صورة معكوسة لإدوارد سعيد: عدو الاستشراق في عيون نقاده العرب
منذ صدوره قبل 40 سنة، أي 1978، خلق كتاب «الاستشراق» للمفكر الفلسطيني إدوارد سعيد، ضجة منقطعة النظير. وفي كل أقطار الأرض أثار هذا الطرح الفريد سجالات لم تنته إلى اليوم، إذ كان عمل إدوارد سعيد فريدًا من نوعه لدرجة تشبه تأثير كتابات ماركس وكانط وهيغل. فوقعه الصادم لا يختلف عن وقعها.
في الغرب، تبنَّاه المثقفون اليساريون الأكثر رديكالية. وفي الشرق، إضافة إلى علميته، فإن النظر إليه اختلف بشكل ملحوظ ما دام يغازل عاطفة العروبة، وبالتحديد العاطفة العصبية التي تولدت عن انكسارات متتالية لا عن انتصار.
مات إدوارد سنة 2003 تاركًا وراءه إرثًا جليلًا ما زال يخلق الجدل إلى يومنا هذا. سنحاول رسم طيف إدوارد سعيد، أو فهمه من خلال صورة سالبة، معكوسة الألوان، دون الوقوع في إعادة كتابة سيرة ذاتية، أو فكرية. نكتب عنه هذه المرة من خلال نُقَّاده العرب.
الاستشراق: مقدمة قصيرة جدًّا
تتكئ دراسة إدوارد سعيد في استشراقه على هوية الذات والموضوع في الدراسات الإنسانية، أي إن الإنسان في هذه الحقول المعرفية يدرس نفسه، ومن ثَم لا يمكن أن تكون الدراسة «موضوعية» أبدًا.
إضافة إلى ذلك، تستند دراسة سعيد إلى تصور «ميشيل فوكو» القائل إن «المعرفة ممارسة سلطوية». أي إن فعل المعرفة في ذاته ممارسة تطويع الذات لموضوعها في العقل، ليدخل في مجال هيمنتها في الواقع، فقد انتهت تحليلات فوكو إلى أن المعرفة مدفوعة أساسًا بالرغبة في تصنيف الموضوعات وتنظيمها في أطر نظرية، تجعل السيطرة عليها ممكنة.
«على هذا الأساس كانت تتمحور نظرة الغرب إلى الشرق»، هكذا يخبرنا سعيد، أي إنها إرادة سلطوية كامنة في خطاب يدَّعي المعرفة المحايدة، وفي الدراسات الاستشراقية تَحدَّد الشرق باعتباره نطاقًا ثقافيًّا هامشيًّا بالنسبة إلى الغرب، واقع تحت يده، وداخل في هيمنته. أي إنها تحول «الشرق» إلى موضوع للدرس والتحليل من أجل الهيمنة عليه، وذلك بتقديم صورة مختزلة ومشوَّهة عنه.
يستهل إدوارد تقديمه كتابه بإيضاح صورة الشرق الطاغية عند الغرب، مقتبسًا من صحفي فرنسي زار بيروت إبان الحرب الأهلية، قوله: «كان مظهرها يوحي في يوم من الأيام بأنها تنتمي إلى الشرق الذي وصفه كلٌّ من شاتوبريان ونيرڤال»، أي الشرق كما تخيله أدب الرحلات الغربية وفن الرواية الفرنسية، شرق رومانسي فنتازي غرائبي، يشكل نقيضًا للغرب العقلاني البارد، كأرض مشحونة بالسحر والعجائب.
يرى سعيد أن الاستشراق الغربي ليس ممارسة معرفية ذات نتائج معتمَدة تتطور وتتراكم بصورة تدريجية، وإنما معرفة متغيرة باطراد مع حركة التاريخ.
يتساءل إدوارد سعيد: «ربما لم ير الصحفي أن الشرقيين أنفسهم يهمهم ما حدث (...) وأنهم هم الذين يتعرضون للمعاناة»، ثم يستنبط أن حرص الصحفي الأوروبي «لم يكن يعني إلا الصورة الأوروبية التي تتمثل الشرق، وما آلت إليه الآن»، وهو يرثى انهيار صورة الشرق كما عرفه الخيال الفرنسي، لا انهيار شرق فعلي يتكون من بشر من لحم ودم. كان الاستشراق في رأي سعيد إذًا يتعاطى مع موضوع أدبي اسمه «الشرق»، لا مع منطقة جغرافية حقيقية.
لا يستند هذا الاستشراق على خيال أدبي جامح ليس له قواعد فقط، وإنما محاولات دؤوبة للحفاظ على صورة بعينها للشرق، لأن هذه الصورة، في رأي سعيد، هي التي تهب إلى الغرب هويته باعتباره نقيضًا لهذه الصورة. فإذا كان المستشرقون كوَّنوا تصورًا عن غربهم باعتباره عقلانيًّا وتقدميًّا وإنسانيًّا، فقد افترض الشرق نقيضًا لهذا التصور من أجل تأكيده، باعتبار أن الشيء يتحدد ويُعرف أساسًا من خلال نقيضه، وهي فكرة تجد أصلها عند هيجل.
هكذا يقدم المفكر الفلسطيني فهمه للاستشراق، الذي يقصد به ذلك النزوع المعرفي الغربي نحو الشرق، مدفوعًا من جهة بالرغبة في السيطرة التي تقدم نفسها كما لو كانت معرفة موضوعية، وهي الفكرة الموروثة عن فوكو، ومدفوعًا كذلك بالحاجة إلى تحديد هوية الغرب من خلال نقيضه، وهي الفكرة التي يطورها الفيلسوف الفرنسي «جاك دريدا» بعد ذلك بصورة أكثر استفاضة.
يغوص سعيد في مجموعة كبيرة من نصوص أخذت الشرق موضوعًا لها بالضرورة، كاشفًا عن ماهية استشراقها، ضاربًا المثل بأقوالهم، بداية من «أسخيلوس» في مسرحيته «الفارسيات» في زمن الإغريق، مرورًا بـ«دانتي» في «الكوميديا الإلهية» في العصور الوسطى، وانتهاءً بالأدب الفرنسي الحديث، إذ يبرز الاستشراق بجلاء في القرن التاسع عشر عند «فلوبير» في «رحلة إلى الشرق» وعند «إرنست رينان»، وكذا عند الحاكم العام البريطاني «بلفور»، وحتى «كارل ماركس».
يرى سعيد أن الاستشراق الغربي ليس ممارسة معرفية ذات نتائج معتمَدة تتطور وتتراكم بصورة تدريجية مثلًا كما يحدث في العلوم الطبيعية، وإنما معرفة متغيرة باطراد مع حركة التاريخ، بدءًا من الزهو الملحمي في التراجيديا الإغريقية الأولى التي عادة، إما تجاهلت الشرق وإما اتخذت تجاهه مواقف عدائية مرتبطة بالظرف السياسي الآني، وصولًا إلى الحج المعرفي في وقت متأخر من القرن التاسع عشر وبداية العشرين، والذي طوَّر انبهارًا غربيًّا بالشرق ومحاولة فهمه.
ذلك الانبهار الغربي الذي يستبطن في رأي سعيد أيديولوجيا استعمارية، جعلت الشرق يبدو عجيبًا وجذابًا وكأنه ينادي المغامرين الغربيين لاسكتشافه وامتلاكه.
إلى أي غرب تشير بوصلة إدوارد سعيد؟
يقول إدوارد سعيد في الاستشراق: «كان ما حققه المستشرقون الأوائل، وما استغله الذين لم يكونوا مستشرقين في الغرب، نموذجًا مصغرًا للشرق ملائمًا للثقافة السائدة والطاغية، وتفسيراتها النظرية».
حسب إدوارد سعيد، يبقى الغرب غربًا في نظرته للشرق، ومهما يختلف الفكر الغربي في علاقته مع الشرق، يظل محكومًا ببنية ثقافية تجعله استشراقيًّا.
قد ينتفي في البدء أي اختلاف مع قول كهذا، غير أن تمحيصه ضرورة لدحض إغرائه المبدئي، والانفلات من أثره المفاجئ والمدغدغ لمشاعر الهوية التي تؤثر بالضرورة في ذهن قارئها العربي.
بتعبير أبسط يقول سعيد إن الشرق في متون المستشرقين، شرق وفق الثقافة الأوروبية السائدة، لا يخرج عنها. في هذه الحالة يلح السؤال: أي ثقافة غربية يتكلم عنها إدوارد؟ وكيف يتصورها؟ هل هي ثقافة واحدة متجانسة؟ أم عدة ثقافات لها منطلقات وأسس مشتركة؟ أم عدة ثقافات متباينة ومتصارعة أحيانًا؟
تظهر الثقافة الغربية في نص إدوارد سعيد مغلقة على ذاتها، بطريقة تجعلها مهيمنة على النشاطات الفكرية الفردية الواقعة داخلها، فتحدد هذه الثقافة منطلقات كل نشاط فكري ونتائجه. لا يمكن للفرد المفكر داخل هذه الثقافة إذًا أن يخرج عن إطارها العام، ما يعني أن كل مفكر أوروبي يدرس الشرق هو بالضرورة مستشرق، لأنه خاضع للشروط العامة التي ترسمها هذه الثقافة.
هكذا، حسب إدوارد سعيد، يبقى الغرب غربًا في نظرته للشرق، ومهما يختلف الفكر الغربي في علاقته مع الشرق، يظل محكومًا ببنية ثقافية تجعله استشراقيًّا، حتى إذا انبعثت لنا، بين حين وآخر، من داخل هذه الثقافة، مواقف استثنائية، لن تكون قائمة إلا على «الشراكات اللامتساوية بين الشرق والغرب»، وهي في جوهرها، بعد مزيد من التحليل، استشراقية على مستوى أعمق. وتظهر هذه الرؤية بالذات في تحليل سعيد لموقف كارل ماركس.
إن مفهوم كارل ماركس عن «النظام الاقتصادي الآسيوي»، والاغتراب الذي أحدثه النظام الاقتصادي الرأسمالي المنقول عبر الاستعمار البريطاني لهذه البلدان، يُظهر فيه تعاطفًا ماركسيًّا مع الشرق المستعمَر، لكنه في المقابل يرى في الرأسمالية الاستعمارية قدرة على إنضاج الشروط الطبقية للثورة الاجتماعية في الشرق، أي إن الاستعمار مرحلة ضرورية لتحديث الشرق وتجهيزه للثورة. يعني هذا، بحسب سعيد، أن كارل ماركس نفسه دافع عن الاستعمار الغربي للشرق.
هكذا يخلص إدوارد إلى أنه «ليس في وسع أي باحث (...) أن يقاوم ضغوط أمته، ضغوط التقليد البحثي الذي يعمل في سياقه»، وينتهي بنا تحليله إذًا إلى ثقافة غربية هائلة الوطأة، مستشرقة بالضرورة، ويستحيل على أي مفكر مفرد أن ينخلع عنها أو يتجاوزها.
ثقافة غربية أم ثقافات غربية؟
يوجه مهدي عامل سلاح نقده إلى «الاستشراق»، إذ إن تصوره للغرب لا يشمل أي تناقضات طبقية أو اجتماعية.
ما يعيبه المفكر اللبناني مهدي عامل على إدوارد سعيد، في استشراقه، نفيه صفة الطبقية والتعدد عن الفكر الغربي.
يقول عامل في كتابه «هل القلب للشرق والعقل للغرب؟»، إن نص سعيد لا يحدد طابع هذه الثقافة «الطبقي التاريخي، بل يكتفي بالقول عنها إنها ثقافة الغرب، أو الثقافة الأوروبية الغربية»، هكذا كما لو كانت كُلًّا متجانسًا.
يسترسل عامل مبينًا خلل هذه الرؤية: «بانتفاء طابعها الثقافي التاريخي في تحديدها السعيدي هذا، تنتفي إمكانية وجود نقيض لها، فتكتسب، بهذا الانتفاء طابعًا شموليًّا تحتل به كامل الفضاء الثقافي». يؤدي نقد سعيد للاستشراق، بطريقة طريفة، إلى تجميد الثقافة الغربية وإغلاقها على ذاتها، بالضبط كما يفعل الاستشراق نفسه مع الشرق عندما يتخيله كُلًّا متجانسًا لا مساحة فيه للتنوع أو الصراع.
انطلاقًا من هذه الملاحظة الدقيقة يوجه مهدي عامل سلاح نقده إلى «الاستشراق»، إذ إن تصوره للغرب وثقافته، بما هو تصور لا يشمل أي تناقضات طبقية أو اجتماعية، يمنح، ضمنيًّا، شرعية السيادة لثقافة البرجوازية الأوروبية، لأن سعيد ينكب على ثقافة هذه البرجوازية بالتحليل، ثم يقدمها باعتبارها مجمل الثقافة الغربية، لا مجرد جزء منها، في حين يطمس وجود ثقافة غربية مناهضة ترتكز على أساسات طبقية مناوئة.
وهذا التحليل يهب إلى البرجوازية الأوروبية شرعيتها التي تتمناها، عندما تقدم نفسها ممثلًا للغرب في كليته.
على هذا الأساس يتضح التبسيط الذي قارب به إدوارد سعيد الثقافة الغربية، من منطلق أنه ثقافة كلية واحدة، متجاهلًا واقعها المادي التاريخي والاجتماعي المتنوع، الذي يجعلها بالضرورة حقلًا مليئًا بالتناقضات المعقدة، لا كتلة واحدة كما يراها سعيد، تشمل ماركس كما تشمل بلفور، كما لو كانا متفقَيْن في العمق رغم اختلافهما الظاهر.
نظرة سعيد إلى الثقافة الغربية على أنها ثقافة واحدة سائدة، وضعه في التباس أمام قراءة ماركس. فمن ناحية يرى عنده تعاطفًا مع الشرق في كلامه عن الاغتراب الرأسمالي الناتج عن الاستعمار في مجتمعات شرق آسيا، ومن جهة أخرى يتهمه بالمركزية الثقافية الغربية بسبب إقراره بضرورة هذه الرأسمالية لإنضاج شروط الثورة الشعبية.
يعني هذا بالنسبة إلى عامل أن إدوارد يضع النص الماركسي بين ثنائية القلب المتعاطف مع الشرق والعقل المنحاز للغرب، ما يؤدي إلى فكرة غريبة، مفادها أن كل ما يكتبه أي مفكر أوروبي من قلبه موافق للشرق، بينما المعادي هو كل ما كتباه من العقل، وكأن سعيد يعيد إنتاج ثنائية الاستشراق نفسها، إذ يرى في الشرق بؤرة للروحانيات والعاطفة، يختلف عن المادية الغربية الباردة، وهذا أساسًا هو التصور الأساسي الذي يعتمده المستشرقون.
بالنسبة إلى مهدي عامل إذًا، وقع سعيد نفسه في فخ الاستشراق مرتين، مرة عندما أعاد إنتاجه في تصوره عن الغرب كما لو كان كُلًّا ثقافيًّا متجانسًا، لا مساحة فيه للتنوع أو الاختلاف، ومرة أخرى عندما اختزل التصورات المنحازة للشرق إلى «العاطفة»، بدلًا من أن يفهمها باعتبارها منطلقة من تعدد داخل الثقافة الغربية نفسها، وهو يؤكد بذلك ارتباط هذه العاطفة بالشرق، عكس العقل، الذي ينتج دومًا مواقف منحازة للغرب، كما لو كان العقل غربيًّا والقلب شرقيًّا، وهذا موقف استشراقي في رأي سعيد نفسه.
الاستشراق معكوسًا: إدوارد سعيد في زمن قلق
شهد الشرق الأوسط والعالم في نهاية سبعينيات القرن العشرين أحداثًا في مجالات اجتماعية وسياسية مختلفة، اجتمعت كلها في تشكيل مناخ هذه المرحلة المفصلية، التي ميزها خصوصًا بداية الأفول التدريجي للماركسية على خارطة الصراع العالمي.
تعاظمت حدة الصراع البارد بين قطبي العالم وقتها، وغرق في بقعة دم موحلة، أي الحرب الأهلية التي مثلت تناحر قطبي العالم وقتها، في تجسيد ساخن لحرب باردة، واندلعت حرب أفغانستان الأولى ضد الاجتياح السوفييتي، بسواعد المجاهدين، ما أعاد بعث مفاهيم الحرب الدينية من أزمنة الفتوحات الإسلامية، بمباركة أمريكية هذه المرة.
انفلتت في ذات اللحظة التاريخية الدقيقة الأمور من يد الغرب، بسقوط طهران في يد الملالي (الثورة الإيرانية)، ذوى الخطاب الملتبس وقتها، فلا هم يساريون تمامًا بمناهضتهم الحضور الغربي، ولا يمينيون على الطريقة التي عرفها الغربيون.
أما على المستوى الثقافي، فقد واكب تلك الأحداث السياسية تحولات فكرية جذرية، أعني بذلك صعود نجم ما بعد الحداثة، المرتدة عن التيار الماركسي الأرثودوكسي الذي خرجت منه، فتأسست خطوط تحررية ذات منطلق يساري، لكن في نفس الوقت، مناهضة بعنف للسلطوية الشيوعية كما عرفها الاتحاد السوفييتي.
زد على ذلك، خروج «استشراق» إدوارد سعيد الذي سلط الضوء على نظرة الغربيين إلى الشرق، بمن فيهم رموز الأيديولوجيا التحررية التي كانت، حتى تلك اللحظة، منارة التنوير والمقاومة العربية لهيمنة الغرب.
كل هذا يضع الاستشراق في نقطة حرجة من تاريخ القرن العشرين، إذ كان الاستشراق واحدًا من عدة مقدمات أسهمت في تحولات أيديولوجية كبيرة في العلاقات الدولية، يرى نقاد سعيد أنها أعطت أساسًا نظريًّا للحركات الأصولية.
خلقت الأحداث التاريخية التي عرفتها المرحلة، حالة من الخفوت لنجم التحرر الشيوعي في الثقافة والنشاط السياسي العربي والإسلامي، وساعدت حملات النقد المتتالية والشرسة على الماركسية، في صعود أيديولوجيات موازية، تشترك معها في الهدف، غير أنها تختلف عنها في الارتكاز على الخصوصيات المحلية (مثل العروبة والإسلام)، بدل المفاهيم الكونية ذات الطابع الإنساني أو الاجتماعي العام (مثل الطبقة العاملة أو الفلاحين).
يرى المفكر السوري صادق جلال العظم أن الاستشراق سقط في «نفخ» غير مقصود لهذه الأنا الشرقية، وذلك بالتأكيد على الاختلاف الأساسي بين الشرق والغرب، لذلك حشد أكبر عدد لهذه الأيديولوجيات الخطأ حسب رأيه، وهذا ما أطلق عليه تعبير: «الاستشراق معكوسًا».
استطاع إدوارد سعيد رصد انزلاقات الفكر الغربي في محاولته لفهم للشرق، غير أنه وقع كذلك في تعميم وتسطيح لفكر هذا الغرب نفسه.
الاستشراق المعكوس عند جلال العظم فئتان: الأولى هي تلك التي تُجري قطيعة مع الغرب، بقلب قِيَمه، فتضع «العقل العربي» مركزًا لعقل غربي هامشي، والفئة الثانية هي «النموذج الديني السلفي المتجدد الذي تبلور ولقي رواجًا تحت تأثير الإنجازات الكبيرة للثورة الإيرانية»، كما يصفها في كتابه «الاستشراق والاستشراق معكوسًا».
تستمد هذه الفئة الثانية أبرز دُعاتها من أوساط يسارية، وتتلخص أطروحتها وفق العظم في أنه: «لا يكمن الخلاص الوطني الذي ظل العرب يبحثون عنه منذ الحملة النابليونية على مصر في القومية العلمانية، بأشكالها الراديكالية أو الليبرالية أو المحافظة. ولا يكمن في الشيوعية أو الاشتراكية الثورية أو ما شابه ذلك من النظم والدعوات، بل في العودة إلى الأصالة الإسلامية، وبخاصة كما تتجلى في الإسلام الشعبي المسيس».
يمثل هذه الفئة عدد كبير من المفكرين اليساريين الذين تحولوا، خصوصًا في السبعينيات، إلى تبنِّي مقولات إسلامية، مثل عبد الوهاب المسيري وحسن حنفي ومحمد عابد الجابري. يعزز جلال العظم طرحه بحجج مختلفة، ويلخص المواقف التي يرى أنها نتجت عن نقد إدوارد سعيد للاستشراق في ست نقاط:
- تناقُض الشرق والغرب بنيوي، ولا يقتصر فقط على الاختلاف الأيديولوجي
- تقدُّم الشرق لا يقاس بمعايير غربية، بل وفق خصوصيته الذاتية
- عدم القدرة على تفسير الشرق باعتماد نظريات علم الاجتماع الغربي
- محرك التاريخ في الشرق ليس ماديًّا، أي ثقافي وروحي ديني
- السبيل الوحيد لنهضة الشرق في التركيز على خصوصيته الثقافية والدينية، أو بمعنى آخر، لا خلاص خارج الإسلام
- الحركات التي ترفع شعار «العودة إلى الإسلام» تقدمية، لأنها تصارع المفاهيم الغربية التقليدية عن التقدم، وهي مفاهيم استشراقية إذا طُبقت على الشرق
لم يبق هذا الوعي الاستشراقي المعكوس حبيسًا في نطاقه الشرقي، بل تسرَّب إلى مدارس البحث الغربية، بحيث برزت من داخلها أصوات افتتنت بخطاب التحرر الإسلامي.
مثَّل هذه التيارات بوضوح ميشيل فوكو في تقريره عن الثورة الإيرانية، وعلق عليها المفكر اللبناني جلبير أشقر، في مقال بعنوان «تيارات ما بعد العام 1979 في الدراسات الإسلامية الفرنسية»، قائلًا: فوكو كان مفتونًا بما اعتبره بحثًا عن «الروحانية»، وخلط من جهة بين ما سمعه من الليبرالي نسبيًّا آية الله محمد كاظم شريعتمداري، الذي تحول لاحقًا إلى خصم شرس لآية الله الخميني، ومن جهة أخرى حقيقة الحركة «الخمينية». ما دفع فوكو إلى أن يعلن، بسذاجة، أن المرتكزات الأساسية للديمقراطية يمكن العثور عليها في الإسلام الشيعي، وأن ذلك هو ما يعنيه فعلًا برنامج الحكومة الإسلامية.
لا أحد يشك في نبل مقصد الاستشراق رغم ثغراته المنهجية. استطاع إدوارد سعيد رصد انزلاقات الفكر الغربي في محاولته لفهم للشرق، وهي الانزلاقات التي تنم عن أيديولوجيا كولونيالية، غير أنه وقع كذلك في تعميم وتسطيح لفكر هذا الغرب نفسه، عندما رأى الثقافة كلًّا واحدًا هي ثقافة من يسود، فتجاهل واقع الثقافة الأوروبية وتنوعها.
سفيان البالي