كتابي الثاني «من كُتر شوقي سبقت عمري». وعندما تصفحت الكتاب قريبًا، فوجئت بها.
أنسى كثيرًا، لذلك عندما وجدتها دُهِشتُ أنني نشرتها، ثم شعرت بإشفاق على نفسي: لماذا كنت هذه الطفلة في جسم بالغة؟ بعدها مباشرة ابتسمت: لم أعد كذلك. ربَّتُّ على الطفلة واحتضنتها، ثم أرسلتها إلى الفراش قريرة هانئة. لا أريدها أن تستيقظ ثانية. أنا الآن أواجه الحياة كشخص ناضج، أنا كبيرة.
ما حدث أنني تغيرت.
يقول لي طبيبي النفسي إنني مهما حصلت على حب الآخرين فلن يكفي: يجب أن ينبع من داخلي، أن أحب نفسي جدًّا وتمامًا، كما هي، دون قمع أو محاولات للتواؤم، كمن يحاول حشر مربع داخل دائرة.
لم أصدقه في البداية. كيف أحب نفسي؟ يعني، ماذا يحدث؟ أجدني جميلة كما أنا؟ كما أنا دون محاولات مضنية للتنحيف أو تفتيح وجهي؟ دون زوج ونصف دستة أولاد؟ دون وظيفة يومية تسحب الحياة من داخلي سحبًا؟ زي ما أنا كده والله العظيم؟
الحقيقة أنني كنت أرى نفسي بعيون من حولي: الأهل وزملاء العمل والأقارب وبعض الأصدقاء، من يسمونهم «المجتمع». في نظر المجتمع كنت إنسانة فاشلة: لم تتزوج بعد، ولم تنجب، وتكبر في العمر، والفرص تفوتها، وغير مستقرة في وظيفة.
أهلي كانوا يتعاملون معي كأني في انتظار الموت: حياتي انتهت، ولم يعد فيها أي متسع لمزيد من الأحداث. أحاطتني كآبتهم، إغلاقهم الحياة دونهم ودوني، الزهد في كل الأشياء الجميلة أو المحاولات أو التجارب الجديدة، كآبة من يجد لديه شخصًا يعاني من مرض لا يُرجى شفاؤه، وينتظر أن يموت ليرتاح ويرتاحوا.
لكن حياتي لم تنتهِ، والاكتئاب يُرجى شفاؤه وإن طالت معركته.
الطبيب الذي يباشر علاجي أعطاني أملًا في أنني طبيعية تمامًا، لم أفقد عقلي بعد.
ما حدث أنني وجدت طبيبًا متفهمًا يمكنه إفادتي. لم تكن الرحلة سهلة، عرَّجت على خمسة أطباء قبله، اشتركوا جميعًا في صفة واحدة: لا يسمعون، وإذا سمعوا لا يفهمون. وبقية الصفات تنوعت بين صرف ألمي باعتباره غير ضروري وليس مفيدًا لرحلتي، أو أنه «قدَر»، ولا يمكن للإنسان الهروب من قدره.
أنا مؤمنة، وعليَّ الاستسلام لأي أذى. لا مهرب من التعاسة، ومن غير الواقعي تصوُّر حياة دون تعاسة. وتجارب الطفولة، مهما تكن مؤلمة، فالرد الوحيد الممكن: «معلش». والدواء وحده سيحلُّ أي مشكلة، لأن الكلام أو اكتشاف الماضي مجهود غير مثمر.
يحلُّ ماذا بالضبط؟ أحتاج إلى سلوكيات عملية أطبقها للخروج من مختلف المواقف الضاغطة بأقل الخسائر. كنت أشعر بأن هناك خطأ ما: هل هم لا يعرفون كيف يتصرفون مع ما يسمعون من شكاوى، أم إن العيب فيَّ؟
لكن الطبيب الذي يباشر علاجي الآن أعطاني أملًا في أنني طبيعية تمامًا، لم أفقد عقلي بعد. إنه طيب وعطوف، لا يصرف الألم لمجرد أنه لم يمر به، أي إنه قادر على «المواجدة». إضافة إلى ذلك، فهو ذكي وواسع الاطلاع، ومهتم بالفلسفة والأدب، وقادر على إيجاد الحلول، خصوصًا غير التقليدية.
لكن أكثر ما أفادني بالفعل في طريقته العلاجية التي يتبعها معي، مزجه أسلوبين: «العلاج المعرفي السلوكي» و«العلاج النفسي الدينامي».
الأول يعتمد على استنباط أنماط التفكير والمشاعر التي تؤثر في التصرفات، والثاني على معرفة أثر خبرات الطفولة في تكوين شخصيتي وأفكاري وردود أفعالي الحالية.
من الصعب تجاهل أثر عدد من المواقف التي مررت بها على مدار سنوات عمري، لأنها شكَّلتني على ما أنا عليه الآن. ولذلك، لو اشتغلنا على كل هذا وحاولنا تغييره ليؤتي الثمار التي ننتظرها، ربما نحصل على نتيجة مُرضية، وحياة أقل ألمًا. ربما.
في إبريل 2018، بدأت كتابة سلسلة من الرسائل إلى عدد من أصدقائي، اخترت فيهم تمتعهم بالتعاطف والمحبة.
كتبت لهم في أول رسالة أنني خائفة جدًّا، ولا أعرف السبب. بعد عدة رسائل كتبت أنني جميلة جدًّا. كتبت، في جرأة مبعثها الاختباء خلف الشاشة تقريبًا، أنني جميلة وذكية وناجحة وخفيفة الظل، وأحب صُحبتي، وأسعى إلى أن أكون مع ناس أستمتع بصحبتهم، وأنني أحبُّني جدًّا. بالظبط كده.
ما الذي حدث؟
الذي حدث أنني غيرت السياق: كنت محاطة أكثر من اللازم بأشخاص يكرهون المشاعر، لا يعترفون بوجودها، وإذا لاحظوها لا يستطيعون التعامل معها، يقللون من شأنها ويرونها عيبًا ومدعاة للخجل والمداراة، بحلوها ومُرِّها.
خرجت منه ووضعت نفسي في بيئة مغايرة، أو بتعبيرات أخرى: حصلت على استقلاليتي، عشت وحيدة.
لم أعد أنتظر حبًّا لن يأتي من أهل لم يعتادوا التعبير عن مشاعرهم أو الاعتراف بها.
تقول الكاتبة الإنجليزية «فيرجينيا وولف»: «على المرأة أن تملك مالًا وغرفة لها وحدها إذا أرادت الكتابة». أرى نفسي كاتبة، وأومن بأن هذا سيكون أكثر سهولة إذا حصلت على بعض الحرية والخصوصية.
التغيير المذهل الذي حصل لي في أقل من عام، من مايو 2017 وقت نشر التجربة الأولى المتعلقة بالمراحل الأربع، إلى مايو 2018 بعدما قضيت نحو ستة أشهر في منزل يخصني وحدي، إلى التجرُّد من السياقات المقيِّدة.
في منزلي الذي زينته ورتبته بنفسي، لم أكن محاطة سوى بأشيائي: حاجياتي التي جمعتها على مدار السنين، الأشياء التي اشتريتها بانتظار العريس، ثم بانتظار افتتاح مكتبي، وكانت مركونة والتراب يأكلها، فأخرجتها ووضعتها واستخدمتها. في ذلك البراح، ظهرتُ كما أنا.
أقول إن أفضل ما فعلَته تلك التجربة أنها أظهرت نفسي الحقيقية، دون محاولة الاختباء أو الادعاء أو صد الهجمات المتتالية. حينها، نبت الحب من داخلي، نحوي. صرت أحبني.
لم أعد أنتظر حبًّا لن يأتي من أهل لم يعتادوا التعبير عن مشاعرهم أو الاعتراف بها، لم أعد أعرِّف نفسي بمعطياتهم، لأنهم لا يريدون سوى المشي على قضبان لا نحيد عنها.
وجدتني حلوة كما أنا، ولست «جميلة، لكن لو يحصل كذا»، بشروط لا تنتهي.
هل أنا بالفعل مختلفة عما كنته قبل سنة واحدة؟
نعم. لم أعد أعرِّف نفسي كضحية. صحيح أن ما حدث في حياتي كثير، وأن الابتلاءات المصابة بها ليست هينة، لكني لست ضحية. سأكمل معاركي حتى النهاية، وأمشي في طريقي مرفوعة الرأس.
استغرقت وقتًا طويلًا ومجهودًا عظيمًا حتى أصل إلى هذا الإدراك، مني ومن الطبيب النفسي الذي صحبني خلال تلك الخطوات.
«لن أحمل نفسي على الموت
وحين أتجه إلى قبري، ستكون رأسي مرفوعة.
دعني أمُتْ واقفًا
قبل أن أُدفَن في عمق الأرض»
من أغنية «Let Me Die in My Footsteps» (دعني أمت واقفًا) لبوب ديلان.
رزان محمود